عراقيون في القلب سيرة لجيلِ الحداثةِ جليل العطية
د. موج يوسف | ناقدة أكاديمية من العراق
(إنني مزمع تأليف كتاب يتضمن سير لأعلام من رجال الفكر والشعر والأدب ممّن أدركتهم أو عرفتهم وأحببتهم). قالها الدكتور العطية قبل عشرين ونيف عاماً إلى الشاعر مصطفى جمال الدين ، وبالفعل صدر هذا الكتاب مؤخراً عن دار المدى في بغداد عام 2020 بعنوان (عراقيون في القلب) إذ يتضمن على واحد وثلاثين سيرة مترجمة لرواد الأدب والفكر والثقافة في العراق ولاسيما في مرحلة ازدهر فيها الفن والجمال وظهر على الساحة الكثير من الأسماء العظمية التي نُقشت حروفها على حجر الثقافة العراقية بل وحتى العالمية، وهؤلاء رافقوا العطية وجمعتهم الهموم المعرفية والاجتماعية ومنهم لم يدركوه العطية لكنه بحث عن سيرتهم عند أهلهم واصدقائهم.
ونشير إلى منهجية المؤلف التي اتبع فيها مساراً مغايراً عن منهجية الترجمة والسيرة هي أن الدكتور قد ترجم للكثير من الأعلام ونشرها في صحف متعددة لكن في هذا الكتاب أقتصر على ترجمة سيرة ممّن أحبهم وهذا سبب تسمية الكتاب بـ(عراقيون في القلب) لكنه في الترجمة أتبع الطريقة القديمة هي حسب تسلسل الوفيات لكلِّ علم من الأعلام.
كذلك نرى الدكتور العطية قد نبه القارئ في تقديمه للكتاب أنه ذكر الوجه الإيجابي لهذه الصفوة، وقد ترجمها من باب المديح لأنه يرى أنهم ((كرسوا حياتهم لخدمة المجتمع والناس فإن كان لفئة منهم أخطاء أو سلبيات اترك الحديث عنها وتقويمها لغيري من الكتّاب والباحثين .. ص 10)).
وعند قراءتنا لهؤلاء الأعلام وجدنا أغلبهم قد أُحيلوا إلى التقاعد المبكر وكرسوا أنفسهم للبحث والتأليف كعبدالرحمن التكريتي الذي نال رتبة العميد في الجيش وأحال إلى التقاعد وشغل نفسه في التأليف وتولى عضوية الهيأة الإدارية لاتحاد المؤلفين والكتّاب العراقيين وشغل نفسه في البحث إلى رحيله في بغداد.
السيرة تضم واحدا وثلاثين ترجمة وجيزة لمن عاصرهم المؤلف ولمن ماتوا هم الشاعر الكبير محسن الكاظمي الذي توفى 1935 قبل مولد العطية لكنه التقى بابنته الشاعرة والدكتورة رباب الكاظمي في لندن عام 1985 وقد زودته ببعض المعلومات حينما كان الكاظمي بمصر ومنها عندما زاره الشاعر احمد شوقي عندما توفيت زوجته ـــــ الكاظمي ـــــ إذ شرع بعد التعزية في الحديث عن مشروعه الخاص وأنه سيكرم بلقب أمير الشعراء ((ثم أخرج من سترته البيضاء مظروفاً وقال هذه هدية رباب خمسمائة جنيه دسها تحت الوسادة فضحك أبي وقال: قد حسبتُ أنك جئت للتعزية وتفقد صحتي ما كنت اظن أنك جئت لشراء ذمتي .. ص 17)).
وهذه نقطة هامة توضح الجانب الأخر من حياة الشعراء فوضح الجانب الإيجابي لشاعر رفض بيع ذمته مقابل موقف الشاعر شوقي السلبي والالقاب التي تمنح لمن لا يستحقها . والأخر أنستاس ماري الكرملي الذي توفى عام 1948 أدركه العطية لكن لم يرزق معرفته وحسب ما ذكر قد ربطته به صلة روحية عندما اقتنى مجموعة مطبوعات من أحد باعة الأرصفة في سوق السراي في بغداد ومن بعدها تعرف المؤلف على الكثير ممّن تربطهم صلة به وبدأ يكتب عنه ونشر مقالاً في مجلة الأديب اللبنانية عام 1962 مطالباً بإحياء تراثه ونشره.
ولا من الإشارة أن العطية في ترجمته لباقي معاصريه قد اتبع منهجاً اخر يذكر سيرة كل مبدع بشكل موجز وعام ثم جعل خانة صغيرة بعنوان الذكريات يسرد فيها ذكرياته مع هؤلاء أصحاب السير ، عند ترجمته للسياب مثلاً يذكر لنا أنه تعرف عليه في المرحلة التي كان الأخير ينشر ذكريات سياسية حادة عنوانها (كنت شيوعياً) ويقول العطية ((صادفته يوماً في مدخل شارع المتنبي فجرني معه قائلاً إنه قد تسلم لتوه مكافأة جيدة وهو يريد اقتناء كتاب مهم من مكتبة المثنى فاشترى ديوان ذي الرمة .. تأبط الديوان الضخم فرحاً وسرنا إلى باب المعظم حيث امتطينا الباص الاحمر المتجه إلى الاعظمية فتح السياب الديوان وراح يقرأ بصوت عالٍ قصيدة عينية كان في الباص عدة صبايا اندهشن وتضاحكن وهن يستمعن الى السياب يشدو .. ص 29)) .
ثم وقف المؤلف الدكتور عند محطات كثيرة من الذكريات منها هشام البغدادي الذي أطلق عليه لقب أمير الخطاطين، والشاعر محمد مهدي البصير(شاعر ثورة العشرين) وشمران الياسري (رائد الأدب الشعبي الساخر) وعبدالرحمن التكريتي وجواد العلي، وعبد الحق فاضل (سادن لغة العرب) وكوركيس عواد، وعبد الحميد العلوجي وغيرهم وكانت له وقفة طويلة عند علي الوردي المفكر الديمقراطي إذ جمعته ذكريات كثيرة قبل أن يلتقي به ولاسيما عند إصدار كتابه (وعاظ السلاطين) ومواصلة ما يكتب عن علي الوردي من هجوم وغيره إلى أن غادر العطية الكوت وقرع أبواب رصافة بغداد والتقى به في سوق السراي ومن بعدها توثقت الصلة بينهما.
وفي هذه السيرة نشير أنها قد جمعت بين زمان ومكان كثر ذكره وكان بمثابة الشرارة الثقافية لانطلاقة العطية وعلاقته بالعراقيين الرواد فالزمن الذي جمعه بيهم كان في ستينيات القرن الماضي والمكان بغداد رصافة بغداد بين سوق السراي ومكتبة المثنى وبيت رضا الشبيبي في الكرادة الشرقية.
الكتاب بمجمله فيه مادة ثرية قد عرض الدكتور العطية احداثاً تاريخية واجتماعية هامة تخص الشعراء والكتّاب ومدى ارتباطهم بالحدث العام كذلك حاول المؤلف أن يجرد نفسه من كلمة (أنا) فاعتذر مسبقاً عن ذكرها لأنه في مقام المدح لترجمة وكتابة سيرة الرواد وهذا المقام يستوجب التحرر من أناه . ويمكن القول إن هذه السيرة السردية هي أدبية وتاريخية للجيل الحالي وما بعده اي أنها للحاضر والمستقبل.