خطوط عريضة في صناعة التفاؤل

د. أماني ماهر | كاتبة من مصر

 

التفاؤل طالما كان  شعوراً يضرب بجذوره في نفسي  أما الآن فقد أصبح سلوكاً لا  ينفصم عن شخصيتي.  وقد يظن من يقرأ مطلع مقالتي -ممن لا يعرفني -أنني أعيش حياةً بلا ألم بعيدة عن الشدائد و المِحن. ذات مرة فاجئني أحدهم بسؤالٍ  وجهه لي دفعة واحدة ،وجاء سؤاله على النحو التالي: كيف تبقين مبتسمة هكذا طوال الوقت من أين تأتيكي هذه السعادة؟! 

أجبته: ذلك أن فلسفتي في الحياة بنيتها من جسد وروح وعقل وقلب ثم نظمت لها حركة ثم جعلت لها مواثيقاً تردني إليها متى شردت عنها، أما جسدها: فقوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا آهتديتم” صدق الله العظيم. فتركت على إثرها التطلع لغيري و المقارنة، فإنطفأت عندي جذوة  التذبذب والمماطلة، وانشغلت بنفس ، فلم أجد وقتاً أنشغل فيه بغيري.

أما روحها: فقولٌ بليغ وحكمة تروي عن نفسها ألا وهي “من وجد الله فماذا فقد و من فقد الله فماذا وجد”. فتركت على إثرها الحزن، و القلق، و هدأت مهجتي، و استبشرت خيراً.

أما عقلها: فهو حديث رواه حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه  في سُنَّن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تكونوا إِمَّعَةً، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا ، و إن أساؤوا أسأنا، و لكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، و إن أساؤوا ، فلا تظلموا” . صدق النبي الكريم . فتركت على إثرها التبعية و بنيت آرائي على أساسٍ من التجرد للحقيقة دون هواً ، دون إمتراء، و دون خوف .

 أما قلبها: فقوله تعالى: ” ومن يعمل من الصالحات و هو مؤمن، فلا يخاف ظلماً و لا هضماً” صدق الله العظيم.  فتركت على إثرها أن أخالق الناس بخلقهم، و لم أعُّدْ أنتظر منهم جزاءاً، أو شكوراً ، و كذا أصبحت لا أفرح لمدحهم، و لا أحزن لذمهم، و تساوى عندي محسنهم، و مسيئهم،  فجفت في نفسي ينابيع الرياء .

أما حركتها: فهو حديث يعرف جُلُّنا مطلعه، و لا يعرف كمالته عن أبي هُريرة اليماني الدوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ  وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”. صدق رسول الله . فعرفت بُغيَّتي، وأخذت بالأسباب وتوكلت على ربي، و تركت السلبية، وودعت الندم على أمرٍ قد احتدم.

وجدت أن صاحبي لم يمل كلامي، و بدا الشغف واضحاً على قسمات وجهه، ولم تمر برهة حتى سألني هل هذا كل شيء؟!  أجبته بالطبع لا لقد تحدثت عن بنيان فلسفتي ، و بقي أن أتحدث عن مواثيقها  قال فما هي ؟!  قلت هي مواثيق من حقٍ، وعدلٍ، وحلمٍ ، ونبل، وإيثار، وتواضع، و تعايش، ومحبة، وجمالٍ ، و وجل؛

أما الحق فيها: فوجدته بيناً في آيةٍ شهدت على نفسها بمن أخذ بها و اعتبر منها وهي قوله تعالى :

“و ليخش الذين لو تَرَكُوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله و ليقولوا قولاً سديداً” صدق اللَّه العظيم.  أما العدل فيها فكان أن تنصف من معه الحق و إن كان عدواً و أُحْكِّمَّ العدل في آيةٍ أُحْكِّمَت من لدنٌ حكيم خبير. قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ “. صدق الله العظيم.  

أما الحلم فيها ” فشيءٌ عسيرٌ يسير ٌ، و جزاؤه صفة الإحسان، و محبة الرحمن قال تعالى:” والكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين “. صدق الله العظيم

أما النُّبل فيها: فوجدته في قصة صاحب رسول الله الصديق أبي بكر مع ربيبه مسطح بن أثاثة الذي كان واحداً ممن أشاع الإفك الذي أتى به عصبة المنافقين في المدينة، وقد راعه رضي الله عنه أن يخوض في عرضه ربيب إحسانه ، فأقسم ألا ينفق عليه درهماً، و تنزلت سورة النور ، و بها حد قذف المحصنة، و حد المتلاعنين ، و جاءت آية النبل تتهادى على أسماع سيد النبلاء الصديق أبو بكر. قال تعالى: “وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓاْ أُوْلِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” صدق الله العظيم. لم تستغرقه الإجابة إلا وقت التلاوة، و لم يؤخره التردد شيئاً، ولم تمنعه العصبية عن الصفح ، و لم يغش غضبه على إدراكه حين سمع الآيات أنه المقصود بها ، و أنه المودوود بما استجاب لها. قال في عقبها رضي الله عنه ،بل أحب يا رب، و عاد إلى عهده مع مسطح بن أثاثة و صفح عنه صفحاً لا طاقة لأحدنا به.

أما الإيثار فيها: فوجدته في قصة أنصاري المدينة، و زوجته مع ضيفيهما، و التي أبى الله إلا أن يجعل منها ، و من صنيعهما -الذي أخفاه سراجٌ إفتعلوا إطفاءه حتى لا يتحرج الضيف، و هم في خصاصة إلى وجبة عشائه -؛ قرآناً يتلى، و يتعبد بتلاوته. قال تعالى: “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. صدق الله العظيم

أما التواضع فيها: فيضبطه قول رسول الله:” رُبَّ عبدٍ أشعث أغبر مدفوعٌ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه “, صدق الرّسول الكريم. فأيقَنَت نفسي لنفسي بالعدمية ، وبلغت أمنيتي أن يجعلني الله في خدمة ذاك الأشعث الأغبر لعلي أفوز بدعوة تكون فيها النجاة كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في قصته مع أويس القرني رضي الله عنهما .

أما التعايش فيها: فبناءٌ له عماد ؛ عماده الإختلاف و قبول الآخر على ما هو عليه. وهذا المعنى وجدته جلياً في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”. صدق الله العظيم. فتركت على إثرها التجمد و التقولب في قالب الأنا. وشملت قريحتي ألوان البشر كما شملت عيني ألوان الطبيعة، وجعلت من الإختلاف شغفاً، و معرفة، لا رفضاً و عداءاً لما أجهله في الآخر .

أما الجمال فيها:  فهو شاملٌ للكل والبعض، للجوهر  والمظهر، للحس والمعنى أما الكل فأعني به الكون الواسع و ما به من بديع الخلق “الله بديع السماوات و الأرض” أما البعض فنجده في تفصيل هذا الصنع الجميل قال تعالى: “أفَلَم ينظُروا إلى السَّماء فَوقَهم كَيفَ بَنينَاهَا وزَيّناهَا وما لها من فروج* والأرضَ مددناها وألقينا فيها رَواسِى وأنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيج* تَبصرةً وذِكرَى لِكلِّ عَبدٍ مُنيب* ونَزّلنَا مِنْ السَّمَاء مَاء مُبَارَكَاً فَأنْبَتْنَا بِه جَنّاتٍ وحَبّ الحَصِيد* والنَّخلَ بَاسِقَات لَهَا طَلعٌ نَضِيد* رِزقَاً للعِبادِ وأحْيَيْنَا بِه بَلدةً ميتاً كذلك الخروج”. صدق الله العظيم.

أما الجوهر و المعنى فيها: فجاء مقروناً بصفحٍ جميل وصبرٍ جميل  وسراحٍ جميل وهجرٍ جميل . و جمالٌ على جمال أن يصبح السلوك موصوفاً بالجمال وجمالٌ على جمال أن يصبح السلوك على كراهة وقوعه موصوفاً بالجمال.

 أما المظهر والحس: فجاء في قوله تعالى: “ولكم فيها جمالٌ حين تريحون و حين تسرحون” جمال النعم وهي في رواحتها من المرعى شبعى جمالٌ حسي تجده في مظهر الخلق.

أما المحبة: فأصلها و قوامها بسط أجنحة السلام و التنعم في ظلاله. والسلام ليس سلام، وضع الأسلحة، والهُدَّنْ. بل سلام الأخلاق الذي يأخذك لعالم بلا ضغينة، بلا قيلٍ، و قال، بلا همزٍ، و لمزٍ ، بلا تناحر ، بلا تدابر، بلا مراءٍ ، بلا تلفيقٍ، بلا إفكٍ، بلا تصادم، بلا تلصص . و فلسفتي لا تعترف لأحد بالإيمان إلا إذا كانت عقيدته  المحبة ، وهذا المعنى يشهد عليه حديث رواه أبي هُريرة عن النبي أنه قال: “والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شَيْءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم”. صدق النبي الكريم.

أما الوَجَّلُ فيها: فهو بمثابة الدينامو الذي يولد الطاقة الدافعة لحركة هذه التروس المتداخلة، والمترابطة داخل آلة اسمها فلسفة حياة المسلم والوجل يبعدني عن تزكيتي لنفسي، فأنا لا أحسب نفسي على خير لذا أدق كل باب يتسنى إلي الدخول منه إلى الرحاب المقدسة. قال تعالى: ” ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى” ويقول جلَّ شأنه:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.

وعندما جُرح عمر جُرحه الذي نال به الشهادة في سبيل الله، وفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم زاره ابن عباس يعوده ، فوجده يبكي،  وهو يأمر ابنه عبد الله أن يضع له خده على الأرض، وهو يقول: “يا ليتني كنت حيضة حاضتها أمي، ليتني خرجت من الدنيا كفافاً لا علي ولا لي”، فقال: ألم تشهد بدراً؟ ألم تبايع تحت الشجرة؟ ألم يشهد لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ قال: “لعل ذلك على شرطٍ لم يقع”، فهو غير مغرور يقول: “لعل ذلك على شرطٍ لم يقع” والغرور لا خير فيه، فالإنسان لا بد أن يكون دائماً يعلم أنه عرضة لحسن الخاتمة ولسوء الخاتمة، ولا بد أن يخاف مكر الله تعالى: “فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا القوم الخاسرين”

ابتسم صاحبي ابتسامة تحمل ألف معنى ثم سأل سؤالاً توقعت أنه سائله. ما الذي دفعك لهذا التفنيد ؟! قلت هذه الآية و تلوت قول الله تبارك وتعالى: “أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ” صدق الله العظيم. و أردفت قائلةً إن الحياة قصيرة قصر الوقت الذي يستغرقنا فيه التفكير في طولها. والتفكر في ضبط حركتك في الحياة يجعلك تستغل حتى ابتسامتك.

إن فلسفتي وقاية من شطط الفكر، وشذوذ السلوك. أحببتها لمرونتها وتوسطها و رحابتها وسلامها الذي غشيني حتى نخاع عظمي  وسكينتها التي أقرت عيني .

قال لي صاحبي هنيئاً لكي بما سكنت له نفسك و بدا أن هناك المزيد من الأسئلة و لكن لم يتسع الوقت وانتهى هذا الحوار الهاديء للأسف . والله من وراء القصد و هو يهدي السبيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى