الأمن الإنساني.. الانتقال من حماية الحدود إلى حماية الإنسان
خالد كاظم أبو دوح| أستاذ علم الاجتماع المساعد – جامعة سوهاج
برزت المناقشات المفاهيمية حول طبيعة الأمن، بالتزامن مع التطورات الرئيسة التي حدثت في البيئة الأمنية الدولية خلال الحرب الباردة، وسادت فيها نظرة محدودة إلى حد كبير للأمن، حيث كان الأمن الدولي في معظمه مرتبطًا بالأمن القومي، ونتج عن ذلك تركيز كبير على القوة والإستراتيجية العسكرية، والحاجة إلى الحفاظ على توازن القوة في الصراع، الذي سيطر بين الدول خلال الحرب الباردة، وبالتالي تم اختزال الأمن الدولي إلى حد كبير في مسائل استخدام القوة العسكرية، ودورها في بيئة دولية وتنافسية، كانت الدول فيها تقريبًا ضد بعضها البعض.
ظل الأمن متمركزًا على الدولة كمحور رئيس وفاعل وحيد في تحديد المخاوف والتهديدات الأمنية، وظهر انتقاد لهذه الفكرة، فمثلا: جادل علماء العالم الثالث، بأن إعطاء الأولوية لأمن الدولة، قد يكون له معنًا في سياق العالم الغربي المتقدم، ولكنه أقل اقناعًا في العالم النامي، حيث كانت بنية الدولة المتماسكة غائبة، في كثير من الأحيان، كما أن هناك دول كانت أنظمتها الحاكمة تفتقر إلى الشرعية الوطنية، وأحيانا بدت بعض الدول، في بعض سياقات العالم الثالث، وكأنها السبب في انعدام الأمن بالنسبة للمواطنين. علاوة على ذلك، فإن التركيز على نزعات الحرب الباردة والتفاعلات الأمنية بين الدول وبعضها البعض، يعنى أنه تم التغاضي عن عدم المساواة في النظام الاقتصادي العالمي، وما يرتبط بذلك من مشكلات التخلف التي ألقت بتداعياتها على قطاعات كبيرة من السكان في هذا العالم.
ومع نهاية هذه الحرب، تم تحدي فكرة هيمنة الدولة على الأمن، وفي هذا السياق، قامت الأمم المتحدة – على وجه الخصوص – بدور قيادي في تطوير مفهوم الأمن الإنساني، وفي التقرير الصادر عام (1994م)، تم إعادة تعريف الأمن بناء على البعد الإنساني، وتم وضع الإنسان في قلب المناقشات الأمنية على مستوى العالم، وأشار التقرير إلى أن التركيز على المسائل التقليدية المتعلقة بالمصلحة الوطنية والسيادة الإقليمية والردع النووي، كان بعيدًا تمامًا عن المخاوف والتهديدات الأمنية، التي يواجهها معظم الناس العاديين، والتي تركز – بدلًا من ذلك – على مسائل؛ الجوع، والمرض، والحريات، والتعليم، والإسكان، والتوظيف، ومع هذا التطور أصبحت مفاهيم الأمن أوسع وأعمق بكثير مما كانت عليه طوال فترة الحرب الباردة.
ويعتبر الأمن الإنساني، بشكل عام؛ طفل لم يمت، أو مرض لم ينتشر، أو وظيفة لم تنقطع، أو توتر عرقي لم يتحول إلى عنف أو نزاع مسلح، أو معارض أو منشق لم يتم إسكاته أو إهدار حقوقه المدنية والسياسية. إن الأمن الإنساني ليس معنيًا بالأسلحة، إنه معنى بالإنسان وحياته وكرامته (برنامج الأمم المتحدة، تقرير التنمية الإنسانية، 1994م).
لقد كان ظهور مفهوم الأمن الإنساني، أمرًا مهمًا، لأنه يحاول وضع الأفراد والإنسانية على نطاق واسع، في قلب المناقشات الأمنية، ويشير هذا المفهوم إلى تعزيز الأمن الفردي باعتباره أمرًا جوهريًا للحفاظ على البيئة الأمنية الدولية.
عادة ما تتخذ تعريفات الأمن الإنساني أحد شكلين: التعريفات المحافظة، والتي تتخذ نهجًا ضيقًا، يركز على تداعيات الحروب وعواقبها على حياة الإنسان، بهدف التخفيف من هذه الآثار، مثال: تقديم المساعدات الطارئة، والدعم الإنساني للاجئين، وبالتالي فإن التركيز على هذا النهج المحافظ، يرتبط بما تسميه الأمم المتحدة «التحرر من الخوف»، ويتجلى ذلك الاهتمام بإعطاء أولوية لمنع النزاعات وحلها، وإعادة الإعمار بعد النزاعات المسلحة.
وعلى النقيض من ذلك، تشير التعريفات الأكثر اتساعًا للأمن الإنساني إلى أن التركيز على الصراع، يؤدي إلى فهم ضيق للتهديدات التي تسبب انعدام الأمن والمعاناة الإنسانية، وعلى الرغم من أهمية النزاعات العنيفة وخطورة تداعياتها، إلا أن حياة الكثير من الناس، الذين يعانون من الفقر والجوع والمرض والكوارث الطبيعية، ينعدم فيها الأمن، لذا تؤكد تلك التعريفات على أن الأمن الإنساني لا يتعلق بالتحرر من الخوف فقط، ولكن أيضًا يتعلق بـ«التحرر من الفاقة والفقر». وقد أوجز «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» هذا النهج في مجال الأمن الإنساني في تقرير عام (1994م).