حفيف أجنحة جبرائيل . . للسهروردى
د. يوسف زيدان | مصر – الإسكندرية
نتوقف عند نصٍّ أدبى فريد، هو (رؤيا) قدَّمها لنا السهروردى فى قصته الشائقة المشوِّقة التى جعلها بعنوان «حفيف أجنحة جبرائيل» لأنها تفسِّر الاعتقاد الصوفى، الإشراقى، القائل بأن جميع ما فى الوجود، هو صوت جناحىْ الملاك جبرائيل.. مَنْ هو السهروردى؟
هناك مجموعة من المشاهير فى تراثنا، يحملون هذا اللقب الذى هو «نسبة» إلى بلدة سُهْرَوَرْد الواقعة ببلاد فارس (إيران الحالية) وأشهر هؤلاء اثنان، كلاهما يحمل الكنية ذاتها، واللقب، ويفرِّق بينهما المؤرِّخون بذكر أهم مؤلفات كُلٍّ منهما، فيقولون، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب عوارف المعارف، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب حكمة الإشراق..
ومقصودنا منهما فى هذه المقالة، الثانى، وهو الملقب أيضاً بشيخ الإشراق، مع أنه قُتل فى شبابه (فى سن السادسة والثلاثين) لكنه يُعرف بشيخ الإشراق، لأنه مؤسس الاتجاه الصوفى الشهير، المعروف باسم (الإشراقية) لأنه يقوم على فكرة رئيسة، هى أن الوجود عبارة عن مراتب نورانية متتالية، أعلاها ومنشؤها هو نور الله.
وللسهروردى الإشراقى (المقتول بقلعة حلب، سنة 587 هجرية) مؤلفات كثيرة بالعربية والفارسية، منها كتبٌ مثل: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، اللمحات فى الحقائق. ومنها قصص قصيرة، بديعة اللغة والأفكار، مثل قصة (الغربة الغربية) التى نشرتها فى كتابى: «حىّ بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها»..
وقصة: صفير العنقاء (صفير سيمرغ) التى كتبها بالفارسية. والقصة التى سنتعرف إليها بعد قليل (حفيف أجنحة جبرائيل) وهى نصٌّ أدبى نادر كتبه السهروردى بالفارسية أولاً، ولا نعرف إن كان قد ترجمه للعربية بنفسه، أو أن غيره قام بذلك
قال شيخ الإشراق:
لمَّا انطلقتُ من حُجرة النساء، وتخلصتُ من بعض قيود ولفائف الأطفال. كان ذلك فى ليلةٍ، انجاب فيها الغَسَقُ الشُّهَبىُّ الشكل، مستطيراً عن قبة الفلك اللازوردى، وتبددتْ الظُلمةُ التى هى أخت العدم، على أطراف العالم السفلى.
وبعد أن أمسيتُ فى غاية القنوط من هجمات النوم، أخذتُ شمعاً فى يدى، متضجراً، وقصدت إلى رجال قصر أمى. وطوَّفتُ فى ذلك الليل ، حتى مطلع الفجر. وعندئذ، سنح لى هَوَسُ دخولِ دهليز أبى.
وكان لذلك الدهليز، بابان: أحدهما إلى المدينة، والآخر إلى الصحراء والبساتين. قُمْتُ، فأغلقتُ الباب الذى يؤدى إلى المدينة إغلاقاً محكما، وبعد رتجه، قصدتُ إلى الفتق الذى يؤدى إلى الصحراء. وعندما رفعتُ الترس، نظرتُ، وإذ عشرةُ شيوخٍ، حسان السيماء، قد اصطفوا هناك صفاً صفاً.
وقد أعجبتنى هيئتهم وجلالتهم وهيبتهم وعظمتهم وسناهم، وظهرتْ فىَّ حيرةٌ عظيمة من جمالهم وروعتهم، حتى انقطعتْ عنى مُكْنةُ نطقى. وفى وَجَلٍ عظيمٍ، وفى غايةٍ من الارتجاف، قَدَّمْتُ رجلا وأخَّرتُ أخرى. وعندئذ قلت لنفسى: لنتشجعْ، ولنكنْ مستعدين لخدمتهم، وليكن ما يكون.
توضيح د. زيدان لهذا الجزء :
ابتدأ القصة بانطلاق الروح من أسر الطبيعة (حجرة النساء) وارتقائها عن أحكام المحسوس (قيود ولفائف الأطفال) بملازمة الرياضات الصوفية والمجاهدات (الشموع) التى تكشف ظلام الوجود الحسى.
والجسم الإنسانى هو المقصود بقوله «قصر أمى» لأنه صنعة الطبيعة، أما العالم العلوى (الروحانى) فهو مقصوده بقوله «قصر أبى».. والشيوخ المتجرِّدون، هم العقول السماوية التى لا اتصال بينها وبين العقل الإنسانى، إلا من خلال حلقة واحدة، هى (العقل الفعَّال) الذى يمثل سقف العقل الإنسانى، وقاعدة العقول السماوية العلوية.
وجبريل فى النص، هو المعادل الموضوعى لروح القدس! ونتاج حفيف جناحيه، هى الموجودات الكلية والأنواع، والموجودات الجزئية والشخوص.. ولن أزيد هنا فى بيان (دلالات) هذا النص الرمزى، لأن المراد من إيراد ما قدَّمناه، ليس التعرُّف إلى (أفكار) السهروردى الإشراقية، وإنما الاقتراب من نصٍّ تراثىٍّ فريدٍ، مهجورٍ، والتعرف إليه أسلوبياً.. وفنياً.. وأدبياً.