في رحاب الشعر.. متمم بن نويرة في رثاء أخيه
بقلم: محس جهاد الماجدي
منذ أن عرف العرب الشِّعر وتغنوا به، كان الغزل هو النَّوع الأول ويكاد يكون العمود والأساس اللذان بني عليه الشَّعر، ولا نقلل من قيمة بقية أغراض الشِّعر من المدح، والفخر والرِّثاء وغيرها، واليوم في هذه الرَّحبة من رحاب الشَّعر، سنتحدث عن غرض إنسانيّ قريب من القلب، ألا وهو الرِّثاء إذ برعت أمة العَّرب في نظم الشِّعر، واحتلت مكانةً مرموقةً بين الأمم، فإذا كانت الأمة الفارسية تتباهى بأنها أمة خطابة، والأمة الإغريقية أمة فلسفة فإن العرب أمة شاعرة وتتباها بشاعريتها، فقد عبّرت في القصائد الشِّعرية من المعلقات مرورا بعصور الشّعر إسلامية كانت أو أموية أو عباسية عن صدق مشاعرها وأحاسيسها، لا سيما في شعر الرِّثاء الذي أحسن الشُّعراء العب نظمه، جتى مالوا على أنفسهن ورثوا النساء بقصائد فاخرة، وتبقى قصيدة الشريف الرضي برثاء أمه، علامة بارزة في الأدب العربي،
أَبكيكِ لَو نَقَعَ الغَليلَ بُكائي وَأَقولُ لَو ذَهَبَ المَقالُ بِداءِ
وَأَعوذُ بِالصَبرِ الجَميلِ تَعَزِّياً لَو كانَ بِالصَبرِ الجَميلِ عَزائي
طوراً تُكاثِرُني الدُموعُ وَتارَةً آوي إِلى أَكرومَتي وَحَيائي
كَم عَبرَةٍ مَوَّهتُها بِأَنامِلي وَسَتَرتُها مُتَجَمِّلاً بِرِدائي
أُبدي التَجَلُّدَ لِلعَدوِّ وَلَو دَرى بِتَمَلمُلي لَقَد اِشتَفى أَعدائي
فقد صوروا مشاعر الحزن والألم، ونوّعوا في الأساليب الفنية، مُعبرين عن حجم الخسارة التي واجهوها، وشعر الرّثاء من أصدق أنواع الشعر إذ يعبر عن صدق المشاعر والإحساس، واشتهر في هذا الغرض من الشعر، الخنساء، وأبو ذؤيب الهذلي، ومتمم بن نويرة، والرثاء لغةً هو البكاء على الميت وذكر محاسنه، ويقال رثى له أي رحمه ورقّ له، أمّا الرّثاء في الاصطلاح، فهو الثناء على الميت وذكر محاسنه، وخصاله الحميدة، وذكر ما يتركه فقد الميت في القلوب من حسرة وحزن وفزع0 عرف الشّعراء العرب الرّثاء في عصور ما قبل الإسلام وما زال حتى وقتنا الحالي، حيث كان الرّثاء من أغراض الشعر الأساسية عند العرب، إذ نظَّم فيه معظم الشعراءـ لما له من وصف صادق لعمق العلاقات الاجتماعية. يعتبر شعر الرثاء من أصفى وأعمق أنواع الشعر العاطفي، إذ إنّه يتناسب مع النفس الإنسانية، وذلك لأنّه يعبّر عن المشاعر التي يكنها الأديب في قلبه، فهي نابعة من القلب، كما أنّه كلما كانت صلة الشّاعر بالميت كبيرة زادت قوة وصدق القصائد الرّثائية. ولابد أن نميز بين الرّثاء الحقيقي الذي يمتاز به به قرب الشّاعر من الذي يرثيه، لذا سنحدد هذه الرحبة من رحاب الشّعر لشاعر الرثّاء الذي يعتبر من أهم شعراء هذا الغرض الشّعري، ألا وهو متمم بن نويرة، وهو متمم بن نويرة بن جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة اليربوعي التميمي، من الفرسان والشعراء المخضرمين، عاش حياته ما بين الجاهلية والإسلام، لم يذكر مؤرخو الأدب سنة ميلاده ولكنّهم رجّحوا أن تكون وفاته نحوًا من 30هـ. عاش كثيرًا من سنوات حياته في الجاهلية فكان من أشهر شعراء الجاهلية، وأسلم مع أخيه مالك وحسُن إسلامه، كنيته الأشهر التي اشتُهر بها هي أبو نهشل، كان من وجهاء قومه وصار سيّدهم بعد مقتل أخيه مالك، وهو في عداد الصحابة -رضي الله عنهم-، له ولدان تذكرهما المصادر وهما: إبراهيم وداود، وكانا شاعرين خطيبَين لهما مكانة عالية عند الخلفاء والوجهاء فيما بعد. كان قصيرًا أعورَ؛ حيث فقد إحدى عينيه في حرب أو نحو ذلك، وكان جسيمًا كذلك، تزوّج بعد مقتل أخيه مالك الذي أبدع واشتهر صيته في مدحه، عند قدومه المدينة المنورة، فتزوّج امرأة اسمها هند، ولم يلبث أن طلّقها، ويبدو أنّه تزوّج بعدها امرأة يذكرها في شعره اسمها أم خالد، قتل أخاه مالك في حروب الردة قتله خالد بن الوليد بعد منعه الزكاة وله في قصة وفاته آراء عدة. ومن أجمل ما قال في رثاء أخيه:
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذرافِ الدموع السوافكِ
أمِن أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائحٌ على كلّ قبرٍ أو على كلّ هالك
فقال أتبكي كلَّ قبرٍ رأيته لقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدكادك
فقلتُ له إن الشَّجا يبعثُ الشَّجا فدعني فهذا كلُّه قبر مالك
وهذا البيت قيل عنه إنه أرثى بيت قالته العرب ثم قال راثيا أخاه :ِ
ألَم تَرَه فينا يقسِّمُ مالَهُ وتأوي إليه مرملاتُ الضرائك
فآخِرُ آياتٍ مُناخ مطيةٍ ورحلٍ علافيّ على متن حارك
فلما استوى كالبدر بين شعوبه وأمَّت بهاديها فجاج المهالك
بعينيّ قطاميّ تأوَّبَ مَرقباً فبات به كانّهُ عين فارك
أطفنا به نستحفظ الله نفسه نقولُ له مصاحباً غير هالك
يثير قطا القنعاء في كل ليلةٍ إذا حنَّ فحلُ الشَّولِ وسط المبارك
وله أيضا وهي من عيون شعر الرثاء العربي:
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ولا جَزِعٍ مما أصابَ فأَوجعا
لقد كفّنَ المنهالُ تحت ردائهِ فتىً غيرَ مِبطانِ العشياتِ أروعا
ولا بَرماً تهدي النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
لبيبٌ أعانَ اللُّبَّ منه سماحَةٌ خصيبٌ اذا ما راكبُ الجدب أوضعا
تراه كصَدرِ السيفِ يهتزُ للندى إذا لم تَجد عند امرئ السَّوءِ مطمعا
ويوماً إذا ما كظَّكَ الخَصمُ إن يكن نصيركَ منهم لا تكن أنتَ أضيعا
وإن تَلقَهُ في الشَربِ لا تَلقَ فاحشاً على الكأسِ ذا قاذورةٍ مُتَزَّبعا
وإن ضَرَّسَ الغزوُ الرجالَ رأيتَهُ أخا الحربِ صَدقاً في اللِّقاءِ سَمَيدَعا
وما كان وقّافاً إذا الخيلُ أَحجمت ولا طائشاً عند اللّقاءِ مُدَفّعا
ولا بكَهامٍ بَزّه عن عدوّهِ إذا هو لاقى حاسراً أو مقنّعا
فعينيَّ هلاّ تبكيانِ لمالكٍ إذا أذرَتِ الريحُ الكنيفَ المُرفَعا
وهَبّت شمالاً من تجاه أظايفٍ إذا صادفَت كفَّ المفيض تقفعا
وللشَربِ فابكي مالكاً ولبُهمَةٍ شديد نواحيه على من تَشَجَّعا
وضيفٍ اذا أرغى طروقاً بعيرَه وعانِ ثوى في القدِّ حتى تكنّعا
وأرملةٍ تمشي بأشعَثَ مُحثلٍ كفَرخِ الحُبارى رأسه قد تصوَعا
إذا جَرّدَ القومُ القداح وأوقدت لهم نارُ أيسارٍ كفى من تضجعا
وإن شَهِدَ الايسار لم يُلفَ مالكٌ على الفَرثِ يحمي اللحم ان يتوزَعا
أبي الصبرَ آياتٌ أراها وأنني أرى كلَّ حبلٍ دون حبلكَ أقطعا
وقد كان مجذاماً إلى الحرب ركضه سريعاً الى الداعي إذا هو أفزَعا
وإنّي متى ما أدعُ باسمكَ لا تُجِب وكنتَ جديراً أن تجيبَ وتُسمِعا
وكان جناحي إن نَهضتُ أقلّني ويحوي الجناحُ الريشَ أن يتنَزعا
وعشنا بخيرٍ في الحياة وقبلنا أصابَ المنايا رهطَ كسرى وتبّعا
وكنا كندماني جذيمةَ حقبةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تَفَرّقنا كأني ومالكاً لطول اجتماعِ لم نَبت ليلةٌ معا
فان تكن الأيامُ فَرَّقنَ بيننا فقد بان محموداً أخي حين ودَعا
فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييّةٍ وأشجعَ من ليثٍ إذا ما تَمتَعا
أقول وقد طار السنا في ربابه وجون يَسُحُ المَاءَ حين تريّعا
سقى الله أرضاً حلِّها قبرُ مالكٍ ذهابَ الغوادي المدجناتِ فأمرَعا
وآثَرَ سيلَ الواديّين بديمةٍ تُرشِحُ وسمياً من النَبتِ خِروعا
فمجتمعَ الأسدامِ من حول شارعٍ فروّى جبال القريتينِ فَضَلفَعا
فَوا اللهِ ما أُسقي البلادَ لحبِّها ولكنني أسقي الحبيبَ المودَّعا
تحيتُهُ مني وإن كان نائياً وأمسى تراباً فوقَهُ الأرضُ بلقعا
تقول ابنةُ العمريِّ ما لكَ بعد ما أراكَ حديثاً ناعمَ البالِ أفرَعا
فقلتُ لها طولُ الأسى إذ سألتني ولوعةُ حزنٍ تتركُ الوجهَ أسفعا
وفقدُ بني أمٍّ تَداعَوا فلم أكن خِلافَهُمُ أن استكين وأضرَعا
ولكنني أمضي على ذاك مُقدماً إذا بعضُ من يلقى الحروب تكعكعا
وغَيّرني ما غالَ قيساً ومالكاً وعمراً وجَزءً بالمُشَقَّرِ ألمعا
وما غال نُدماني يزيد وليتني تمليته بالأهلِ والمالِ أجمعا
وإنّي وإن هازلتني قد أصابني من البثّ ما يُبكي الحزين المفجَعا
ولستُ إذا ما الدهرُ أحدثَ نكبةً ورزءاً بزوّار القرائبِ أخضعا
قعيدكِ ألاّ تُسمعيني ملامَةً ولا تَنكثي قَرحَ الفؤادِ فييجعا
فَقَصرَكِ أنّي قد شهدتُ فلم أجد بكفيّ عنهم للمنية مَدفعا
فلا فَرِحاً إن كنتُ يوماً بغبطة ولا جَزِعاً مما أصاب فأوجعا
فلو أن ما ألقى يصيب مُتالعاً أو الركن من سلمى اذا لتضعضعا
وما وَجدُ أظَآرٍ ثلاث روائمٍ أصبَنَ مجَراً من حوار ومَصرعَا
يذكرَن ذا البثّ الحزينَ ببثِّه إذا حَنّت الأولى سَجعنَ لها معا
إذا شارف منهنّ قامت فرجَعت حنينا فأبكى شجوها البَركَ أجمعا
بأوجدَ مني يوم قامَ بمالكٍ منادٍ بصير بالفراق فأسمعا
فإن يكُ حزن أو تتابعُ عبرةٍ أذابت عبيطاً من دم الجوفِ مُنقَعا
تجرعتها في مالكٍ واحتسيتها لأعظم منها ما احتسى وتجرَّعا
ألم تأتِ أخبارُ المحلّ سراتكم فَيغضَب منكم كلُ من كان موجعا
بمشمته إذ صادفَ الحتفُ مالكاً ومشهده ما قد رأى ثم ضَيّعا
أأَثرتَ هِدماً بالياً وسويّةً؟ وجئتَ بها تعدو بريداً مُقَزَّعا
فلا تَفرحَن يوماً بنفسك أنني أرى الموتَ وقّاعاً على من تَشَجّعا
لعلَّكَ يوماً إن تُلِمَّ مُلّمَةٌ عليك من اللآئي يدعنك أجدَعا
نعيتَ امرءًا لو كان لحمُك عندَه لآواه مجموعاً له أو مُمَزَّعا
فلا يُهنئ الواشين مقتلُ مالكٍ فقد آبَ شانيه إياباً فوَدّعا
ومن نوادر الأحداث في حياة متمم بن نويرة إذ لمّا استشهد زيد بن الخطّاب يوم مسيلمة ودخل متمّم على عمر بن الخطّاب فقال له: أنشدني بعض ما قلت في أخيك، فأنشده:
وكنّا كندماني جذيمـة حقبة من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا
فلمّا تفرّقنا كأني ومــالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا
فقال له عمر: يا متمّم، لو كنت أقول الشعر لسرني أن أقول في زيد بن الخطاب مثل ما قلت فى أخيك، قال متمّم: يا أمير المؤمنين، لو قتل أخي قتلة أخيك ما قلت فيه شعرا أبداً ، فقال عمر: يا متمم، ما عزّاني أحد في أخي بأحسن ممّا عزيتني وهذا فيض من غيض متمم بنويرة وأخيه مالك بن نويرة.