كيف نربي أبناءنا؟ تربية الذوق الرفيع.. البعد الغائب في تربية بعض الأبناء (2)
د. محمد ناجح أبو شوشة – كلية التربية بجامعة بسوهاج| مصر
يهتم معظم الآباء والأمهات بتغذية أبنائهم، وبرعايتهم الصحية، وبتوفير الملبس والمسكن، وفرص التعليم المناسبة، وأساليب الترفيه المسلية، وبالتالي فقد يؤدي ذلك كله إلى إيجاد جيلٍ من الأبناء ذوي صحةٍ جيدة، وتعليمٍ مناسبٍ، وهذا أمر جيد، لكن المؤسف أننا نرى فئةً من هؤلاء الأصحاء المتعلمين يأتون بسلوكياتٍ اجتماعية تظهر جهلهم، وعدم درايتهم بما يسمى بآداب الذوق الرفيع، والذي يُعد مجالاً من مجالات التربية الجمالية لا ينبغي إغفاله أو تجاهله.
ومن الأمثلة على ذلك: الأوقات التي يمكن أن يزورك فيها بعضهم بغير موعدٍ مسبقٍ، وفي غير الأوقات المتعارف عليها للزيارة، كأن يزورك في الصباح الباكر، أو في وقت القيلولة، أو في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، وتكون حجته في ذلك أنه كان ماراً مصادفة بجوار منزلك فقرر زيارتك غير عابئ بجدول أعمالك اليومية أو بآداب الزيارة، أو بحالك ومدى تأهلك لمقابلته، ومدى تأهل بيتك لاستضافته.
كذلك فقد تجد أحد هؤلاء المتعلمين يتصل بك في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل مستهلاّ مكالمته بالقول: ” هل أزعجك اتصالي في هذا الوقت؟ “، ثم يبرر اتصاله في هذا الوقت بأن أرقاً أصابه فأذهب عنه النوم، فقرر الاتصال بك لتسليه حتى يذهب ما به من أرق، غير عابىء بما قد يسببه ذلك لك من عدم النوم ثانية حتى الصباح، وما يترتب على ذلك من إرباكٍ ليومك التالي في كافة فعالياته العملية والاجتماعية.
وهذا رجل متعلم وجهت إليه دعوة للغداء بمنزلك، وأعدت زوجتك مائدة لرجلين، فإذا بالضيف يفاجئك بأنه دعا ثلاثة من الأصدقاء المقربين منكما حتى تكتمل سعادتكما بحضورهم! وأنه لم يبلغك بذلك حتى لا ترهق نفسك في توفير مزيدٍ من الأطعمة والمشروبات، وبالتالي فقد قرر جعلها مفاجأة – سعيدة – لك ولأهل بيتك، فإذا بك في موقفٍ لا يعلمه إلا الله تعالى أمام أضيافك هؤلاء ممن لم يكونوا في الحسبان عند إعداد المائدة، وذلك نتيجة للحرج الناتج عن عجزك عن القيام معهم بواجب الضيافة على النحو الذي ترغبه ويليق بك وبأهل بيتك.
وهذا متعلم آخر قرر الدخول في سباق سيارات مع صديقٍ له في نهر الطريق، وتتعالى ضحكاتهم وأصوات سياراتهم غير عابئين بما قد يسببه ذلك من مخاطر قد تصل إلى حد قتل الآخرين وتدمير أسرهم، ولنا في ” التفحيط ” خير شاهد.
أما هذه المتعلمة فلا أسمعك الله تعالى صوت ضحكاتها المدوية التي تهز أركان المكان العام الذي تتواجد فيه مع صديقاتها، فلا تجعل أحداً ممن حولها في المكان يهنأ بجلسةٍ ولا حديث، فلتسعد هي وتهنأ على طريقتها، وليذهب الجميع إلى الجحيم، وهذه أخرى تسير في الشارع مع صديقاتها وبيدها كيسًا تأكل منه، وفي الأخرى زجاجة تشرب منها، فإذا انتهت من أحدهما ألقته في عرض الطريق دون اكتراث!
أما هذا فرجل متعلم لكنك لو رأيته وهو يأكل لقررت الصيام مدى الدهر، فلا أراك الله فمه المفتوح أثناء مضغ الطعام حتى ليكاد يريك بلعومه، ولا أسمعك الله صوت فكيه وهما يمضغان الطعام، أما عن كم الأطعمة التي يلتهمها فإنها تكفي لجعلك تقسم مستريحاً بأن هذا الرجل إما خرج من مجاعة، أو مقبل على مجاعة!
وهذه متعلمة اصطحبت أبناءها الخمسة الصغار في زيارةٍ لإحدى صديقاتها، فانطلق الأطفال على مقتنيات المنزل المرتب يلهون بكل شيء، ويحطمون ما يقبل التحطيم، غير عابئين بقيمته المادية أو المعنوية لأصحاب المنزل، وسط سعادة بالغة منهم، وتجاهلٍ تامٍ من قبل أمهم، وحرجٍ وضيقٍ وحزنٍ من قبل المضيفة صاحبة المنزل.
ناهيك عن أولئك الذين يرفعون أصوات أجهزة التسجيل أو أجهزة التلفاز لديهم، أو أجهزة التنبيه في سياراتهم، زاعمين أنهم أحرار طالما كانوا داخل مساكنهم أو سياراتهم، غير عابئين بجيرانهم وما يسببه ذلك لهم من إزعاج، ولا يعلم هؤلاء أن نهاية حريتهم عند بداية حريات الآخرين، فإن كان من حقهم أن يسمعوا التلفاز فإن من حق الآخرين ألا يصلهم صوته، فأنت حر ما لم تضر.
هذه بعض نماذج – على سبيل المثال لا الحصر – لأناسٍ حرصت على وصفهم بـ “المتعلمين” كي أؤكد أنهم رغم تعلمهم، ورغم انتمائهم إلى طبقات اجتماعية – راقية – في بعض الأحيان، إلا أن بعداً ما قد غاب عن تربيتهم وتنشئتهم، هذا البعد لم يراعه الوالدان في المنزل، أو المعلمون في المدرسة، أو مصممو المناهج التعليمية، وللأسف الشديد فإن هذا البعد هو: ” تربية الذوق الرفيع “، أو ما يعرف في عصرنا الحالي بآداب ” الإتيكيت “.
وقد أعلى ديننا الإسلامي الحنيف من شأن آداب الذوق الرفيع كاملةً غير منقوصة ، فحدد آداب المأكل والمشرب والملبس، وآداب النوم، وآداب الزيارة، وآداب التحدث، وآداب الطريق، وآداب التعلم، وآداب التعامل مع الجيران ، وغيرها من الآداب، ولم يترك شاردةً ولا واردة في هذا المجال إلا فصل الحديث عنها سواءً أكان هذا الحديث في القرآن الكريم، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ” (النور : 27،28) و قوله تعالى: ” وَلا تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس وَلا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، وَاقْصدْ في مَشْيكَ وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوات لَصَوْتُ الْحَمير” (لقمان : 18،19)
وقد زخرت السنة النبوية المطهرة بالدعوة إلى كل جميل ٍ من الخصال والفعال، لذا فقد حرص كثير من المصنفين على إفراد كتابٍ في مصنفاتهم عن ” الأدب” أو “الآداب”، ومن الشواهد في هذا المجال قول رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ” يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك “، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته ” ( رواه الشيخان).
وكذلك حضه صلى الله عليه وسلم في غير حديثٍ على التزام السلوك الراقي ، والآداب العالية ، ومن ذلك دعوته صلى الله عليه وسلم للتطهر والعناية بالنظافة الشخصية والتجمل والتطيب، وقول الحسنى ، والابتعاد عن الفحش والبذاءة ،والدعوة كذلك إلى بر الوالدين ، وحسن الجوار، وتوقير الكبير، ورحمة الصغير، والاعتراف بفضل العالم، وإنزال الناس منازلهم، وإكرام المرأة ، والإحسان إلى المغاير في العقيدة، وإماطة الأذى عن الطريق، ومقابلة الإساءة بالإحسان، والعطف على الضعفاء والمساكين، والإحسان إلى الأسرى، والرفق بالحيوان ،والتزام آداب الزيارة، وإكرام الضيف ، وعيادة المريض.
فأين مؤسساتنا التربوية – الرسمية وغير الرسمية – من هذا المعين المتدفق من آداب الذوق الرفيع، إنني – ومن خلال هذا المقال – أدعو كل أبٍ وأم، وكل معلمٍ ومعلمة، وكل مسؤولٍ عن التعليم، ألا يهملوا هذا الجانب الهام من جوانب التربية، وهو: ” تربية الذوق الرفيع في نفوس الأبناء والناشئة “، لأنهم إن لم يفعلوا هذا أو قصروا فيه فسيكون المجتمع بأسره ضحيةً لهذا التقصير، لما سيواجه أفراده من سلوكيات خارجة، وأفعالٍ مزعجة تتنافى وآداب الذوق الرفيع.
كما يجب الوقوف على ما يمكن لمؤسسات التربية القيام به لتنشئة جيلٍ مؤمنٍ بالذوق الرفيع كأسلوب حياة، يتخذ من الجمال قبلة ووسيلة وغاية، جيلٍ يجسد الرقي سلوكاً ممارساً، والجمال سيماً وخصالاً، مما يصب في النهاية في بناء مجتمعٍ متحضرٍ بعيدٍ عن السلوك الغوغائي البربري، يحرص أفراده على إبراز الجمال والرقي في كافة الجوانب المعنوية والمادية.