الترجمة كتابة جديدة، والهاشمي حامل المرآة
غسان علي عثمان | الخرطوم
لمعرفة الآخر على الذات الخروج من سجنها الفردي، والتخلص من انشغالها بمصالحها، وأن تنشد فتح المسارات ممهدة وسالكة أمام تمام انحيازها دون وازع، ذلك أن تجوهر الأنا حتماً يقود إلى إرجاع كل شيء إلى الذات، وصحيح القول بأن للأنا خاصيتان كما يرى الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي بليز باسكال (١٦٢٣م – ١٦٦٢م)، خاصية أنها (أنا وآخر في الوقت ذاته)، أما الآخر فهو غير عادل إذ أن إرادته تجعل منه مركزاً لكل شيء، وأما الأنا فهي من جهة تتحزم لتضايق الآخرين، وتدافره، وتسعى التخلص منهم، والحكي نيابة عنهم، فاللاعب الأساسي في تشكيلة هذه الثنائية هو اللغة، ولذلك فإن المترجم حكمُ لمباراة الآنا والآخر، وعدته في ذلك بصيرة وموضوعية، ثم صبر على المكاره. إن هذا هو جوهر فعل الترجمة..
إن الترجمة قراءة ثانية، وبالتالي كتابة جديدة، وهذا هو ما يشتغل عليه البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي إذ انصب جهده على مخاطرة معرفية كبرى، ودواعي تسميتها بالمخاطرة يعود إلى كون الذاكرة في أي أمة هي منطقة عسكرية يمنع الاقتراب منها، بدوافع شتى أصغرها حجماً (لا تنبش!)، إنها حقل ملغوم، لأنها محكومة بالإنكار للواقع، والذي هو مسلسل مستمر فينا لغيبة النقد التاريخي لأفعالنا، كوننا شعب يخاف الإفصاح عن تفاصيل حكايته، والعجيب أنه يتباهى بها في الوقت ذاته. إن المتتبع للتاريخ الاجتماعي عند السودانيين لا يجهد نفسه كثيراً ليعرف طبيعة الهروب الجماعي من ملامسة سطح الذاكرة خوفاً من لهيبها، إذ أنه يصيب كل مغامر بالنبذ والإقصاء، إن لم يكن بالإدانة دون محاكمة، والهاشمي مغامر كبير.
لقد قرأت غالب أجزاء المشروع الفكري لبروفيسور الهاشمي (السودان بعيون غربية) وهو عنوان ذو دلالة، إذ لم يختر المترجم موقفاً ناحية هذا أو ذاك، بل فضَّل الموضوعية وليس الحياد، وتقديم مادته دون شبهة انحياز، والحقيقة أن المترجم ليس محايداً، وإن كان في بعض أعماله يعمد إلى تصحيح موقع البوصلة ناحية اتجاهها المتعارف عليه، يفعل ذلك بدربة مجيدة تتفهم حساسية بعض لحظاتنا التاريخية، لكن دون أن يصنع ذلك أمامه سداً فيحتبسه مستسلماً، إن تدخله عادة ما يكون رهين بإصلاح خطأ في المعلومة أو في موقع، إنه يكنس خلف الخواجة الذي من شدة غروره يسمي الأشياء بنطق يخصه، كأنه صاحب الدكانة. إن تدخله محدود مشروط ومحمود.
إن الهاشمي يضع بأعماله الجليلة هذه المعالم المركزية لمدرسة فكرية في الترجمة، فمساهماته يصح وضعها في حقل الأنثربولوجيا الاجتماعية، لأن مساره هنا يعتمد شغله وحيويته على صعيد عملي يريد التوفر على تحليل منطقي لقضية التراث السوداني، تراثنا المكتوب بلغة أجنبية، فأعماله تجعلنا نطلق عليه هنا لقب “المثقف الْمُشَخِّص”. ومهمة هذا الْمُشَخِّص أن يؤسس تلك اللاعتيادية في طرح السؤال التاريخي، يفعل ذلك عبر ممارسة تحقيق جدي ومسئول عن طبيعة وعينا بالتاريخ، ومنتخبات مثقفنا الهاشمي واعية بهذه اللحظة الحرجة من تراكم وعينا أناني ومنغلق، ولا يريد أن يسمع إلا صوته، ومن تجليات مولانا الهاشمي أنه يجوس في ثنايا الذاكرة عبر ترجماته ليغطي مستوياتها الدينية والفلسفية والعلمية. وثمة ملامح لهذا المشروع الفكري له، فهو أولاً ينتخب من المواد ما يدخل مباشرة في صلب أزماتنا الراهنة، أنظر في هذا الجزء ترجمته (عيادة فكي)، ومدى علاقته بطبيعة الظاهرة الاجتماعية السودانية حتى اليوم، فمن يتفحص جيداً سيعرف إلى أي مدى ظل هذا الأثر الإفريقي كامن وخالد في عقلنا الديني، لأن الفكي السوداني (الفقيه) هو المقابل الوجودي للساحر الإفريقي، ومن أهم الأعمال في هذا الاتجاه كتاب (الإسلام في السودان –The Islam In Sudan) للقس البريطاني سبنسر تيرمنجهام. ونقرأ في هذا الجزء كذلك (منطق الحرب والسلام في السودان) وهو عمل يرى فيه المترجم علاقة بواقع الحياة السياسية الراهنة، لكن ولأمانته يطرح في خاتمة المقال سؤالاً حول إن كان الكاتب صاحب النص قد تطرق إلى العنف في جنوب السودان بعد استقلال الدولة هناك.
توقفت عند مقال (التطورات السياسية في السودان الإنجليزي – المصري) وأعجبت بفكرة (سياسة التخفيف) فقد وقعت عندي موقعاً حسناً، لأن عبارة التخفيف تعكس معنى الحمولة، أي أن الإدارة البريطانية باتت ترى في وجودها عندنا حمولة سياسية وإدارية واقتصادية وجب التخلص منها تدريجياً، ولا أظن أن عبارة غير (التخفيف) كانت ستحمل كل هذه الدلالة، إنه من مهارة المترجم، كما أنها كشفت عن تقدم ملحوظ في قدرات النخبة، ما سيمكنهم مستقبلاً أن يشغلوا محل الإداري الاستعماري، ووجدت في ذلك هيمنة مخففة، إنها أبوية الاستعمار الذي لا يكف يذكرنا كل مرة بمهمته المقدسة، (عبء الرجل الأبيض) وياله من عبء!. وفي مقاله (التطور في السودان) وهو مقال مهم كون أن كاتبه شخصية لعبت أدواراً مختلفة في الحياة السودانية، هو السيد إدوارد عطية، فعلاقته بالمخابرات البريطانية رغم صلاته الواسعة مع عدد من خريجي كلية غردون في تلك الفترة، يكشف هذا المقال عن الرؤية الاستعمارية، أو لنقل رؤية الإدارة البريطانية لواقع معاش السودانيين، في الفترة التي تولوا فيها الحكم، ويعكس اعجابهم بالتطورات الاقتصادية، وتزايد نمو الثروات، ونشأة الطبقة الوسطى في المجتمع، وكذلك يركز المقال على نجاح مشروع الجزيرة، واسهامه في رفع معايير معيشة السودانيين. وفي هذا الجزء مقالات مترجمة لكتاب يتحلون بقدر كبير من المسئولية الأكاديمية، ويحمد للمترجم أنه ليس من المدرسة السودانية التي تشيطن كل آخر، بل يحمل ميزانه المعياري ليتحقق من صدق ما يقال ولو من الناحية المهنية، لكن المترجم يمارس تدخلات ذكية، إذ هو يعلم تمام العلم أن هذه وجهة نظر غربية، أي وجهة نظر طرف واحد في المسألة، لذا فإن حذره الإيجابي (يتاوق) مذكراً قارئه، بأن هذا النص لا يعبر عن مترجمه، بل هو ناقل مرّن، لكنه يملك رؤية حول ما يجيده.
إننا في كل مرة نقرأ فيها للبروفيسور الهاشمي نتقط تأكيداً جديداً على فرضية شائعة وهي أننا أمة لا تقرأ ماضيها، ولذا فهي (تسوط) حاضرها دون وعي منها، تعتقد أنها ولدت فجأة، وكيف أن مشاكلها هي بنت اليوم، وليست امتداداً موضوعياً لسابق حضورها، يعلمنا الهاشمي مرة تلو أخرى أن نعيد فحص كثير مما نسميه حقائق، إن عمل الرجل يصح وصفه بالأشغال الشاقة، فالقيام بمهمة الترجمة فوق ما تحتاج إلى مهارة وبراعة ودقة وعلمية، فإنها لا تٌنتج عبر آلية صماء نسميها قلم المترجم، وقاموسه ومعجمه أي عدة شغله، بل يمارس المترجم ولو بشكل خفي دوره في انتخاب المصطلح المناسب، وهذا يسمى بقضية الكلام، أي هل المتكلم اللغة أم صاحبها؟. والقارئ موعود بمقالات عميقة وجذرية، وتجيب عن أسئلة في الواقع.
لعل المكتبة السودانية سعيدة بهذه الموسوعة إذ أروت فيها العطش ناحية الآخر، هذا الآخر الغائب عنا، أو بالأصح مغيب بفضل خشية من كشف ظهورنا أمامه، والآخر هذا هو الذي كرس البرفيسور الهاشمي جهده لاستجلاء موقفه منا، وفي الوقت ذاته أن نعرض أنفسنا للمقاربة الموضوعية، إن الهاشمي يحمل مرآتنا بالنيابة عنا.. فله التحية وكثيف المودة..