كتلة حجرية متوارثة.. كيف يمكن تشكيلها؟

أ.د/ محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

جاء في فيلم بولندي قديم صامت لا يزيد طوله عن عشر دقائق قصة تستحق التأمل الطويل. تبدأ القصة بمشهد لبحر واسع، يخرج منه رجلان يرتديان ملابسهما كاملة، ويحملان معاً –كل منهما في طرف- “دولاباً” عتيقاً ضخماً، يسير الرجلان في اتجاه الشاطئ وهما يحملان هذا “الدولاب” بمشقة كبيرة، حتى يصلا إلى البر وهما في حالة إعياء شديد، يشرع الرجلان في التجول في أنحاء المدينة وهما لا يزالان يحملان “الدولاب”. فإذا أرادا ركوب الترام حاولا صعود السلم “بالدولاب” وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، وإذا أصابهما الجوع وأرادا دخول مطعم، حاولا دخول المطعم “بالدولاب”.. وهكذا الحال. والفيلم من أوله إلى آخره يصور محاولات الرجلين المستميتة في الاستمرار في الحياة وهما يحملان “دولابهما” العتيق، إلى أن ينتهي بهما الأمر بالعودة من حيث أتيا؛ يعودان للشاطئ، ويغيبان فيه شيئاً فشيئاً حتى تغمرهما المياه وهما لا يزالان يحملان “الدولاب”.

والفيلم رغم بساطة أحداثه إلا أنه يحمل معنى حياتياً عجيباً؛ ذلك أنه يصور حال الإنسان وهو يحمل “دولابه” الثقيل، يأتي معه إلى الدنيا ويقضي حياته حاملاً ذلك “الدولاب” دون أن تكون لديه أية فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله. ولأنه “دولاب” غير مرئي؛ فإننا نقضي حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، وكأن قدراً محتوماً يحكم فِعالنا ومشاعرنا وما نظن أنه اختيارنا. ومن يؤمن بذلك يرى أننا لم نختر آباءنا وأمهاتنا، ومكانة عوائلنا التي نشأنا فيها، ولم نختر إخواننا وموقعنا في الترتيب بينهم، ولم نختر شكلنا طولاً وقصراً.. وسامة ودمامة، لم نختر مواطن قوتنا، ومواطن ضعفنا الإنساني. وكل ذلك نحمله معنا أينما حللنا وارتحلنا، ومن الصعب التخلص من هذا الحمل إن لم يكن مستحيلاً.

ورغم ذلك فأظن أن التسليم بذلك قد يفضي إلى الاستسلام وقبول الأمر الواقع كما هو، وهي مشكلة حقيقية؛ لأن حمل الواقع والسير به قد يعني عدم التغيير واستحالة التطوير، ولا خلاف أننا ورثنا كُتلة من الصفات والطباع والأحوال ما يصعب معها التعديل والتغيير الكلي، ولنستحضر هنا صورة المثّال الذي يصادف كتلة حجرية صماء، فإنه يُعمل فيها معوله ليقتطع منها قِطعاً بعد أخرى ليصيغ منها في النهاية التمثال الرائع الكامن في جوفها، فهو لم يغير حجراً بحجر؛ وإنما نحت حَجَره كما وجده، وتعامل معه كما صادفه. إن حياتنا أشبه بكتلة حجرية متوارثة، فإما أن نحملها ونسير بها، أو أن نحطمها فلا نُبقي منها على شيء، أو  أن نكشف عن الجمال فيها؛ فنصنع منها تمثالاً يستحق البقاء ويعرف معنى الخلود.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى