ابن خلدون بين وجدانه الشعوبي والحقائق التاريخية

د. بشار معروف : كلامه عن العرب نابع عن جهله بالمشرق الإسلامي ورجاله وأنسابه وتاريخه

د. فيصل حفيان : حضارةُ العرب حضارةُ عالم لا عولمة والعودة للتاريخ بغرض بناء وعي حقيقي

تحقيق: صبري الموجي:

  في مُقدمته الشهيرة المعروفة بـ “مقدمة ابن خلدون طرح عالم الاجتماع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون نظرية صادمة للعرب تقول : ” من الغريب الواقع أن حَملةَ العلمِ في الملة الإسلامية سواءٌ في العلوم الشرعية أو العقلية أكثرُهم العجمُ إلا في القليل النادر، وإن كان منهمُ العربيُ في نسبه فهو أعجميٌ في لُغته ومَرباه ومشيخته، وكذلك حملةُ الحديث الذين حفظوه علي أهل الإسلام أكثرُهم عجمٌ أو مستعجمون باللغة والمَربي لاتساع الفن بالعراق وما بعده من بلاد العجم، وكذلك علماءُ أصول الفقه والكلام وأكثرُ المفسرين والفقهاء كلهم عجم، فلم يَقُمْ بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجمُ بالعراق وخراسان وما وراء النهر”  وفي تعقيبه علي تلك النظرية بمحاضرة عبر ” اليوتيوب” عقدها مؤخرا معهد المخطوطات العربية ضمن محاضراته عن بعد،  أكد المُفكر العراقي الكبير د. بشار عواد معروف أن ما ذكره بن خلدون يُثيرُ الشجنَ ويطرح العديد من التساؤلات؛ لأن قائله – رغم أنه علمٌ كبير من أعلام الثقافة العربية والإسلامية، ومؤسسُ علم الاجتماع، وذو دراية واسعة بالمغرب الإسلامي والأندلس، إلا أن معرفته بالمشرق الإسلامي ضحلة، كما يتضحُ من مُطالعة الجزء الرابع من كتابه ” العِبر وديوانُ المبتدأ والخبر” والذي تحدث فيه عن العربِ قبل الإسلام، وعن البعثة النبوية، وتاريخ الخلفاء الراشدين، والذي نقله بقضه وقضيضه عن نُسخة سيئة مليئة بالأغلاط في الأسماء والوقائع والتواريخ والتراجم عن ابن الاثير، وهو ما يكشف – كما ذكرت – عن أنه لا يعرفُ التواريخ المشرقية ولا العلماء ولا الرجال ولا التراجم.

وأضاف د. بشار: والإشكالية تكمن في أن ابن خلدون نظر إلي هؤلاء العلماء من حيث نسبتهم إلي البلدان الأعجمية، واعتبر العراقَ والبصرة والكوفة مُدنا أعجمية رغم أنها معسكراتٌ عربية صرفة حررها المسلمون من السيطرة الفارسية، وعلي أثر ذلك قُسمت البصرةُ إلي خمسةِ أقسامٍ لخمس قبائل عربية، فصار هناك خمسٌ أو قسمٌ لبني تميم، وثان للأزد العالية، وغيرهم من قبائل العرب، وكذلك الحال بالنسبة للكوفة، وباقي البلدان التي فتحها المسلمون، إذ سكنتها قبائلُ عربية، فسكن خراسان أكثر من 50 ألف عائلة عربية منهم : الأذرعيون الهاشميون، الذين سكنوا مرو، وأولاد قطب النيسابوري كانوا من العرب القيسيين، وملوكُ الري من العلويين، وغيرهم من القبائل العربية التي انتشرت بأقطار المشرق الإسلامي كتميم وثقيف وسليم، فصاروا من سكان تلك البلاد الأصليين، فكلهم عربٌ خُلص إلا أنهم بعد إلغاء نظام العطاء في العصر العباسي صاروا ينتسبون لمدنهم وقراهم وحرفهم، وإن ظل العديدُ منهم يحتفي بنسبه العربي، مثل الأذرعيين الهاشميين.

وفي تعقيبه علي قول ابن خلدون :” وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجميٌ في مَرباه ومشيخته” ، أكد د. بشار أنه كلامٌ لا يصحُ أن يصدُرَ عن عالم بحجم ابن خلدون؛ لأن هؤلاء العلماء أيا كانت أصولُهم فإنهم كتبوا جميع مؤلفاتهم باللغة العربية، ولا توجد كتبٌ أُلفت في هذه الفترة بغير اللغة العربية إلا النذر اليسير، فأكثر من 95% من مؤلفات هذه الفترة –  كما ذكر حاجي خليفة في كتابه” كشف الظنون” –  كانت باللغة العربية، وكذلك الخطبُ ومجالسُ إملاء حديث المصطفي صلي الله عليه وسلم كانت بالعربية، ولم تكن بالفارسية أو التركية، فكيف يزعم ابن خلدون ذلك؟ وأضاف، وبالرجوع لفهرست ابن النديم، و”الدر الثمين في أسماء المصنفين” لتاج الدين الساعي لن تجد كُتبا أعجمية، كما أن الوعظ والتذكير والمناظرات لم تكن بغير العربية.

ويستمر د. بشار في تأكيد ذلك المعني بقوله : كما أن المدارسَ الإيرانية حتي العصر الصفوي، لم تكن تُدرِسُ بغير العربية، وهو ما يُثبت أن اللغة العربية كانت هي اللغة السائدة، كذلك الموسوعاتُ الشعرية مثل “يتيمة الدهر” لأبي منصور الثعالبي، و”دُمية القصر” للباخرزي، و “خَريدة القصر” لعماد الدين الأصبهاني القرشي، كانت باللغة العربية.

وفي تعقيبه علي أنَّ حَمَلَة الحديث أكثرُهم عجم، أكد بشار أن هذا الكلام عار عن الصحة؛ لأن حملةَ العلم النبوي هم صحابةُ النبي صلي الله عليه وسلم، وقد توفي النبي عن 114 ألف صحابي عربي إلا سلمان الفارسي، فالصحابةُ كلهم  كانوا عربا، وكذلك أئمةُ الحديث، فأحمدُ بن حنبل شيباني، وابنُ شيبة صاحبُ المُصنف من بني عبس، وسُفيان الثوري من بني ثور، وسُفيان بن عيينة من بني هلال، وأبو داود أزدي، ومُسلم قشيري، والترمذي من بني سليم، وحتي البخاري وابن ماجة رغم أنهما لم يكونا عربيين، إلا أنهما كانا يفتخران بانتسابهما وولائهما للعرب، فيقول البخاري: ” أنا جُعفي بالولاء”، كما كان ابن ماجة رِبعيا بالولاء أيضا .

وأضاف د. بشار وبالرجوع لـ”تهذيب الكمال في أسماء الرجال” للمُزي نجد أن رواة الأحاديث كانوا من العرب الخُلص.

وفي رده علي ادعاء ابن خلدون أن علماء أصول الفقه كانوا أعاجم، أكد د. بشار أن كلام ابن خلدون نفسه يدحض هذه الفرية، حيث ذكر أن أول من كتبَ في أصول الفقه هو محمد بن إدريس الشافعي وهو مُطلبي عربي، وليس أعجميا، وكذلك علماءُ الكلام كانوا عربا وليسوا أعاجم، فإمام الحرمين كان من طي، وكذلك أبو حامد الغزالي كان طوسيا سلجوقيا، وفخر الدين الرازي، كان تيميا بكريا صديقيا.

وأضاف د. بشار كما أن أئمة الفقه أيضا كانوا عربا، فمالكٌ أصبحيٌ عربي، وجعفرُ بن محمد بن الحسين علوي، أحمد بن حنبل شيبانيٌ، ومحمد بن إدريس مُطلبي قرشي، وحتي أبو حنيفة المُختلَف حول نسبته فهو من العراقيين القدماء، أي أنه عربيٌ سامي.

وختم د. بشار بقوله والخلاصةُ أن كل علماء العرب كانوا عربا خلصا، ولكن جهل ابن خلدون بتواريخ علماء المشرق وأنسابهم وتراجمهم هو ما دفعه لترويج تلك النظرية المغلُوطة التي تكشف عن أنه رغم كونه عالم اجتماع لا يُشق له غبار، ورغم أنه كان ضليعا بمعرفة بلاد المغرب والأندلس، إلا أنه لم يكن من فرسان العلم بالمشرق الإسلامي.

 وفي كلمته أكد د. فيصل حفيان مدير معهد المخطوطات أن العرب أمةٌ فتية أبية، نفخَ فيها الإسلامُ من رُوحه العظيمة، فانطلقتْ في كل اتجاه تحملُ راية السماء، وتنشرُ الإيمان وتدعو إلي الحق والخير والجمال، وتبني صرحَ حضارة مُبدعة، لا مُقلدة ولا ناسخة، تنهضُ علي أساسٍ متينٍ من انفتاح العقل والقلب والروح، وما يستتبعه ذلك من جذب أو أسر.

وأضاف د. فيصل : وهكذا غدت حضارةُ العرب مُنفتحة جاذبة، قبلتْ الآخر وائتلفت معه نسيجا واحدا دون قسرٍ ولا إكراه، فكانت حضارةَ عالَمٍ لا حضارة عولمة، وبيد أن الشر يسكنُ في قلب الخير لا يغادرُه، فقد استفزته فُتوةُ الأمة العربية والإسلامية وخيريّتُها وانفتاحُها وجاذبيتها، فلم يلبث أن وجه سهامه نحو نياط القلب، فرعي جذوة ما عُرف في تراثنا وتاريخنا بالشعوبية، وأذكاها حتي اشتعلت؛ انتقاصا من العرب وإزراء بهم، ووصما لهم بأنهم سيفٌ يفتحُ ويغزو وينتصر، لا عقل يُفكر ويبني علما ويصنع حضارة.

وقال د. فيصل وكان بديهيا أن ينشبَ الصراعُ فيُعرقل الحركة بوصفه نوعا من التدافع الشرير، لكن الأمة في فتوتها كانت قادرة علي الصمود والبقاء واقفةً كالشجر، إلا أن السوسَ ظل ينخرُ، ووهجَ الشمس يضعُف إيذانا بالغروب، حتي هجم الليلُ في القرون الأخيرة، وغطي كل شيء بسواده الثقيل، وحاولت الأمة في القرن الماضي أن تُمزق ستر ذلك السواد المخيم، لكن الشرَ كان مُتيقظا، فأغري بعضَ جنوده حتي من أبناء الأمة.

وأضاف د. فيصل ولما كانت الشعوبية التاريخية قد احتاجت وقتا طويلا لتفعلَ ما فعلت، فإنه مكّن الشعوبية الجديدة من أسلحة أمضي، فرأينا جنودا له تتقنعُ بالحيدة والموضوعية، وتضع العقل العربي علي مِشرحة بحثٍ خادع، استخدمت فيها مِقصلة حادةً تُقطع وتُجزئ وتُصنف وتحتشد بشواهد وأدلةٍ وقرائن(مُفبركة) من التاريخ والجغرافيا واللغة والأدب والنفس والعلم لنصل إلي حالٍ من فقدان الثقة والعجز عن الفعل.

وختم د. فيصل : فليست العروبة قضية تاريخية، بل هي قضية حاضرة، والعودة إلي التاريخ ليست من أجل التاريخ نفسه بل من أجل بناء وعي يُعين علي شروق شمس جديدة وميلاد يومٍ جديد.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى