قراءة تحليلة لنص ( قال ) للشاعر والتشكيلي المصري محمد عكاشة .

هشام صيام | مصر

اللوحة للفنان الهولندي: جيرارد دونك

أولا – نص: قال

ح س
صدري مدينة للنمل
وبطني زريبة لتربية الإبل
وقلبي مخدع لامرأة العزيز
ورأسي غرفة لنساء يقطعن أيديهن
كلما مر أعرابي من هنا

قالت نملة
الأنف للتهوية من أدخنة الحرب
والبلعوم بوابة لصد الأعداء
والقصبة الهوائية صافرة إنذار

ح س

ذراعاي صليب من عظام كلب
وأصابعي طلقات من بارود
وكفاي صكا غفران
وتحت إبطي أسراب نمل يهرع من أقدام الجنود

قالت نملة

الرئة اليمنى
غرفة للسلاح

ح س

كليتي اليمنى غرفة عمليات عسكرية
واليسرى لرسم الحدود
وأمعائي طريق ملتو لأبار النفط
وفتحة شرجي فوهة كهف في ليلة عاصفة
لا تنزاح عنه الصخرة أبدا

قالت نملة

الرئة اليسرى غرفة للبيض

ح س و
رجلاي قدما دابة
ترعى في حشائش الأرض
كلما رفست
تعد رفساتها الملائكة
وكلما
دهست بحافريها للكشف
عن ألغام لم تنفجر بعد
تنسى الملائكة أن تدون خطواتها

قالت نملة

الحاجز بين الصدر والبطن
إستراحة في الشتاء
ظهري حائط للمبكى
وجدار تعلق عليه النسوة
غسيل أطفالهن الرضع
يعلقن عليه تاريخ الغزوات
وصور جنود المقاومة

قالت نملة
عظام الصدر
مقبرة لشهداء النمل
ومقامات لأولياء الله

ح س و
ذكري سن فرجار مدبب
يرسم الدائرة كدوامة بحر
كي تفيض بأطفال للحجارة
يلف الأرض كتنورة صوفي حالم
ذكري ماسورة مدفع قديمة
يعلق عليه أطفال اللاجئين
حبلا طويلا ليتأرجحوا عليه كل صباح

ح س و م

الهيكل العظمي
وطن لكل حشرات الكون

ثانيا – القراءة التحليلية
هنا في هذا النص نحن أمام تناصات كثيرة تسقط على واقع حال، وتلك التناصات الصريحة والمستترة هي مفتاح شيفرة النص الرمزي الذي وَشَّت بكل دقة عن حلولية رؤية شاعر ونحات في ذات اللحظة.
ليضع لنا في المقطع الاخير الداهش تناصات مع قصة الأله ” مين ” وأخرى حول معتقدات خاصة حول مجسمات ” القضيب الذكري ” في عصور سابقة فرعونية ويونانية ورومانية دون الولوج في هذا الأمر سيصبح التأويل لهذا المقطع مغاير لوجهة نظر الحبر وإن ظل المعنى في رحم ناسج الحروف.

.. هنا عندما يقول الكاتب تعبير
” تفيض بأطفال الحجارة ”
هنا الأمر ليس مجرد لقاء جسدي …
… أو تظاهرة ذكورية ..
ولكنها حضورية لتناص يسقط على هذا الميلاد القوي المنتظر لاطفال الحجارة في تناص يحمل روح الظاهرة من قصة الإله ” مين ” أو ” مينو ” الفرعونية التي تحكي عن (هذا الرجل الذي وضع على حراسة القرية وخرج جميع رجالها للحرب وانقطعت اخبارهم لسنوات فباشر النساء، وعندما عاد الجيش وجد ما يشبه الجيش من الأطفال ، فكانت الصدمة من أين أتى هؤلاء الأطفال في غياب الرجال.
فتم تقطيع يد وقدم ” مين ” وقتله، وبعد مرور سنوات تعرضت البلاد لحرب فلم يخرج جيش مين ـ ابناء مين ـ إلا بعد أن قامت الدولة بتخليد ” مين ” على جدران المعابد وتحويله لإله خاص للخصوبة …)
هنا كان هذا الحضور التناصي للعبارة والذي يحمل إسقاط على واقع يحمل رؤية فكر يحمل معنى الأب الرؤيوي لجيل كان هو الدافع لخروج اطفال ـ جيش مينو ـ في تلك الحقبة التأريخية وهو جيل جديد يحمل عزم مختلف استطاع وضع التغيير ومن هذه الفكرة الخاصة بالعزم والتغيير تم الإسقاط على جيل اطفال الحجارة في أواخر القرن الماضي.. في تحوير بديع للقطف الشاعري ليخدم تلك القضية فاطفال الحجارة لم يكن أي منهم نتاج جيل النكبة ولكنه نتاج رؤى مختلفة وعقول مختلفة تعد هي الأب الفكري لهم واستطاع هذا الجيل فرض حضوره وثقافته السياسية نحو القضية على أرض الواقع …
.. وبالنسبة لتعبير
” ذكري ماسورة مدفع قديم
يعلق عليه اطفال اللاجئين ”
هنا نحن أمام هذا التناص الذي يحمل انتماء الشاعر لفن النحت عبر هذا المجسم الخاص بالقضيب الذكري والذي يشبه المدفع بالفعل المدلى منه اجراس معلقة بحبال مجسم كان يوضع على أبواب المنازل والمعابد.
هنا كان الأمر إسقاط من تناص بأسلوب التجريد التشكيلي من رؤى نحات على قرع اجراس التنبيه لقضية اللاجئين ليس للقضية الفلسطينية فحسب ولكن لاطفال شامنا الحبيب ايضا ولكل اطفال تلك الخيمات اللاجئات فتلك القضية تم الإسقاط عليها بصورة رمزية عبر دق نواقيس الخطر ـ تناص الاجراس المعلقة بالحبال في مجسم القضيب كما كان في العصور الغابرة ـ وتحوير المجسد الجمادي ـ اجراس ـ لمؤنسن اطفال اللاجئين في تصوير وهبه هذا التناص البارع شاهق العروج.
هنا كانت حضورية العضو الذكري في ختام المشهد عبر هذا التناص التأريخي وتطويعة من خلال محورية خاصة تحمل ما في ذات شاعرنا من نفس تعاقر النحت كفن وتقافة تأريخية تغوص في ضميرنا الجمعي المصري ،
كانت هذه ملاحقة للختام الصادم للبعض لتأويل ما غاب خلف مرايا الحبر قبل الولوج في يم النص عبر محاولة هدهدة النقاط التي تحيط النص.. لنتوقف أمام لفظ النملة الحاضر في أكثر من رؤية في النص، وما تحمله من تناص ليس مع القصص القرآني، ولكن مع وضع مجتمعات النمل كرمزية للمجتمعات البشرية من خلال ما وقر في رحم ذاكرتنا الجمعية، فالنمل يملك نظام اجتماعي حادي للدهشة.
وهنا لم يكن الأمر فقط مجرد تلويح بهذا المجتمع الاجتماعي الذي يشبه ما للبشر ـ وإن كان أكثر دقة ـ من نظام اجتماعي، ولكن أيضا لوضع الشريك البشري في وضعية التصغير والضعف من خلال حضورية النمل ككائن صغير وأيضا يفعل ما لا يمكن أن يتصوره العقل وهذا يتوافق فعال البشر التي لا يصدقها عقل ومع حضورية مجتمعات النمل.
لنتوقف أمام حضور الشيء وضده ما بين الضعف الإنساني وبين العقل البشري الغير محدودة إمكانياته سواء في الخير أو الشر ، ثم ياتي كتعبير عن قصور رؤية البشر المستقبلية من خلال ما تحمله الثقافة الفنية التشكيلية من أن النظر بمنظور عين نمله في اللوحة لا تحمل سوى النظرة لمسطح أسفل نقطة الرؤية الشاملة عكس النظرة بعين طائر فهي من أعلى نقطة للرؤية مما يجعلها متعددة الأبعاد “3D ” من هنا كان التطويع التام لحضورية النملة نيابة عن البشر كرمز في حوارية الشاعر في هذا النص من خلال هذا الإسقاط من ثقافة تشكيلية وأخرى تحمل ثقافة تعي المجتمعات المتشابهة في الكون.
النص ككل لا يخلوا من التناصات الرمزية التي يتم الاسقاط منها على واقع الحال وهذا الأمر يعني تلك الرؤية التي تحمل خيال الشاعر التي طوعت تلك الرموز بدقة مثلا المقطع الذي يبدأ .. ” رجلاي قدما دابة …… إلى نهاية المقطع ”
هذا المقطع يحمل تناص عقائدي والملائكة الحفظة وتدوينهم الحسنات والسيئات، ثم غض النظر بأمر إلهي عن السيئات التي شرع فيها الإنسان ولم يرتكبها، فمجرد التفكير لا يعني ارتكاب المعصية، في تشكيل بديع عبر رمزية الدابة والإسقاط منها على البشر فكل من يتحرك ـ يدب ـ على وجه البسيطة هو دابة. هنا تم تطويع الحضور اللفظي ليتماشى في رمزية حضورة وحضور هذا الآدمي، ووضع لفظ ” الرفسة ” في حضورها الذي يعني الحركة لتعبر عن فعال هذا الآدمي التي تستحق العقاب والثواب، ولمنحة أحقية اختيار افعالة، ووضع الأمر ككل في وضعية إسقاط على هذا الكون من خلال مفهوم عقائدي لنتوقف أمام لغة حداثية تعني أن المرء مسؤول وسيجني نتاج عمله ـ الثواب والعقاب والتسجيل ـ مع الشد على يده عندما يتراجع عن فعلة شنعاء بوضع أسس تعني تغيير مخاطبة المنوط به العقاب في الواقع المراد الإسقاط علية ـ واقع دنيوي ـ من خلال تناص عقائدي إله..  لتصبح رمزية الألغام التي لم تنفجر وينزع فتيلها هي آلية لفض النزاع الذي يحدث بين المجتمعات والشعوب.. فعند نزع فتيل النزاع تصبح كفة الميزان متساوية ويغض المنوط به العقاب هنا ـ المجتمع الدولي أو ما يماثله في الأمة ـ النظر عن وضع العقوبات.. في مشهد غاية في الإبداع يعج بالصور ، لنتوقف أمام مقطع اخر مشهدين مصور جازي للتأويل.
” قلبي مخدع لأمراة العزيز
وعقلي غرفة لنساء يقطعن ايديهن
كلما مر أعرابي من هنا “

هذا المقطع المدهش لا يعني ذكورية أو انتقاص من حواء، أو أنه مجرد تأريخ لهيام آدم بحواء والعكس من خلال حضور تناصي مستتر لزليخة من خلال عشقها ليوسف الصديق،ولكن أتى ليرسخ ما كان وتواتر عن حسنها وذكائها ودهائها خاصة مع نسوة المدينة، هنا تم وضع صفة الحسن والذكاء لحواء، وايضا ما تواتر عن صرف عشقها لمن مس قلبها والإخلاص له رغم الجفوة التي أعقبت تمنعه حد انها اعترفت في قوله تعالى ” الان حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ” لتُظهر نزاهة حبيبها ـ يوسف ـ ولو بعد حين, هنا تم وضع المرأة في ابهى صورة.. صورة العاشقة بكل درجات العشق,, وايضا الوفاء لهذا الحبيب برغم ما حدث من جفوة وتحت أي عواقب قد تحيط بها نتاج هذا الاعتراف بنزاهته.. فأي دونية أو ذكورية في وضع حواء في تلك الصورة.
وقد تم التلويح بالقلب ـ الذي وقر في ضميرنا الجمعي على أنه مركز الاحساس رغم أنه مجرد مضخة للدم في الجسد ولكن لضخه الدم بكميات أكبر في حالة الحزن والفرح ” زيادة نبضات القلب ” تم الإسقاط من تلك الخفقان على أنه مركز للمشاعر وهذا بعيد عن حقيقة الأمر (حقيقة علمية مؤكدة) ـ كمركز للمشاعر يحمل عشق حواء في رمزية زوجة العزيز، ثم يأتي المشهد الثاني هنا والذي يجعل العقل حاوي ” لنساء قطعن ايديهن ” هنا لا مكر بحواء من فكر ذكوري، ولكنه التلويح بتناص حمل مكيدة في إسقاط على فكرة المؤامرة التي تحيط بالعقل العربي دائما.
من خلال استحضار القصة والإسقاط منها على واقع حال في واقعنا الحديث والتلويح بالمسقط منه ـ القصة ـ ثم المسبب في ذات الوقت في رمزية الأعرابي ـ الاعراب اشد كفرا ونفاقا ” هنا لم يقل العربي ولكن وضع لفظ الأعرابي في توافق تام مع هذا الجحود الموروث من قسوة معيشتهم والتي منحت قلوبهم قساوة فلا يؤمنون بخالق.
ومن خلال الجحود بالخالق وهو الأولى بالاخلاص تم الإسقاط من جحودهم ـ طعن أمثالهم ممن لا يجد الإخلاص للوطن في قلوبهم حضور ـ على كل الرؤى والقضايا التي تحيط بهم وبنا في واقعنا الحياتي الان والتخلي عن الخطوط العريضة للحلول ومحاولة افشالها عن طريق المؤامرات.
لنتوقف أمام مشهد حمل إسقاط على مؤامرات تحيط بوطن ومحاولة ذكية ـ موقف امرأة العزيز من النسوة ـ لمحق تلك المؤامرة ، وحضور من يتكالب على الوطن في رمزية الأعرابي وهو إسقاط من المفرد على الكل اعراب لوضع الرؤية في موضعها الصحيح.

ثم نتوقف وتلك الحروف المتقطعة التي عنونت عتبات المقاطع والتي تحمل رمزية تتنامى في وضع شيفرة نصل معها لنهاية النص والحروف المتقطعة ” ح س و م ” والتي تحمل نكهة النهاية وتلك العظام النخرة ـ الهيكل العظمي ـ التي تركتها الليالي الحسوم في إسقاط من عقاب وهلاك قوم عاد ..
قال تعالي ” سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ” لنصل للختام الخاص بتلك الحروف التي حملت تناص لفظي والحروف المتقطعة في القرآن الكريم وليس تناص المعنى أو تناصية الاشتراك في الفعل.

هنا كانت مجرد وضع لايدلوجية رؤيوية ناسج الحروف في تنامي لحضورية تلك الحروف لتصل للفظ حسوم، وتحسم النهاية وهذا الهيكل العظمي الذي يحمل رمزية لتلك الأمة التي تلاشى حضورها وتكالبت عليها الأمم ـ حشرات ـ لتصبح مجرد عظام بالية لا حول لها ولا قوة تنتظر النشور والحساب، فما هو المرجو من جسد أصبح مجرد عظام انسلت منه الروح.

النص بعد مازال يحتاج لتفكيك يحمل نكهة الصور الكثيرة التي يعج بها، وتلك الدراسة كانت مجرد فك التناصات المرمزة عميقة الحلول المشهدي، ويظل النص القابل للتأويل هو الأقوى في حضوره، وإن ظل التأويل الحقيقي جنين في رحم دنان حبر ناسج الحروف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى