أدب

همسات.. مع الرسالة 30 لقمر عبد الرحمن

بقلم: زياد جيوسي

أولا – الرسالة 30


رسالةٌ من جبل الخليل إلى جبل المكبّر
إلى الأديب المقدسيّ محمود شقير
لقد استطاع قلبك أن يتجاوز كلّ الأحزان بالكتابة، فلم تتكىء على الألم المهزوم، ولم تتبع اللّيل العاصف إلّا بالفكرة الطّازجة حتّى الصّبحَ المنجلي..
لقد عقدت النّية على ألّا تترك الكتابة في الهزيع الأخير من اللّيل، ولتفعل الأحزان كلّ ما لديها، وأسوأ ما لديها!
فحين تمسك القلم، تتساقط المواجع! وكلّ الخسارات تصبح خفيفةً حين يُكتب عنها!
لقد كتبت لأرق الكائنات شكلًا ومضمونًا، حملت الجبل والبحر، واللّيل والنّهار، والغراب واليمامة بقصصك ووضعتَهم في حضن طفلٍ ليرتبط قلبُه بالطّبيعة مثلُك..
فالطّبيعة تدرّبه على إدراك ذاته والمكان
والطّبيعة تشرح له ببطءٍ قوانين الزّمان..
لقد كتبت للهويّة التي اجتمع فيها الهمُّ الفلسطينيُّ والوعودُ الكاذبة، واليافطاتُ المؤطّرةُ بالحريّة، والتّحريرُ المؤجل!
بعض الشّعوب يتفاخرون بأكلاتهم وبأماكنهم الأثريّة،
وآخرون يتباهون بمنازلهم وبأموالهم،
وبعضهم بقوّة أجسامهم، ويتألّق البعض بأثوابهم،
أمّا نحن الفلسطيّنيون المثقّفون نتباهى بثروتك الأدبيّة!
علمتنا أنّ المبدأ مبدأ حياة،
مهما عصفت الحروبُ ووجهاتُ النّظر بذاكرتنا
علمتنا أنّ نثق بالقلم، كما لم نثق بأحد
علمتنا أنّ الكتابة هي الثّرثرة الأنيقة لمشاعرنا ولمواجعنا
علمتنا أنّه باستطاعتنا دومًا ترتيبُ المشهد
شكرًا.. شكرًا لأنّك علمتنا أن نبقى أطفالًا مهما كبرنا

ثانيا – القراءة

اعتدت من الشاعرة والكاتبة والاعلامية قمر عبد الرحمن ومنذ واكبت رسائلها منذ الرسالة الأولى أن تخاطب: مكان/ فكرة/ أسرى/ شهداء..الخ، وفي الرسالة التي سبقت هذه كانت تخاطب الحزن المعتق في الأرواح، لكن يمكنني أن أقول أنها المرة الأولى التي تخرج فيها عن هذا الأسلوب فتكتب رسالة مباشرة للأديب والمناضل المقدسي محمود شقير أبو خالد، وكان العنوان الرئيس العام: “من جبل الخليل إلى جبل المكبر”، حيث الكاتبة تسكن مدينة الخليل، والمناضل أبو خالد في جبل المكبر في القدس، فوجدت بالعنوان رمزية هادفة من خلال مخاطبة من جبل الخليل الذي دوخ الصهاينة والمحتلين وما زال، إلى جبل المكبر شعلة النضال الفلسطيني في القدس في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
من خلال مخاطبة الأديب محمود شقير كانت تخاطب الوطن، فالأديب استطاع قلبه: “أن يتجاوز كلّ الأحزان بالكتابة”، والوطن يتمثل به فتخاطبه: “لم تتكئ على الألم المهزوم”، فمازجت قمر بين الوطن المحتل ومقاومته وبين الأديب المقدسي محمود شقير الذي لم يتوقف عن المقاومة، دافعا الثمن من سنوات الاعتقال الى سنوات الابعاد خارج الوطن إلى المضايقات التي لم تتوقف، فربى الكاتب من خلال الوطن اجيالا تقاوم بالكلمة وأشكال النضال فتخاطبه قمر: فلم “تتبع اللّيل العاصف إلّا بالفكرة الطّازجة حتّى الصّبحَ المنجلي”، فتخرج أجيالا مقاومة في وجه الحزن: “ولتفعل الأحزان كلّ ما لديها، وأسوأ ما لديها!”.
فمحمود شقير يمثل اجيالا مقاومة فتهمس له قمر: “حين تمسك القلم، تتساقط المواجع!”، وبالتالي فلا حساب للخسارة خلال المقاومة، لأن “كلّ الخسارات تصبح خفيفةً حين يُكتب عنها!”، فالخسارات تصبح بعد الحرية في كتب التاريخ، وهنا رمزية ما وراء الكلمات في إشارات لحرب الابادة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة وفي كافة أنحاء الضفة المحتلة، وكانت المخاطبة للأديب تحمل مخاطبة الوجهين، الأديب والوطن، كما قالت: “لقد كتبت للهويّة التي اجتمع فيها الهمُّ الفلسطينيُّ والوعودُ الكاذبة، واليافطاتُ المؤطّرةُ بالحريّة، والتّحريرُ المؤجل!”.
الكاتب محمود شقير تألق في قصص الأطفال الهادفة، ولم تكن قصصه فارغة المحتوى، فهي قصص وطنية وعلمية موجهة للأطفال ومربية لهم، فتقول مخاطبة الكاتب: “لقد كتبت لأرق الكائنات شكلًا ومضمونًا، حملت الجبل والبحر، واللّيل والنّهار، والغراب واليمامة بقصصك ووضعتَهم في حضن طفلٍ ليرتبط قلبُه بالطّبيعة مثلُك..”، والهدف أن: “الطّبيعة تدرّبه على إدراك ذاته والمكان، والطّبيعة تشرح له ببطءٍ قوانين الزّمان..”، وهذه إشارة واضحة للفكر الذي يحمله محمود شقير، وقوانين “الديالكتيك” التي يؤمن بها وتوجهه في الحياة.
وخاطبته مشيرة لتأثيره على الأجيال التي كبرت بالقول: “علمتنا أنّ المبدأ مبدأ حياة، مهما عصفت الحروبُ ووجهاتُ النّظر بذاكرتنا”، وواصلت الاشارة لما تعلمته وغيرها من أبو خالد فتقول: “علمتنا أنّ نثق بالقلم، كما لم نثق بأحد، علمتنا أنّ الكتابة هي الثّرثرة الأنيقة لمشاعرنا ولمواجعنا”، وتشير لما علمه الكاتب لأجيال وراء أجيال: “علمتنا أنّه باستطاعتنا دومًا ترتيبُ المشهد”.
تؤكد الكاتبة وهي تتحدث بإسم الشعب اعتزاز الفلسطينين بأدب محمود شقير، وأن التفاخر هنا ليس تفاخر بأكلات تراثية وأمكنة أثرية، وليس تباه بمنازل وأموال، وليس بقوة وجمال الأجسام والألبسة سواء الحديثة أو التراثية، فتقول مخاطبة الأديب أبو خالد مشيرة بما يتفاخر به الفلسطينيون: ” أمّا نحن الفلسطيّنيون المثقّفون نتباهى بثروتك الأدبيّة!”.
وتنهي هذا النص الجميل المعنى والكلمات وما وراء الكلمات، المكثف اللغة، المحلق بجمال الكلمات وفضاء الفكرة، هذه الرسالة المرتبطة بالوطن وبالوفاء للوطن ورجالات الوطن، بالقول: “شكرًا.. شكرًا لأنّك علمتنا أن نبقى أطفالًا مهما كبرنا!”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى