حكايا شهريار.. لو كنت طبيبي (5)

شرين خليل | مصر 

اللوحة للفنان إدوارد مانيه

دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ
وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ

لم أشعر بنفسي إلا وأنا في المستشفي وبجانبي طبيب زميلي يحاول إفاقتي وإخراجي من الحالة التي كنت عليها ؛ قال لي مداعبا :
(معقول يادكتور تنفعل بالشكل دا عشان خسرنا الماتش.. أول مرة اخد بالي إنك رياضي متعصب جدا .. بس مكانش باين عليك .عموما المرة دي عدت علي خير لكن بعد كدة هايكون خطر .. وإنت سيد العارفين .
هنعمل الأشعة والتحاليل دي وإن شاء الله تكون في بيتك إنهاردة.
خرج زميلي ودخلت زوجتي وأولادي، جلست زوجتي بجانبي وهي لا تنطق بكلمة واحدة.. ولكنها لازمتني في صمت أثناء إجراء الأشعة والتحاليل ..
وأخيرا، عدت الي المنزل وكلمات الأطباء تخالط أفكاري المضطربة . ممنوع الإنفعال والإجهاد في العمل .. الراحة مطلوبة ..
ومرت عدة أيام وزوجتي مازالت صامتة .. .. جامدة الملامح .. لا تتحدث إلا بكلمات مقتضبة .. ولكني أري في عينيها تساؤلات كثيرة وحزن شديد كانت بداخلي رغبه شديدة في التحدث معها حتي أتخلص من كل هذه المتاعب والظنون..
وشيئا فشيئا تعافيت تماما وطلبت أن أتحدث معها ودار بيني وبينها الحوار الذي كنت أنتظره حتي أنهي مابداخلها من ظنون :
-واضح إنك زعلانة ، ومش عارف السبب . بس قبل أي كلام في حاجة غريبة مش فاهمها !! يوم ما تعبت لقيتك قدامي في الكافيه هو أنتي بتراقبيني ؟
-أرااقبك ؟!! لا طبعا ، أنا إتصلت عليك ماردتش إتصلت علي العيادة قالولي إنك كنت بتتخانق مع واحدة .. وبعدين نزلت الكافية عشان الماتش.. فأنا قلقت وجيت وشفتك وإنت قاعد مع الهانم قاعدة ملهاش دعوة بالماتش .. والظاهر كان الحوار ممتع لدرجة إنك مش حاسس باللي حواليك..
قاطعتها بعنف :
بتهيألي لو عاوز أقعد قاعدة رومانسية زي ما حضرتك بتلمحي .. مش هتكون في مكان عام زي دا ويوم ماتش مصر .
-بس منظركم زي ما تكونوا مخطوبين جديد ،وتعبيراتك ونظراتك لها كانت كلها حب وغرام.
-تحليل رائع نابع من خيالك الواسع. الحكاية ومافيها إن أنا كنت إنفعلت عليها في العيادة علي سبب تافه وكنت بحاول أصلح الموقف.. وكان لازم اتكلم معها بهدوء لإنها من طرف واحد زميلي وماكنش ينفع أتعامل معاها بإسلوب سئ… والحمد لله إنتي جيتي وكان قاعد حوالينا جمهور بيشجع مصر .. يعني مفيش أي رومانسية ولا حاجة من اللي في خيالك
-طيب ممكن أعرف تطلع مين الست دي ؟ وإيه حكايتها معاك .. من العيادة لحد الطبطبة وحب مصر في الكافية.
-أولا: لازم تعرفي يا هانم أنا دكتور . و بحكم مهنتي بقابل ناس كتير .. وبقعد مع ناس كتير ، رجالة وستات ، لكن سيادتك دايما عندك شك وغيرة أزيد من اللازم .وبلاش لهجة السخرية دي في الكلام.
وبعدين كنتي كلمتيني وقتها مش تقفي بعيد زي المخبرين تراقبي .. وأول ما أشوفك تمشي. وأنا يومها كنت مجهد جدا وإنتي شفتي اللي حصل بعدها. تعبت ووقعت ودخلت المستشفي و كان المفروض تكوني جنبي .
-شكي وغيرتي مش من فراغ أنا كل شوية ألاقي لك حكايات مختلفة مع ستات كتير .. ومستحملة عشان الدنيا تمشي.. أنا بجد تعبت مش عارفه أرضيك إزاي!؟
-اللي في دماغك دا كله وهم إنتي عايشاه؛ إنتي خنقتيني، وبتراقبيني ومشغله عليا جواسيس وأنا عارف وساكت وحتي لو كلمت ستات فدا شغل ولو مش شغل يبقي تسألي نفسك أنا ليه بعمل كدة
ردت بحدة ..
أنا مقصرتش في حاجة أنت اللي دايما بعيد ومش عايش معانا ماتعرفش حاجة عن البيت وعني وعن الأولاد أنا دايما اللي بضحي وبتعب وبتنازل عشان إنت تكون الأفضل .
-وأنا بعمل كل دا ليه مش عشان خاطركوا ، بهلك نفسي في الشغل عشان تركبوا أفخم العربيات وتعيشوا أحلي عيشة .
– بس إحنا محتاجينك ..
– يامدام أنا بحافظ لك علي المستوى اللي إنتي إتعودتي عليه والمنظر والوضع الإجتماعي اللي إنتي عاوزاه واللي بتتباهي بيه قدام صحباتك والناس اللي حواليكي. يعني أنا مش مقصر وبضحي أكتر منك ،هو كل دا مش من صحتي ومجهودي؟؟؟ .أنا مش عايش حياتي زي أي حد حتي لما بسافر بيكون شغل يبقي نستحمل و نكمل سوا ونحافظ علي كل حاجة عشان ولادنا.
– واضح إن وجودي في حياتك مهم بس عشان الأولاد .
-أنا ماقولتش كدة إنتي رفيقة عمري ومقدرش أكمل من غيرك .إحنا بدأنا سوا وعمري ماأنسي إنك كنتي بتسانديني وواقفة جنبي ومعايا وعمري ما أنكر فضلك عليا مهما حصل .فياريت تطلعي الأوهام اللي في دماغك دي.. ولو كنت قصرت معاكي في حياتنا أوأولادنا .. لازم تسامحيني وتقفي جنبي يمكن يكون عندي مشكلة .. أو حاجة خارجة عن إرادتي .
-أنت دايما بعيد عننا حتي وإنت معانا مشغول وكأن شغلك هو حياتك .كل إهتمامك بشغلك وبس ..
-واضح إنك ناسية حاجة مهمة جدا ..ناسية إن الدكتور بيمر بمراحل كتيرة جدا وأهم مرحلة في حياته هي مرحلة الشهرة؛المرحلة اللي بيوصلهابعد تعب ومعاناة. وبعد المرحلة دي بتبدأ مرحلة الهبوط وغيره بياخد الشهرة مكانه .فأنا لازم أستغل المرحلة دي وأحافظ عليها بشتي الطرق لإن هايجي اليوم اللي نقول فيه يااا شوف كنا فين وبقينا فين. ماتقلاقيش هايجي اليوم اللي نقعد جنب بعض ونقول ولا يوم من أيام الشغل ..
– أنا عارفه كل دا بس أحلي أيام عمرنا هاتكون عدت ..
-دي حياتنا ومحدش بيختار حياته والناس بتحسدنا عليها يبقي نهدي شوية بقي ونشوف مستقبل ولادنا ..
– لكن أنا محتاجه أعرف مين اللي كانت معاك ؟
– مفيش فايدة ،، هاقولك ,,
دي واحدة كنت بساعدها في البحث بتاعها وهي خلاص زمانها سافرت يعني كان شغل وإنتهي .
-وأنا المفروض أصدق زي مابصدق كل مرة .
-هي دي الحقيقة.
– المرة دي إنت فعلا كنت متغير . دي مش زي كل مرة .مش حكاية بحث لأ ..ولا شغل ..دي حكاية أكبر ..
– طيب اعمل إيه بس عشان تقتنعي. أقولك.. إحنا محتاجين نسافر في مكان هادئ نرتاح فيه من الشغل ونهدي أعصابنا. فكري وشوفي عاوزة تروحي فين وأنا تحت أمرك .. أنا نازل الشغل وهاخد أجازة عشان خاطرك إنتي والأولاد ..
ذهبت إلي عملي وبعد الإنتهاء من العمل جلست أسترجع الذكريات وأخرجت الهدية التي إحتفظت بها في حقيبتي (كتاب الأحلام) لقد كانت حلما جميلا علي الرغم من الألم الذي تركته بداخلي فهي تركت أيضا ذكري جميلة وشيئا مختلفاً حقا لقد كانت مختلفة عن الجميع ..
فتحت الكتاب ووقعت عيني علي هذه الكلمات وكأنها رسالة لي :
“إن الموت أهون ….من أن نعيش حياتنا بلا حب ….
وأعظم حب هو أن نحب الخالق العظيم الذي خلقنا ونعطي له وجهنا كما تعطي زهرة عباد الشمس وجهها للشمس”.
أوحت لي هذه الكلمات بفكرة ستجعل زوجتي ترضي عني وهي السفر لإداء العمرة وبالفعل كانت فكرة جيدة وسافرنا ..
ومرت الأيام وأنا أحاول إرضاء زوجتي وأحاول أن أجعلها تنسي ولكنها بين الحين والآخر تتذكر ماحدث وتهدد أيضا بأنه لو تكرر ستكون العواقب وخيمة وأنا أحاول أن أكون زوج مثالي بقدر المستطاع ..
تركت عيادتي القديمة وإنتقلت إلي مكان أفضل وأرقي وحاولت أن أنسي كل شئ حتي الذكريات التي كانت من وقت لآخر تطرق بابي بشدة وتأخذ قلبي ..
وفي يوم دخلت مريضة ليست كأي مريضة تحمل أشعة كثيرة.. جلست أمامي عندما رأيتها سألتها ..
أنا حاسس إني أعرفك أو شفتك قبل كده بس فين مش فاكر !!!!!!؟
-في الأسانسير ..
أنا ساكنة هنا وقابلتك في الأسانسير و قولت لك إنك بتركن عربيتك في مكان عربيتي و أرسلت لك البواب قبل كدة

-أيوا أفتكرت أهلا بيكي نورتي ..

-شكرا لحضرتك جدا بس واضح إن ذاكرتك قوية جدا..

-مش مع كل الناس ،في ناس حتي لو شفناها مرة واحدة منقدرش ننساها العمر كله.. -قولي لي بقي بتشتكي من إيه ؟
مش أنا ..دا والدي تعبان ودي الأشعة بتاعته والدكتور اللي قبلك قال عملية وأنا جبت لك الأشعة عشان تقولي أعمل إيه وبعدين أجيب لك والدي لانه مش بيقدر يتحرك ..
كنت مهتم بها جدا فيبدو أنها إنسانة مميزة وضحت لها الأشعة ووصفت لها بعض الأدوية وطمأنتها علي حالة والدها وشعرت بفرحة عارمة في عينيها عندما أخبرتها أن حالة والدها جيدة ولن يحتاج إلي إجراء أي عمليات فيكفي أن يلتزم بالأدوية والراحة .
علمت منها أنها جاءت لتعيش مع والدها بعد وفاة زوجها وتجد في والدها الأمن والأمان فلا يوجد معها أحد سوي والدها وطفلتيها .

وجدت نفسي من غير ما أشعر بكتب لها رقم تليفوني قائلا :
-دا رقمي لو إحتاجتي أي حاجه كلميني علي طول حتى بالليل أصل أنا كائن ليلي ..
ضحكت جدا قائلة كائن ليلي؟!!!!
-أي نعم ..
أنا حياتي بتبدأ بعد الإنتهاء من العمل ببقي محتاج أعيش الحياة الطبيعية اللي أنسي فيها إني دكتور وطول النهار مع المرضي والأدوية ببقي محتاج أحس إني إنسان عادي وبسيط وأبعد عن الرسميات والروتين والحياة الصعبة اللي طول النهار بكون فيها بس أهم حاجه إنتي بتحضري ماجيستير أو دكتوراة؟؟؟؟
ردت وهي مندهشه:
إشمعني ؟!!!!!!
-يعني بسأل سؤال عادي دردشه يعني ..
-كنت فكرت أكمل في إدارة الأعمال لكن أنا بعمل مشروع أنا و واحدة صاحبتي ومعنديش وقت
-مشروع !! مشروع إيه ؟
-جاليري
-جميل جدا عموما لو إحتاجتي شريك أنا موجود وأتمني بجد .
-بجد نتمني طبعا وجود حضرتك معانا إضافه لينا وبجد بجد
حضرتك تشرفنا جدا
وهاننتظرك في الإفتتاح قريبا
-هايل،عموما أنا منتظر إتصالك
-إن شاء الله أكيد ..
سلام ..
وخرجت وأخذت عقلي وقلبي..
واضح فعلا إني بعيش مرحلة لم أعشها في الماضي.
مراهقة !!
هل حقا أنا أفتقد هذة المرحلة ؟؟؟
لم يكن لي مغامرات في الماضي حتي عندما أعجبت بفتاة وأنا في المرحلة الثانوية لم أستطع أن أعبر لها فأنا لم يكن مصرح لي بحرية التعبير أو الأختيار ..نجحت بمجموع مرتفع جدا ، فأنا من الجيل الذي كانوا يطلقون عليه آخر جيل العمالقة، كنت أتمني أن ألتحق بكلية الهندسة ولكن غير مسموح لي بالإختيار أيضا في هذه الأمور ..والدي كان يحبني بشدة ويخاف علي جدا لذا كان يخطط لي دائما ويرسم لي الخريطة التي أتبعها في حياتي وكان أخي الأكبر يسير علي هذا النهج وأنا كل ما أفعله هو السمع والطاعة ..
ومن عادة عائلتنا الزواج والإرتباط من أولاد العم وأولاد الخال ولذا إرتبطت مبكرا جدا في سن لايسمح بالإرتباط ولكن هذا إختيار أبي ولكن بعد فترة تركتني خطيبتي وتم الفراق بيننا ..كان شيئا خارجا عن إرادتي ..
لم يتركني أبي لأخذ هدنة ولكن لابد أن أختار فتاة لكي أرتبط بها وأنا مازلت طالبا في الجامعة وأختارت زوجتي وكان إختيار جيدا بل ممتاز فهي بها كل الصفات التي كنت أتمناها ..
أعلم جيدا أنني مخطئ والعيب بداخلي أنا وليس في زوجتي ولا في أبي ولا أخي ..
ولكن أشعر أنه من حقي أن أخرج من الدائرة وأبحث عن نفسي ..فأنا منذ إلتحاقي بكلية الطب والجميع ينظر إلي نظرة الإنسان المثالي الذي لا يخطئ أبدا ..
دائما أسمع المقولة أنت طبيب لا تفعل هذا ..أنت طبيب لا تقل هذا ..
أنت طبيب لا تلبس هذا ..
فمن الطبيعي أن أتمرد وأهرب من هذة القيود وأعيش حياتي مثل باقي البشر ألبس ما أريد ،أجلس في المقهي ..كنت أهرب في الليل وأبحث عن من يسمعني دون قيود ..
وفجأة جاء لي إتصال أخرجني من هذه الدوامة..نظرت في الهاتف رقم سهل الحفظ ومميز..
فأنا لدي قدرة عالية علي حفظ الأرقام كنت ممتاز جدا في الرياضيات، وبحب درس الرياضيات وذكرياته ، ولابد أن أحفظ الأرقام جيدا ولا أسجلها علي هاتفي فزوجتي من الحين للآخر تقوم بعملية تفتيش للهاتف .
رديت علي الهاتف وكانت أحلي مراهقة ..أقصد مفاجأة ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى