جميل السلحوت يكتب:” مرحلة عشتها” من أدب الرحلات والسيرة الذاتية (2)
سوق العمل الإسرائيليّ
أكثر من 85% من أبناء الأرض المحتلة كانوا يعتاشون على الزّراعة العفويّة، التي تعتمد على مياه الأمطار غير المنتظمة وغير المضمونة، فمعروف أنّ منطقة شرق البحر المتوسّط، ومنها بلادنا فلسطين تخصب بمعدّل سنة من كلّ أربع سنوات. كما أنّ أجرة عامل البناء والورشات كانت قبل الحرب تتراوح بين 25-40 قرشا أردنّيا في اليوم –حسب مهنته- .
وبعد الحرب مباشرة، وما حقّقه الجيش الإسرائيليّ من نصر غير متوقّع، انهالت أموال التّبرّعات اليهوديّة على اسرائيل، وظهرت حركة بناء واسعة جدّا، وفتح باب سوق العمل الإسرائيليّ أمام الأيدي العاملة من أبناء الأراضي المحتلّة، وبأجرة يوميّة تتراوح بين 12-25 ليرة اسرائيليّة يوميّا، -الليرة الإسرائيليّة كانت تعادل عشرة قروش أردنيّة-. واستطاعت اسرائيل بفتحها سوق العمل الإسرائيليّ أمام فلسطينيّي الأراضي المحتلة أن تبعدهم عن أراضيهم الزّراعيّة، وهذه قضيّة طويلة لها أسبابها بعيدة المدى، كما لها نتائجها الخطيرة.
لم يجذبني سوق العمل الإسرائيليّ رغم حاجتي للعمل، وضرورة وجود دخل لديّ، وكلّ ما يهمّني كان يتمركز حول ضرورة الخلاص من هذا الاحتلال البغيض بشكل سريع؛ كي يتسنّى لي استكمال تعليمي الجامعيّ. كنت أمنّي النّفس -كما غيري- بأنّ هذا الاحتلال سينتهي خلال أيّام قليلة، وأكثر النّاس تشاؤما كان يراهن على أنّ الاحتلال لن يدوم حتّى بداية العام 1968.
إضراب المدارس
في اليوم الأوّل من شهر أيلول-سبتمبر- بدأ العام الدّراسيّ الجديد 1967-1968م، وبناء على قرار الضّمّ طبّقت اسرائيل المنهاج الدّراسيّ الإسرائيليّ على مدارس القدس العربيّة، ممّا دفع اتّحاد المعلّمين السّرّيّ والذي تشكّل بعد الاحتلال إلى إعلان الاضراب، وعدم عودة الطالبات والطّلاب إلى مدارس القدس، كرفض للمنهاج الدّراسيّ الإسرائيليّ، في حين التحق الطّلاب بمدارس غلاف القدس التي طُبّق عليها المنهاج الأردنيّ “المعدّل”. وبما أنّ اسرائيل ملزمة بفتح المدارس الرّسميّة في محاولة منها لخداع الرّأي العامّ العالميّ، وكأنّ المواطنين المقدسيّين لم يرفضوا الاحتلال، فقد لجأت إلى تعيين معلّمين جدد من حملة الثّانويّة العامّة، أو ممّن لم ينجحوا فيها، وحتّى ممّن أكملوا الصّفّ الحادي عشر كمعلّمين في المدارس الرّسميّة، ومع ذلك فإنّ الطلبة لم يعودوا في غالبيّتهم لمدارس القدس، ولكم أن تتصوّروا أنّ كبرى المدارس الثّانويّة ” الرّشيديّة” في القدس، كان عدد المعلّمين فيها 33 معلّما، وعدد الطّلاب 32 طالبا، فلجأت المعارف الإسرائيليّة إلى تحويها إلى مدرسة صناعيّة في محاولة لاستقطاب الطّلاب، لكنّها فشلت في ذلك. وبعد دراسات من جانب المحتلين لأسباب عزوف الطّلاب عن المدارس الرسميّة، أعادوا المنهاج الأردنيّ المعدّل” والمعمول به في بقيّة مدارس الضّفة الغربيّة المحتلّة إلى المرحلة الثّانويّة، وبعدها إلى الإعداديّة فالإبتدائيّة، مع الإبقاء على مادتي “مدنيّات اسرائيل” في المرحلة الابتدائيّة، ومادّة اللغة العبريّة للمراحل الدّراسيّة جميعها، لكنّ الطلبة رفضوها كونها لغة المحتلّ. وفي شهر نوفمبر 1967م عاد المعلّمون المضربون عن اضرابهم؛ لأنّ مصلحة الطّلاب تقتضي ذلك.
مدارس الأوقاف:
في محاولة من المرحوم حسني الأشهب، مدير التّربية والتّعليم في القدس قبل الاحتلال، والأوقاف الإسلاميّة التي كان يقف على رأسها المرحوم حسن طهبوب، وجمعيّة المقاصد الخيريّة بمديرها العامّ المرحوم محمود حبّيّة، بدأ العمل على إنشاء مدارس خاصّة لحلّ مشكلة الطّالبات والطّلاب الذين عزفوا عن المدارس الرّسميّة، خصوصا الأطفال منهم الذين لم يكن باستطاعتهم الالتحاق بالمدارس خارج حدود البلديّة المزعومة نظرا لصغر أعمارهم، ونشأت عشرات المدارس، التي لا تزال حتّى يومنا هذا تستوعب أكثر من 40% من عدد الطّلاب.
مع التّنويه بوجود مدارس تتبع وكالة غوث اللاجئين، ومدارس خاصّة متعدّدة المرجعيّات ومنها: الفرير، شمدت، راهبات الورديّة، تراسنطة، دار الطفل العربي، دار الأيتام الإسلاميّة، والإبراهيميّة.
التّفاؤل برحيل الاحتلال
عندما صدر قرار 242 في 22 نوفمبر 1967م عن مجلس الأمن الدّوليّ، استبشرنا خيرا بأنّ الاحتلال سينتهي خلال أيّام. وفي اليوم الثّاني لصدور القرار كنت وصديقي نمرّ من جانب المقر الرّئيس للأمم المتّحدة القائم على قمّة جبل المكبّر، والذي بني عام 1922م كمقرّ للمندوب السّاميّ البريطانيّ، وسلّمته بريطانيا للأمم المتّحدة عندما أنهت انتدابها على فلسطين مع قيام اسرائيل في 15 مايو 1948م؛ ليكون حتّى يومنا هذا المقرّ الرّئيس لقوّات الطّوارئ الدّوليّة في الشّرق الأوسط، وهناك مررنا بموظّف من موظّفي الأمم المتّحدة يلعب التّنس الأرضي مع زوجته، توقّفنا بجانب الملعب، وعرض علينا الرّجل أن نشاركهما اللعب، فرفضنا لعدم معرفتنا اللعبة. لكنّ الرّجل سألنا عن موقفنا من القرار -242-، فقلنا له بأنّه قرار جيّد، وستنسحب اسرائيل خلال أيّام بموجبه! فدهش الرّجل وقال:
أنا إيرلندي وأتعاطف مع الفلسطينيّين وبقيّة العرب، وإذا انسحبت اسرائيل بموجب هذا القرار بعد مئة سنة فهذا نصر للعرب! فغضبنا من الرّجل وانصرفنا ونحن نتّهمه بالمولاة لاسرائيل! وقد انتشرت الإشاعات حول قرب رحيل الاحتلال، ومن هذه الإشاعات أنّ بعض المشعوذين كانوا يقولون أنّ هذا الإحتلال سيزول بعد سبعة أسابيع، أو سبعة أشهر، أو سبع سنين، أو سبعة عقود!
عملي في الأرض
التحقت بوالديّ في البراري حيث كنّا نملك قطيعا من الغنم الحلوب، كما شاركت في حراثة أرضنا التي نزرعها حبوبا”قمح، شعير، عدس وكرسنّة”، لكنّ همّ الاحتلال وضرورة الخلاص منه لم يفارقني لحظة واحدة. كنت أصعد إلى قمّة جبل المنطار المرتفعة حيث أرى جانبا من مدينة القدس، أنظر المدينة عن بعد فينتابني حزن شديد على وطني الذّبيح.
أنا والذّئب
عصر يوم ماطر وعاصف وتحديدا في 18 مارس 1969م، كنت مع الأغنام في سفح بير “البِطانة”، عند مدخل جوفة جبل المنطار المرتفع في براري قريتي، هربت الأغنام إلى حيث اعتادت عند “مغارة الشّاعر”؛ لتحتمي من الجوّ العاصف، بينما كنت ملتفعا بعباءة مديرا ظهري للهواء، وبقربي حمار الغنم والمرياع الذي كان يرقد في حضنه خروف صغير، وإذا براعي أغنام قبالتييصيح مشيرا إليّ، لم أفهم عليه شيئا؛ لأنّ صوته كان يطير مع الرّياح العاصفة، فالتفتّ خلفي وإذا بذئب يحمل الخروف من حضن المرياع، ويصعد الجبل هاربا ببطء، لأنّه في مواجهة الرّياح، فلحقت به لتخليص الخروف منه، كانت حركتي أنا أيضا بطيئة بسبب الرّياح، وعندما وصل الذّئب قمّة الجبل، هرب شرقا والرّيح تتبعه، فلحقت به ممّا اضطرّه إلى ترك الخروف الذي وجدته ممزوع الرّقبة واليد ميّتا. فصار طعاما للكلاب بدل الذّئب.
في الأسر
في 19-3-1969م كان الجّوّ ماطرا، كنّا نسكن عند قدم جبل المنطار من الجهة الشّماليّة الغربيّة في البرّيّة “الدّمنة”، لم يكن الجوّ باردا كون المنطقة شبه صحراويّة، في ذلك اليوم تمّ اعتقالي، رافق التّحقيق تعذيب جسديّ ونفسيّ قاس، كان التّحقيق يتمّ في الطابق الرّابع لبناية في المسكوبيّة في القدس، وكانوا يشغّلون صوت موتورات صاخبة، كي لا يسمع أحد صوت من يصرخ ألما تحت التّعذيب. وفي الثّامنة صباحا كانوا يصطحبون المعتقلين مقيّدي الأيدي والأرجل لقضاء حاجاتهم في الحمّامات القديمة الواقعة قريبا من مدخل البناية، وما أن يدخل المعتقل الحمّام حتّى يبدأ الشّرطيّ بركل الباب الذي لا يغلق بأحذيتهم، ويصرخ على من هو داخل الحمّام بالخروج، بعد ذلك نقلت لمركز تحقيق عسكريّ، وأمضيت ثلاثة عشر يوما في زنزانة ضيّقة أشبه ما تكون بالقبر.
غرف المسكوبيّة وبطّانيّاتها كانت مليئة بالقمل، وبشكل لافت ومفزع. ولا إمكانيّة للاستحمام فيها. في الجهة الشّرقيّة للغرف كانت غرفة تحمل رقم “8” بابها مصفّح بالحديد، في حين كانت أبواب الغرف الأخرى قضبانا حديديّة، في تلك الغرفة لا يوجد مرحاض، وفيها دلو معدنيّ لمن يريد قضاء حاجته، وُضعتُ فيها يومين متتاليين، مع حوالي 20 معتقلا، كان فيها ثماني بطّانيّات أكثر من نصفها مبلول بالماء، عدا عن القمل الذي يتناثر منها، أغلبية نازلي تلك الغرفة لم يتناولوا قطعة الخبز التي كانت تلقى لهم على الأرض خوفا من قضاء الحاجة، ولمّا لم أطق احتمالا على حاجتي، أمسكت بطّانية ووضعتها على ظهري؛ لتستر عورتي، مقلّدا بذلك البدو الرّحل الذين كان الواحد منهم يستر عورته بالعباءة عندما يقضي حاجته في الخلاء الرّحب. وعندما رآني الآخرون قضوا حاجاتهم بالطّريقة نفسها وهو يدعون لي خيرا.
في المسكوبيّة التقيت بالدّكتور صبحي غوشة، وتعرّفت على عشرات القادة منهم: عبداللطيف غيث، فضل طهبوب، رضوان الحلو والشّيخ داود عريقات، والحلو أحد مؤسّسي الحزب الشّيوعيّ الفلسطينيّ، ويجيد العبريّة التي تعلّمها قبل العام 1948، وكان يفاخر بأنّه قد التقى عام 1919م الزّعيم السّوفييتي فلاديمير إيليتش لينين، كما أنّه أحد مؤسّسي عصبة التّحرّر التّي تأسّست في فلسطين عام 1945م، وكان أحد أبرز قادتها. بينما كان الشّيخ داود عريقات يحمل العود معه، ويعزف عليه كلّما عنّ الطّرب على باله.
اخلع سروالك
انتقلنا من المسكوبيّة إلى سجن الرّملة، وكان يوم جمعة، كنّا ستّة أشخاص، في قسم المرور عند مدخل السّجن، جرى تفتيشنا تفتيشا دقيقا، وبعدها دخل أحد السّجانين وبيده قضيب بلاستيكيّ مخروطيّ الشّكل، طلب منّي أن أخلع بنطالي فخلعته، ثمّ قال لي:
اخلع سروالك وأدر ظهرك لي راكعا، فرفضت، وبدأوا بالصّراخ والتّهديد، وعندها دخل ضابط، وقال له:
اتركهم فهؤلاء أمنيّون لا علاقة لهم بالمخدّرات، وتبيّن لي أنّ ذلك القضيب في مقدّمته ناظور، يدخلونه في مؤخّرة السّجين، ليفحصوا إن كان قد ابتلع مخدّرات!
بعدها قادونا داخل ممرّات ضيّقة، وفتحوا أبوابا حديديّة عدّة، وأخيرا وصلنا ممرّا بعرض حوالي متر واحد، في نهايته مرحاض أرضيّ مكشوف، وعلى ارتفاع حوالي متر ونصف نافذة بعرض حوالي أربعين سنتيمترا وارتفاع يصل إلى حوالي ستين سنتيمترا، البناية قديمة وعرض المدماك حوالي سبعين سنتميترا، فيه ثلاثة شباك حديديّة، ويطلّ على قطعة أرض مليئة بالأعشاب، على يمين الدّاخل ثلاث زنزانات عرض كلّ منها حوالي متر وعشرين سنتيمترا، أبوابها قضبان حديديّة، وارتفاعها حوالي متر وثمانين سنتميترا، وضعوا في كلّ زنزانة اثنين منّا، وكان معي في الزّنزانة خليل جواد سموم، الذي تمدّد فيها واضعا رأسه عند الباب، في حين أنا وضعت رأسي في نهايتها؛ لأنّها لا تتسّع لنا إذا ما تمدّدنا فيها ورأسانا بعضهما بجانب بعض، وكانت فرصة لي لأخرج قدميّ من بين قضبان الباب الحديديّة، وبعد أن أغلقوا الباب المفضي إلى الزّنازين بحوالي ربع ساعة، عادت خشخشة المفاتيح من جديد، ودخل شخص قويّ البنية وبصحبته حارسان، وتهدّد وتوعّد وهو يرغي زبدا ويقول:
أنا مدير هذا السّجن وأنتم في عهدتي حتّى صباح الأحد، وأريدكم هادئين، وإذا خرج صوت من ابن شرمـ… منكم فالويل لكم.
عندما كانوا يسمحون للواحد منّا بقضاء حاجته، كان يقضيها في المرحاض الأرضي المكشوف أمام الآخرين. ومن الطّريف أنّنا شاهدنا في اليوم التّالي السّبت أفعى صفراء مرقّطة تحاول الدّخول من النّافذة، فدخلت من بين القضبان الحديديّة الخارجيّة الأولى، لكنّ الشّباك الحديديّة الثانية والثّالثة كانت تمنعها لضيق فتحاتها، فجثمت تستظلّ بينهما.
صباح الأحد تمّ نقلنا إلى سجن الدّامون، وهناك أبلغونا أنّنا موقوفون إداريّا، وسجن الدّامون يقع على قمّة جبل الكرمل في حيفا، بؤرة السّجن كانت مصنعا لشركة سجائر قرمان قبل نكبة العام 1948م، وفي شهر تمّوز –يوليو- لحق بي الأديب الكبير محمود شقير، حيث كنت وإيّاه في غرفة واحدة، وعلى سرير معدنيّ واحد، هو في طبقته الأولى وأنا في الثّانية، وكانت فرصة لي؛ لأتعرّف عليه عن قرب، علما أنّني أعرفه منذ ولادتي، بحكم صلة القرابة فهو ابن عمّ والدتي، وكوننا أبناء قرية واحدة، وهناك تعرّفنا على بعض قادة حركة الأرض التي تأسّست عام 1958م في الدّاخل الفلسطيني مثل: صبري جريس وابراهيم غنايم، كما تعرّفنا على الشّاعر فوزي الأسمر، وعلى الشّاب محمّد الصّديق الذي أكمل تعليمه في أمريكا حتّى الدّكتوراة، ولا يزال يعمل محاضرا في إحدى الجامعات الأمريكيّة، كما تعرّفت على بعض القادة السّياسيّين من القدس مثل: فهمي الحمّوري، نعيم الأشهب، إسحاق علي المراغي، عزمي مرّار وأخرين.
رغم مرارة السّجن الذي لا يصلح للعيش البشريّ، وما يصاحبه من امتهان لكرامة الإنسان، فقد افتتح من هم أكبر منّا سنّا دورتين تعليميّتين، واحدة للغة العبريّة، كان الأستاذ فيها محمّد الصّدّيق، والثّانية للانجليزيّة كان الأستاذ فيها ميشيل سنداحة. وقد واظبت أنا على حضور الدّورتين، كما افتتحت دورة لتعليم الأبجديّة العربيّة للأمّيّين، وأذكر أنّ أحد البدو من النّقب أصبح يقرأ ويكتب العربيّة بطلاقة، حتّى إنّه صار ينافس الآخرين على قراءة الصّحيفة، وبعض الكتب التي كانت متوفّرة في السّجن.
في السّجن ظهرت عليّ عوارض التّقرّحات في القولون، والتي تمثّلت بإسهال شديد مصحوب بالدّم، شخّصها طبيب السّجن بأنّها”باسور”، وكنت قد أصبت بانزلاق غضروفيّ بالرّقبة وآخر بين الفقرتين الرّابعة والخامسة أسفل العمود الفقريّ، واعتبرت ذلك وما يترتّب عليه من آلام في حينه أمرا عاديّا. ومع ذلك واظبت على مطالعة عشرات الكتب، وبعضها قرأته أكثر من مرّة نظرا لقلّة الكتب المتوفّرة، ومن الكتب التي قرأتها أكثر من مرّة كتاب “حول العالم في 200 يوم” للكاتب المصري أنيس منصور، وكذلك مذكّرات ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب الكونيّة الثّانية. في السّجن كانوا يفتحون لنا المذياع باللغة العبريّة من السّادسة صباحا حتّى العاشرة ليلا عندما تطفأ الأنوار، باستثناء ما بين الرّابعة والخامسة من بعد ظهر كلّ يوم، حيث كانت الإذاعة الإسرائيليّة تبثّ أغنية لكوكب الشّرق أمّ كلثوم، كما كنّا نسمع نشرة الأخبار بالعربيّة من الإذاعة نفسها في الخامسة والنّصف من مساء كلّ يوم.
الحاج فلّوص
في سجن الدّامون التقيت بالحاج فلّوص، وهذا لقبه، ولم أعرف اسمه الحقيقيّ، وكان في بداية السّبعينات من عمره، وهو من حيفا كما يزعم، ويدّعي بأن لا أقارب له، ويقال أنّه أمضى 42 عاما من عمره في السّجون، وقد ورثته اسرائيل من بريطانيا، خرج من السّجن ونحن فيه لمدّة شهر، وعاد بحكم لمدّة سبع سنوات، والرّجل ضعيف البنيّة كثّ اللحيّة الشّيباء، ويتمتّع بخيال مجنون، مع لوثة عقليّة، يجيد القراءة، ويبدو أنّه قد طالع بعض الكتب الموجودة في السّجون، وأحاديثه شبيهة بالحكايات الشّعبيّة التي توصف “بأنّ أوّلها كذب وآخرها كذب”، وكان يتخيّل أنّه كان مساعدا لهتلر في الحرب الكونيّة الثّانية، ومن طريف ما كان يرويه قوله: ” كنت والفوهرر هتلر نقود الحرب من غوّاصة في البحر الأسود، وجاء حوت ضخم وابتلع الغوّاصة، بقينا في بطن الحوت أكثر من شهر، ولمّا وصل بنا الحوت مضيق جبل طارق، تضايق الفوهرر وطلب منّي المساعدة للخروج من بطن الحوت، فقلت له: هذه قضيّة بسيطة؟
فسألني: كيف؟
فأجبته: نلعب بكبد الحوت، فيصاب بالغثيان فيتقيّأنا!
وهذا ما فعلته، فشكرني الفوهرر على ذكائي وفطنتي، وعندما خرجنا بغوّاصتنا من بطن الحوت تنفّس الفوهرر الصّعداء، وكانت المفاجأة أنّ الطّباّخ أسود البشرة الذي كان يطبخ طعامنا، قد انقلب لون بشرته من السّواد إلى البياض!”
وكان السّجناء القدامي ينصحون السّجناء الجدد بعدم الضّحك أو التّساؤل عن مدى مصداقيّة وصدق “سوالف الحاج فلّوص”، لأنّ من يضحك يغافله وهو نائم ويقوم بتشطيب وجهه بشفرة حلاقة، رغم تفتيش السّجانين له بشكل مستمرّ، ولا يجدون الشّفرة معه، وبعد عدّة أشهر وجدوه يخبّئ الشّفرة من الجهة الخلفيّة في لحيته الكثّة.
ومن خياله الخصب الذي كان مقتنعا به أنّه كان يروي أنّه عندما كان يرى علامات تعذيب على جسد شخص ما، كان يهزأ به وهو يقول:
أنتم أبناء هذا الجيل لستم رجالا، فقد كنت “كوماندوز” زمن الانتداب البريطانيّ، وعندما كانوا يقبضون على واحد منّا، كانوا يرفعونه مصلوبا على الخشب، ويضعون فوق رأسه قوالب ثلج في عزّ البرد، ويشعلون نارا تحته، ويجلدونه بالسّياط، ومع كلّ هذا التّعذيب لم يكن أحد منّا يعترف بكلمة واحدة.
وعندما كان يسأله أحد عن دينه كان يجيب هكذا:
“أنا هندكوسيّ”، ولا أؤمن بالأدّيان السّماويّة لأنّها سبب مصائب البشر!
البدو
في السّجن التقيت بأكثر من ثلاثين شخصا من أبناء القبائل البدويّة، وقد خصّص “المتنفّذون”في القسم للبدو الغرفة الوسطى من ثلاث غرف كانت مخصّصة للمعتقلين الإداريّين، ومنهم “شيخ عشيرة” من بدو شمال فلسطين، وضعوه في السّجن؛ لأنّه لم يتنازل عن أرض العشيرة، احتراما لوصيّة والده، مع أنّه خدم في الجيش الإسرائيليّ، ويزعم بأنّه من أنقذ موشيه ديّان عندما أصيب بعينه على الجبهة السّوريّة، وتربطه علاقات “صداقة مع بعض قادة اسرائيل مثل:” جولدة مائير، إيجال ألون، موشيه ديّان” وغيرهم. كما أنّ أبناءه في الجيش، وأحدهم كان يزوره وهو يرتدي الزّيّ العسكريّ للجيش الإسرائيليّ وعلى كتفيه رتب عالية، كما أنّ العديد من أبناء عشيرته يخدمون في الجيش الإسرائيليّ “كقصّاصي أثر”.
أمّا الأخرون فهم من النّقب، ويتحلّون برجولة وشهامة لافتة، وقد اعتقلوا بتهم أمنيّة لم يعترفوا بها رغم ما تعرّضوا له من تعذيب أثناء التّحقيق، وعندما كنت أسأل أحدهم عن سبب اعتقاله، كان يجيبني ساخرا من سؤالي:
“سرقت بعير، أو سرقت شوال قمح!”
تقرّبت من هؤلاء البدو، وصرت أتحدّث معهم بقولي لكلّ واحد منهم: يا قرابة.
وقد كنت أمازحهم، واطمأنّوا لي بعد أن عرّفتهم على أصولي البدويّة.
الأطفال الجنائيّون:
ذات يوم من فترة اعتقالنا عرضت إدارة السّجن أن تضع في غرفة من غرف قسم المعتقلين الإداريين الثّلاثة، أحداثا يهودا معتقلين على خلفيّات جنائيّة، غالبيّتهم تمّ اعتقالهم بسبب استغلال أحد ذويهم لهم، وتكليفهم بنقل مخدّرات من مكان إلى آخر، وأوضحت إدارة السّجن أنّ هدفها من هذا النّقل هو الحفاظ على هؤلاء الأطفال، لأنّه في قسم الجنائيّين يستغلّونهم جنسيّا ولو اغتصابا. كما عرضت إدارة السّجن بأنّ هؤلاء الأطفال سيقومون بتنظيف القسم. وفعلا جاؤوا بالأطفال، وجاؤوا بسجين جنائيّ عربيّ،؛ ليكون مسؤولا عنهم. ووضعوهم في الغرفة الثالثة، وهناك اختار مسؤولهمالطّبقة الأولى من السّرير عند زاوية الغرفة الدّاخليّة، لتكون مكان نومه، وقد أحاطها ببرداية من القماش، وكلّ ليلة كان يختار واحدا منهم ليكون “عروسا” له.
ولم يستمرّ وجود أؤلئك الأطفال في القسم أكثر من أسبوعين، بعدما ضبط بعضهم وهم يتعاطون المخدّرات.
الدّمامل
في أوخر صيف عام 1969م انتشرت ظاهرة مرض جلديّ، ويبدو أنّه معد بدلالة أنّه أصاب جميع من في القسم، وتمثّل ذلك ببروز دمامل في جسم الشّخص، وكانت الدّمامل تظهر في “أضيق الأعضاء” كما يقول تراثنا الشّعبيّ، حيث تنمو في المناطق الحسّاسّة بين الفخذين، أو تحت الإبط، ويصاحبها ارتفاع في درجة حرارة الجسم، وتبرّع أحد السّجناء وكان في أواخر الأربعينات من عمره، بعصر هذا الدّمامل، حتّى تخرج نواتها، ثمّ يقوم “بتعطيب” فتحة الدّمّل بواسطة طرف قميص مهترئ، يشعل النّار بطرفه كما السّيجارة، ويقرّبها من فتحة الدّمل في محاولة منه لتعقيم الجرح خوفا من التّسمّم، وعندما انفجر الدّمّل الذي أصابني وأنا في الحّمّام، خرجت دائخا ثمّ سقطت مغشيّا عليّ.
تحرّرت من السّجن في 20-4-1970م، وخضعت لإقامة جبريّة حتى نهاية ذلك العام.
في المستشفى
بعدها حوّلني طبيب إلى مستشفى المقاصد الخيريّة الإسلاميّة الرّابض على قمّة جبل الزّيتون في القدس؛ لإجراء عمليّة جراحيّة؛ لاستئصال “الباسور” كما شخّصه الطّبيب، وفي غرفة العمليّات قال الطّبيب الجرّاح “محمّد عيسى” بأنّني غير مصاب بالباسور، وعلى أطبّاء الأمراض الدّاخليّة أن يحدّدوا سبب الإسهال المصحوب بالدّم دون أن تصاحبه الآلام، وبعد فحص القولون بالنّاظور، قرّر الطّبيب بأنّني مصاب بالسّرطان، ومنعني من الطّعام، باستثناء السّوائل كالعصير، كما بدأ علاجي بالكيماوي، وصاحب ذلك انخفاض يوميّ بوزني مع تساقط الشّعر عن جسمي، كما تساقطت البشرة عن جلدي، وكنت دخلت المستشفى بوزن 81 كيلوغرام، وبعد ثلاثة وثلاثين يوما أصبح وزني 49 كيلو غرام، أي مجرّد جلد وعظم حسب طولي البالغ 190 سنتيمتر، فقدت قوايّ وأصبحت عاجزا بكلّ ما تعنيه كلمة العجز. وفي اليوم الثّالث والثّلاثين زارتني محاميتي الشّيوعيّة فليتسيا لانجر، بصحبة مدير مكتبها يونا سلمان، وهو يهوديّ كرديّ شيوعيّ من العراق، والياس نصرالله الذي كان طالبا في الجامعة العبريّة ويعمل في مكتب المحامية لانجر، ومعهم طالب طبّ يهوديّ لزيارتي في المستشفى، وصعقوا عندما رأوا حالتي الصّحّيّة المتردّية، خصوصا أنّني فقدت الأملاح في جسمي، وأصبحت في ظمأ دائم.
أصرّت المحامية لانجر ومن معها على نقلي إلى مستشفى هداسا في القدس الغربيّة، وهذا ما حصل. وهناك شخّصوا المرض بأنّه تقرّحات في القولون، وأوّل عمل قاموا به هو أنّهم أعطوني جرعة أملاح مركّزة، ذهبت بالظمأ الذي أهلكني. ثم شرعوا بإعطائي العلاج المناسب، مكثت في المستشفى 56 يوما، وتحرّرت منه بوزن 72 كيلوغرام، لكنّني استمرّيت –بناء على تعليمات الأطبّاء- في تعاطي الدّواء نفسه “Salazopyrin” حتّى يومنا هذا، علما أنّه في العام 1994م جرى قصّ 101 سنتميتر من القولون بعد أن تحوّلت التّقرّحات إلى أورام سرطانيّة. وقبل ذلك أجريت لي عمليّة جراحيّة عام 1992م للانزلاق الغضروفي في رقبتي، بعد أن استفحل أمره، ولم أعد أحتمل الآلام التي يسبّبها، في حين لا أزال أعاني من آلام الانزلاق الغضروفي أسفل ظهري حتّى يومنا هذا.
عودة إلى الأرض:
اقتنى أبي منذ عام 1949م قطيعا من الغنم البلديّ الحلوب كان يتراوح عدده بين 180-250 رأس غنم، واضطرّ لبيعه في 5 أيّار –مايو- 1970م؛ بسبب عدم وجود رعاة، فقد التحق الفلّاحون ورعاة الأغنام بسوق العمل الإسرائيليّ، وبسبب عدم قدرة الوالد المولود عام 1900م على العمل، وبعد أن تشافيت بشكل جزئيّ من الأمراض التي أصبت بها، عدت لفلاحة أرضنا.
الحراثة على الدّوابّ:
بلادنا فلسطين-إذا استثنينا السّاحل والأغوار- غالبيّتها أرض جبليّة وعرة، فيها صخور كثيرة، وبما أنّ شعبنا يعتاش في غالبيّته وعبر أجياله المتعاقبة على الزّراعة، فإنّه لم يترك أرضه الجبليّة التي لا تطولها الآلات الزّراعيّة بورا، لذا فإنّ الفلاح الفلسطينيّ يحرث أراضيه الوعرة على الدّواب كالبغال والحمير، ومنهم من يفلحها بالحبوب كالقمح، الشّعير، العدس، الكرسنّة والبيكيا وغيرها. ومنهم من يزرعها بالأشجار المثمرة كالعنب واللوزيّات. وحتّى الأراضي الصّخريّة قليلة التّربة فإنّها مزروعة بأشجار الزّيتون. وتفيد الإحصائيّات بوجود اثني عشر مليون شجرة زيتون معمّرة يزيد عمرها على الألف عام في فلسطين.
وقد قمت بفلاحة أرضنا الواقعة في حيّ الشّيخ سعد، وهي في غالبيّتها أراض وعرة، فحرثتها على بغل، وزرعت جزءا منها عدسا، والباقي قمحا، كنّا نحصدها بأيدينا، وننقلها إلى البيدر على ظهور الدّواب، وندرسها بالماكينات.
وفي العام 1986م غرستها هي وأراضينا في جبل المكبر بأشتال الزّيتون، حيث غرست فيها 1500 شتلة زيتون، وقمت مع آخرين بحملة توعية للأهالي لتشجير أراضيهم بأشتال الزّيتون، وأحضرت لهم عشرات آلاف الأشتال من مشتل الإغاثة الزّراعيّة في أريحا وبأسعار زهيدة، كما استعنّا بلجان العمل التّطوّعيّ لمساعدة الأهالي في زراعة أرضهم بأشتال الزّيتون.
الدّراسة الجامعيّة:
لم يغادرني حلم مواصلة تعليمي الجامعيّ لحظة واحدة منذ أن أنهيت الثّانويّة العامّة عام 1967م. ووقتها سمحت سلطات الاحتلال للطلبة بالانتساب لجامعة بيروت العربيّة، وكانت تعطي الطلبة تصاريح تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع للسّفر من أجل تقديم الامتحانات، فانتهزت الفرصة وسجّلت في مكتب خدمات جامعيّة في القدس؛ لأدرس اللغة العربيّة. وعند فترة الإمتحانات في حزيران-يونيو-1971م حصلت على تصريح يبدأ قبل الامتحانات بيومين وينتهي بعدها بيوم، ومن المفارقات التي لم تعد عجيبة بسبب المصائب التي ألحقها بنا الاحتلال، أنّني التحقت بالجامعة في العام الذي كان يستعدّ فيها أبناء جيلي، وأبناء صفّي الذين نزحوا إلى الأردن بسبب ويلات حرب عام 1967م كانوا يستعدّون للتّخرج والحصول على اللقب الجامعيّ الأوّل، واعتقد بعض من لا يعرفونني أنّ الفارق في العمر بيني وبين الطّلبة بسبب رسوبي المتكرّر في المدرسة! مع أنّ هذا لم يحصل، علما أنّه كان بعض المنتسبين في الجامعة في عمر يساوي ضعف عمري أو يزيد، وغالبيّتهم كانوا من معلمّي المدارس الذين التحقوا بسلك التّعليم بعد أن أنهوا الثّانويّة العامّة في خمسينات القرن العشرين.
وفي العام 1972م ضاع عليّ العام الدّراسيّ لعدم حصولي على تصريح.
في الطّريق إلى الجامعة:
غادرت وطني المحتلّ للمرّة الأولى في طريقي إلى جامعة بيروت العربيّة، غادرت القدس في اليوم المحدّد من شهر حزيران 1971م، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما اجتزت نهر الأردنّ إلى الضّفّة الشّرقيّة، فقد خفق قلبي لرؤية العلم الأردنيّ يرفرف أمام نقطة العبور الأردنيّة، صفّقت للعلم واحتضنت ساريته وقبّلتها، لعلّ قبلتي تصل الى العلم الذي يرفرف عاليا، واستقلّيت سيّارة إلى عمّان، ومن هناك الى أحد مكاتب التّاكسيات التي تعمل على خطّ عمان-دمشق بيروت.
لا يعرف معنى الحرّيّة إلا من خبر العبوديّة والظلم، ولا عبوديّة أسوأ من ان تعيش تحت احتلال بغيض، يسرق وطنك ويستعبدك وشعبك، فيقتل من يقتل ويجرح من يجرح، ويحاصر ويصادر ويبني جدرانا توسعية، ويسجن ويهجر…إلخ.
وأنا أعاني من ذلّ الاحتلال منذ وقوعي ووطني تحت براثنه منذ الخامس من حزيران 1967م، والذي يصادف لسوء حظي تاريخ ميلادي، فقد ولدت في مثل ذلك اليوم الأسود من العام 1949، ففطمت على ويلات أورثتني ويلات أخرى، ليس أقلها تقرّحات جهازي الهضميّ.
أقول هذا وأنا أستذكر سنوات ما قبل الاحتلال عندما كنّا نصل عمّان من القدس في حوالي السّاعة، وأصبحنا بفعل جبروت وظلم الاحتلال نحتاج يوما كاملا للوصول إليها، نمرّ حواجز عسكريّة وتفتيشات”أمنيّة” قد تصل ووصلت فعلا درجة التّعرّي، وتحسّس ما بين الفخذين قبلا ودبرا، والحواجز العسكريّة -خصوصا تلك المحاذية للنّهر من الجهة الغربيّة- قد تغلق لدقائق أو لساعات دون سابق انذار؛ ليبقى المسافر يتلظي تحت لهيب الشّمس الحارقة صيفا في أكثر منطقة منخفضة في الكرة الأرضيّة، لهيب شمس يرهق الشّباب، فما بالكم بالمسنّين، ترى أطفالا رضّعا وفي أعمار مختلفة ممدّدين في أحضان أحد والديهم، أو على أحد مقاعد الباص، هذا يطلب ماء، وذلك يصرخ ضيقا، وترى امرأة حاملا أو عجوزا هرمة وقد ألقت رأسها على المقعد لا تقوى على شيء، تحمل العجوز سبحتها، تحرّك خرزاتها، تسبّح بحمد ربّها، وتحوقل، وتلعن الاحتلال و”اليوم اللي شفناه فيه” فتنهرها عجوز أخرى قائلة:
“وحدي الله يا حجّه..بلاش يسمعوك ويردّونا، والله لي أكثر من عشر سنين ما شفت بنتي ولا شفت اولادها”.
والمشكلة في الحافلة المتوقّفة لا تكمن في صراخ طفل يريد أن يقضي حاجته، فقد يقضيها في ملابسه أو أمام الآخرين، لكنّها في هدر كرامة عجوز أو مريض يعاني أو تعاني من سلس البول، فتراه يتقلب ضيقا وذرعا داعيا الله أن يصبّره حتى يصل الجانب الشّرقيّ للنّهر؛ ليجد مكانا يقضي حاجته فيه، فهو بعيد عن مكاتب الجسور حيث دورات المياه، وترى أفواها عطشى يلوك لسان صاحبها شفتيه بشكل عفويّ؛ ليطرد الجفاف عنهما، وتنطلق الشّتائم من أفواه عجائز يلعنون فيها القادة العرب الذين تركونا تحت احتلال أهلك البشر والشّجر والحجر، وتسمع عجوزا تقول لجارتها في المقعد بحسرة:
“والله يا خيتي خايفه أموت وأنا في بلاد وولادي في بلاد ثانيه!”
فترد عليها جارتها:
“توكّلي على الله يا خيّتي، انشاء الله بنقلعوا من بلادنا قبل ما تموتي وبيرجعوا اولادك إلك، بس قولي يا خيّتي دون مواخذه ليش ما تظلي عند اولادك تايفرجها ربنا؟”
فترد عليها:
“يا ريتني ما سمعت هالحكي منك، وين بدّي أدشّر الدّار والأرض إذا رحت عند الولاد؟ أي ما هي الأرض أغلى من الولاد يا خيتي”.
تتحرّك الحافلة بعد أن يفتح الجندي الحاجز، يسير شرقا، تشرئبّ الأعناق تنظر إلى النّهر الذي جفت مياهه، فالنّهر لم يعد نهرا بعد أن تمّ سحب مياهه إلى طبريا، ومن هناك إلى النّقب، ولتتحوّل آلاف الدّونمات على ضفّتي النّهر إلى صحراء قاحلة، بعد أن كانت مزروعة بالخضار والفواكه المرويّة، ولتتذكر مدى انحسار مياه البحر الميّت الذي يتهدّده الجفاف بعد أن انقطعت عنه مياه النّهر التي كانت تعوّضه عن الكمّيّات الهائلة التي تتبخّر في الجوّ، وتتساءل إذا ما كان البحر الميت منكوبا كشعبك؟ وهو البحيرة الوحيدة الأكثر ملوحة في العالم، والتي يطفو الانسان على سطحها كيفما شاء ودون معرفة السّباحة، تسير الحافلة وهمومك أكبر من بحيرة مصيرها الجفاف حتما، إذا لم يسارع ذوو الشّأن في انقاذها قبل فوات الأوان، ترى العلم الأردني يرفرف أمامك، فيصفق له قلبك قبل يديك، فهو صنو العلم الفلسطيني وشبيهه، بل يزيد عليه بنجمة تتوسّط مثلثّه أحمر اللون…يبتسم لك الجنود ورجال الأمن الأردنيّون، فتفرح بهم وقد يكون أحدهم قريبك الذي لا تعرفه، فأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الأردنّ منذ النّكبة الكبرى في العام 1948م والهزيمة الكبرى في حزيران 1967م، وهم يعيشون كمواطنين كاملي الحقوق، وهذا ما لا يحظى به اللاجئون الفلسطينيون في الدول العربية الشقيقة الأخرى، خصوصا في لبنان حيث يعاني الفلسطينيّون معاناة كبيرة، بحجّة عدم التّوطين،أمّا في العراق بعد الاحتلال عام 2003م فقد تعرّضوا للقتل والنّهب والاغتصاب على أيدي اللصوص والسّرّاق ودعاة الطّائفيّة المذهبيّة، الذين عادوا على ظهور دبابات الجيوش المحتلة.
كما أنّ العلاقة الأخويّة بين الشّعبين الفلسطيني والأردنيّ قائمة منذ فجر التّاريخ، فالمصاهرة وحتى التّملك من قبل أبناء القطرين متواصلة عبر أجيال، فالشّعب واحد والأمّة واحدة والأرض واحدة، والاقليميّة من صنع الاستعمار…تتمّإجراءات الجسور في الجانب الأردنيّ بشكل سريع جدّا، تنهي معاملتك وتخرج لتجد أحد أقاربك –ان كان لك أقارب في الأردن- بانتظارك، ينتظرك وقد عانى ما عانيت من انتظار تحت لهيب شمس حارقة، فمنطقة المظلات لا تكفي لتظليل عابري الجسر، لكنّك فرح بلقاء قريب وبخلاص -ولو بشكل مؤقت- من سطوة محتلّ لم يحفظ يوما كرامتك، فيدبّ النّشاط في جسدك الذي وهن، ويصيبك اكتئاب وأنت تنظر إلى وطنك خلفك مكبّلا بقيود الاحتلال.