العقل الجمعي، وتربية الضمير العام
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
تتبلور فكرة (العقل الجماهيري) بصورة علمية أكثر وضوحا من دراسة قدمها د. أحمد عكاشة (أستاذ الطب النفسي) في كتابه (آفاق في الإبداع الفني)، يتحدث فيها عن مستويات العقول، ودرجات التفاوت بين العقل النخبوي والجماهيري، فيقول:
“الله خلق الناس على مستويات من الذكاء، ففي العالم كله، ولدى أي شعب في الدينا هناك 60% من البشر متوسطي الذكاء، وهناك20% من المجموع الكلي يتمتعون بمستوى ذكاء (أقل) من المتوسط، وأخيرا هناك 20% هم (المتميزون) وذكاؤهم فوق المتوسط.. وهذه الفئة الأخيرة هي التي تحكم ال80% من الشعب، والغريب أن هؤلاء ال80% من الشعب نجدهم في أي مجتمع قابلين للإيحاء والاستهواء، وعادة ما يأخذون الوعود من هؤلاء الأذكياء المتفوقين بمنتهى الأمانة والبساطة، فيصدقونهم ويمشون وراءهم كالمنومين”.
كما يقول عن بعض العقليات التي تسلم لها الجماهير، وتنقاد لها انقيادا أعمى(كالقادة المتسلطين): “إن بعضهم قد يعاني من بعض ضلالات السلطة التي يمارسونها دون أدنى معارضة، وهو من آثار البقاء في السلطة أمدا طويلا، وقد نصح الأطباء الزعيم (ستالين) حين بدأ يشكو من بعض التغيرات بالجلوس إلى أطباء نفسيين.. حدث هذا بالفعل، ثم جاء تقرير الأطباء يقول إن: “الزعيم يعاني اضطرابا ضلاليا، أو بارانويا(جنون العظمة أو السلطة)، مما يدفعه إلى الشك في كل من حوله”.. وقد كان من جراء ذلك التشخيص أن أعدم الزعيم فريق الأطباء النفسيين المعدين( جميعا).
ومن هنا فقد حرص القرآن على تربية وتوطيد وتقوية ما يسمى بـ(الضمير الاجتماعي)، أو (الضمير العام) كما يسميه (د. أحمد عكاشة)، وهو المفهوم المقابل في طرحنا لمفهوم (العقل الجمعي)، فالضمير الاجتماعي هو مجموعة القيم والمثل والأخلاق والمعتقدات والفكرــ السوية ـــ التي تحكم مجتمع ما، وتشكل ما يسمى بالوعي الفردي والمجتمعي بالتبعية، وبصورة تربوية منفصلة للمجتمع بعد تربية الفرد.
وقد نهى القرآن عن سرعة تلقف الأخبار، والاندفاع في تيار السلوك الجمعي غير العقلاني، وغير المتثبت ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات (6)]، ” إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) [النور].
كما نهى عن الانقياد أو التسليم لفكرة أو جماعة، أو فريق دونما التحقق من صدق دعواه، وكذا عن التبعية العمياء المهلكة لأهل الإفساد والكذب، والأدعياء المروجين لبادي الأخبار والأفكار.. وقد رأينا سيدنا موسى عليه السلام يؤنب قومه حين اتبعوا السامري وعبدوا العجل بدون بينة من السامري الدعي، أو تحكيم للعقل، والإعراض عما نصحهم به هارون (عليه السلام) محذرا ومعلما “أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا” (طه).
هذه التنشئة التربوية التي يحرص القرآن على زرعها في مراحل النشأة الأولى، والتي تشكل بدورها بذرة الكيان النفسي والعقلي، وهي التي تكون بدورها العقل الجمعي.. كما جاء في خبر الزهد لأبي داود، عن ابن مسعود أنه قال:
“ائْتُوا الْأَمْرَ مِنْ تَدَبُّرٍ، وَلَا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، [ص:141] قَالُوا: وَمَا الْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَجْرِي بِكُلِّ رِيحٍ”.
وجاء في سنن أبي داود: “عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا “: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ..
وجعل الشرع من الاجتماع البشري على بعض العبادات كالصلاة والحج والجمعة، والتواصي بالحق والصبر والمرحمة، والنهي عن تتبع ما ليس في مقدورك علمه، والانشغال بما ينفع النفس فضيلة وواجب شرعي، وأدب أخلاقي واجب الامتثال
” وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء(36)].
يتمادى الساسة في إهمال وعي الشعوب، والإمعان في التغييب، فإذا ما تلقفت جموعهم وسائل الاستهواء، وعوامل الاستقطاب فتحت منابر الدعوة والتوعية إلى حين، وأوعز إلى النخب قيادة القطيع.. لكن هذه دوما حال الإسلام برد الأمر إلى أهله من ذوي الاختصاص والتبصر والاستنباط، بدلا من التلقف والإذاعة، وسرعة الإفشاء “وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء(83)].
وفي قوله تعالى” قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ(46)]، لأن العقل الجمعي ذو سطوة وسلطة، أما الانفراد بالنفس أوالتثنية أقرب إلى استنباط الحق وأيسر في استخلاصه، وأسلم من الوقوع تحت ضغط الاجتماع ..قال أبوالسعود” خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ {مثنى وفرادى} أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدخام يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ”.
ومن هنا.. فإن الأفكار والمعتقدات ذات المدى الطويل في التكوين، والمتعلقة بالأمور العظيمة كالدين، والعلاقات الأسرية، والانتماء الوطني كلها ذات طبيعة ثابتة لا يمكن الرهان على تغييرها بسهولة، أو التخلي عنها أمام دعوى مغرضة أو عابرة.. وهذا هو المطلوب في تكوين وتهيئة العقل الجماهيري، وتربية الضمير العام.