مجازٌ تائهٌ إلى الوحي.. نصوص الحجر والعزلة
ناصر أبو عون
يظلُ المشهدُ الثقافيُّ في ليبيا يُنبيء عن ظواهرَ إبداعيةٍ، ويومًا بعدَ آخرَ تكشفُ شمسُه الساطعةُ فوقَ رمالِ الثَّقافة المغاربيّةِ عن رؤىً شعريةٍ تتميزُ بالجِدَّةِ والحداثةِ، وتطلعُ من وراءِ سُحبِ الدُخَانِ الكثيفِ بهيَّةً مشرقةً؛ صقلتها التجربةُ، لتنفضَ عنها غبارَ الموات، وتنبعثَ من تحت ركامِ الظلامِ الاصطناعيّ الذي أطفأتْ أقمارَه الماكينةُ السياسيّةُ طوال عقودٍ ستةٍ خلَتْ، فقطَّعتْ أوصالَه، ومزَّقتْ نِياطَ وَصْلِه بمحيطِهِ الجغرافيّ، وحَالَتْ بينه وبين الاتصالِ المباشرِ بالحركةِ الحداثويةِ في شَمالِ المتوسطِ تحت دعاوى التغريبِ والغزوِ الثقافيّ، وأغرقَته في بحرِ الرمالِ المتحركةِ المانعِ الصحراويّ الوهميّ مع جيرانِه العربِ الخُلّص؛ إيذانًا ببعثٍ جديدٍ لحركةٍ أدبيّةٍ لها خُصوصيتُها؛ دأبتْ تنفضُ عنها غبارَ النسيانِ والتنائي؛ لتضعَ نفسَها في القلبِ وتقتربَ في دورانِها الحثيثِ من نواةِ المركزِ.
في هذا السِّياق التاريخيّ والاستثنائي يطلعُ علينا الشاعرُ الليبيُّ “المهدي الحمروني” ليعيدَ توجيهَ البوصلةِ، ويشرعَ في بناءِ وإعادةِ تشكيلِ المشهدِ الثقافيّ؛ معَ ثُلّةٍ من رفاقِ الدربِ، وإن بدتْ له خصوصيةٌ إبداعيةٌ مغايرةٌ، تتخطَّى المألوفَ، وتقفزُ على حواجزِ الوهْمِ، وتُعرّي المُستترَ، وتفضحُ المسكوتَ عنه، وتفتحُ الأبوابَ المغلقة؛ لتتنسم عبيرَ الحرية الإبداعيةِ.
تمتازُ شعريةُ المهدي الحمروني – والتي بدت جليةً – في ديوانِه (مجازٌ تائهٌ إلى الوحي.. نصوص الحجر والعزلة) بالعديدِ من السِّمات؛ فعلى صعيدِ الرؤيةِ؛ فهي حداثويّةٌ لم تتفلَّتْ من عِقالها التراثيّ، ولم تقطعْ صِلتها بالموروثِ، ولمْ ترفعْ رايةَ التمرّدِ على تاريخِها إلى درجةِ إعلانِ القطيعةِ الكُليّةِ.
أمَّا على صعيدِ البنيةِ الإيقاعيةِ للقصيدةِ؛ فنجِدُ “الحمروني” يصنعُ تشكيلًا منَ المُتجاوراتِ الإيقاعيةِ رابِطُها المِحوريُّ الإيقاعُ الدَّاخِليُّ؛ فهو البؤرةُ المركزيّةُ الجَامعةُ مَا بينَ القصيدةِ الكلاسيكيةِ في شكلِها الحَداثويِّ في رُؤيتِها، وقصيدةِ التفعيلةِ الدَّوارةِ في سمتِها، وقصيدةِ النثرِ في جنوحِها، و وَحْشيتِها وغرائبيتِها.
وعندما ندخلُ إلى عَتبةِ المعجم اللغويّ نرى الحمروني ينحتُ كلماتٍ جديدة من جذورٍ لغويةٍ عميقةٍ الأصالةِ، ويتقفَّى أثرَ الكلماتِ في استعمالِها الحَداثويِّ، ويُنضِّدُ ألفاظَه على حِبالِ الوَصلِ بينَ التراثيّ والحديثِ؛ ليُعيدَ تدويرَها واستعمالَها في تشكيلاتٍ شِعريةٍ طريفةٍ.
ثم تأتي الصورةُ، وما أدراكَ مَا الصورةُ الشعريةُ في نصوصِ المهديّ الحمروني، فهي على أشكالٍ أربعةٍ؛ (صورةٍ غرائبيّةٍ) أحيانًا وتحتاجُ إلى حصافةٍ في تفكيكِ رموزِها، و(صورةٍ حداثويةٍ) في الأعمِّ الأغلبِ غيرَ أنها مرتبطةٌ بجذورٍ تُراثيةٍ لا تنفكُ عنها ومتلازمةٌ لا تغادرُها، و(صورةٍ تركيبيةٍ) ذاتِ شفراتٍ خاصةٍ صنعتْها التجربةُ العميقةُ للشاعرِ، أمَّا (الصورة الرابعةُ) فهي (صورةٌ شكلانيّةٌ) ظاهرُها البَساطةُ وباطِنُها التَّعقيدٌ المؤنق.
أمَّا على صعيدِ البِناءِ اللغوي والبيانِيِّ لعتباتِ النَّصِ عند المهدي الحمروني، وخاصةً في عناوينِ نصوصهِ فنراه يتقصَّى أثرَ اللغةِ المُخاتلةِ، وربَّما يكون التوصيفُ الأكثرُ دِقَّةً أنّ عتباتِ القصائدِ ليستْ إلا فِخَاخًا منصوبةً بِاحترافيّةٍ للقاريءِ، إنَّها شِراكٌ مَجازيّةٌ لاصطيادِ الذئاب الشِّعريّة، ومحترفي القراءةِ، والمُتدثرين بِعَبَاءاتِ النَّقدِ.