الشّيخ محمد علي دبّوز والاهتمام بالتّاريخ الصّحيح

د. محمد قاسم ناصر بوحجام | أكاديمي

مِـمّا عرف عن الشّيخ محمد علي دبوز في كتاباته التّاريخيّة أنّه كان يسعى من خلالها إلى بلوغ أهداف عديدة، منها:

1 ـــــ العمل على تصحيح التّاريخ، وتقديمه للنّاس صافيا من الأكاذيب والأباطيل والمزايدات والمساومات التي تروم التّشويه والتّزييف والتّضليل وتحقيق أغراض خاصّة.

2 ــــ تربية النّشء وبناء شخصيّته وإعداده للحياة الكريمة العزيزة المثمرة بالتّاريخ.

3 ـــــ ربط حلقات التّاريخ بعضها ببعض؛ محاربة للتّهميش والإقصاء وقطع الصّلات بين الحقب والأجيال وسيرورة الحياة.

4 ـــــ تقديم رسائل لمن يهمّه الأمر – كلّ في موقع عمله، ومناط مسؤوليته، وموطن نشاطه…بالإفادة من التّاريخ..

5 ـــــ الوقوف في الـمحطّات الـمخفيّة والـمنسيّة في التّاريخ وتسليط الضّوء عليها لإبرازها للوجود والتّعريف بها.

أدرك بحسّه الحضاري أنّ المشاكل التي يعاني منها المسلمون مع المستعمرين ناتجة من جهل تاريخهم، ونابتة من أعمال  المحتلّين لأراضيهم ومُستَلبي سيادتهم.. الذين تمادوا في تشويه تاريخهم وتزييفه وتحريفه لصالحهم.. تيقّن من ذلك كلّ التّيقُن، فشمّر عن ساعد الجدّ، ورابط في ميدان البحث في تاريخ المسلمين، وبخاصّة تاريخ المغرب الكبير، الذي وجد فيه ثغرات كثيرة، ووقع هو- مع ما ينشر وما يقال وما يلقّن – في حُفَرٍ من التّضليل والإضلال.. فعاهد الله ونفسه والتّاريخ أن يتحرّك في الميدان ويسير في المضمار ليقدّم التّاريخ الصّحيح من مصادره السّليمة من التّشويه والتّزييف، ويعمد إلى القيام بتحليل عميق لسيرورة هذا التّاريخ، وملء الفجوات والثّغرات التي تسبّب فيها الطّامسون الحاقدون والحارقون لهذا التّاريخ عبر المراحل والفترات التي سجّلها هذا التّاريخ.. قضى للوصول إلى مبتغاه مدّة تزيد عن الثّلاثين سنة متواصلة من دون انقطاع.. 

بذل في هذا المعترك الكبير جهودًا مضنية،  كلّلت بزادٍ كبيرٍ في تاريخ المغرب الكبير بخاصّة، ونهضة الجزائر في العديد من مظاهرها وأشكالها وألوانها.. ما غدا مصدرًا لمعرفة تاريخ منطقة المغرب..  ومعينا لمعرفة كيفية توظيف التّاريخ بعامّة  في التّربية والبناء والتّكوين والاستعداد لخوض معترك الحياة بقوّة وثقة وعزّة وكرامة وفعالية..

حمل الشّيخ محمد علي دبّوز همّ ما لحق تاريخ المغرب الكبير من تزييف، وتحسّر كثيرًا لغياب المصادر الحقيقيّة التي تكشف عن هذا التّاريخ بموضوعيةّ وإنصاف؛ لذا تحمّل مسؤولية تدارك ذلك بكلّ قوّة وشجاعة ومغامرة، واحتمل كلّ المتاعب والمشاكل، وجدّ واجتهد في تخطّي العقبات التي اعترضت طريقه.. حتّى قدّم هذا التّاريخ للأجيال المتعاقبة في صفحات عديدة نشرها في ثلاثة أجزاء، قدّمها للشّعب الجزائري هدية ثمينة، بعد الظّفر باستقلاله عن المستعمر الغاشم الظّالم الذي سلبه أرضه وتاريخه وشخصيّته وتراثه ومجده.. ثمّ أردف ذلك بسلاسل من الكتب، إلى جانب المقالات والخطب والمحاضرات والأعمال الأدبيّة التي ركّزت على الجوانب التّاريخيّة والحضاريّة والاجتماعية والتّربويّة وغيرها، التي تتّخذ من التّاريخ منطلقًا ومعتمدًا وسندًا  للقيام بواجب التّوعية والتّعليم والتّثقيف..

لذا طلب من الشّعب الجزائري  ومن شعوب المغرب العربي أن تتضافر جهودها  للتّعرّف على تاريخها الصّحيح الأصيل، وتتحرّر من الاستعمار في فكرها وتفكيرها وحدمة تراثها وبناء كيانها.. فقال موجّهًا لها هذا النّداء: “…أن أهيب بعلماء المغرب وأدبائه وحكوماته أن يهبّوا لكتابة تاريخهم القديم والحديث، فقد حارب الاستعمار تاريخنا وعقل أقلام علمائنا عن كتابته كما يجب، وحرم المغرب من معرفة تاريخه المجيد، وحرم الأمّة العربيّة والإسلاميّة والعالم المثقّف كلّه من معرفة حقيقة المغرب كلّها في قديمه وحديثه. فها هو الاستعمار قد زال والحمد لله، فيجب أن نهب لواجبنا في هذا الباب. إنّ من ثمار الاستقلال الكبرى التي يجب أن يجنيها المغرب من الاستقلال – وإلاّ لا يكون للاستقلال ثماره اللّازمة – انطلاق أقلام علمائه وأدبائه، سيّما في باب التّاريخ القديم لنطهّره من أكاذيب السّياسة القديمة والاستعمار الحديث، تلك الأكاذيب التي شوّهت صفحات المغرب الغرّاء، وتلك السّموم الاستعماريّة التي تغرقه وتشقّق عصاه.

ها هو المغرب كلّه – والحمد لله – يحظى باستقلاله. فيمرّ على استقلال الجزائر سنتان، ويمرّ على استقلال جهاته الثّلاثة الأخرى سنون كثيرة، ولا نرى في المكتبة العربيّة من نتاجها العلمي والأدبي الصّحيح إلاّ كتبًا قليلة، لا تتجاوز العشرين، ولا نرى في تاريخ المغرب القديم والحديث إلاّ كتبًا، لا تكاد تتجاوز أصابع اليد. إنّ هذا تقصير كبير من علمائنا وأدبائنا سيحاسبهم الله عليه، ويحاسبهم المغرب الكبير وأمّتنا العربيّة والإسلاميّة كلّها.” (تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 11، 12.)

هذا النّداء وجّهه محمد علي دبّوز مباشرة بعد أن نالت الجزائر استقلالها.. فيه ذكّر أبناء المغرب – بخاصّة علماءها وأدباءها ومثقّفيها – بواجب المضيّ في معركة التّحرير، تحرير العقول من الأفكار الغربيّة والنّظرات الاستعماريّة، وتحرير أسفار في كتابة تاريخهم الصّحيح.. فبعد معركة تحرير الأرض تأتي معارك تحرير الفكر والثّقافة، وتحرير التّراث من الاستلاب والسّطو والطّمس.

هذه رسالة حملها الشّيخ الدّبوز وقام بواجبه فيها، وناشد زملاءه وأبناءه أن يواصلوا السّير في الدّرب… هو يرى انّ استقلال المغرب الكبير من الاستعمار لا يعني شيئًا إذا لم يتحرّك الجميع في طريق خدمة تاريخه، ونقل آثار الأسلاف إلى الأخلاف.. فبيّن أنّ البقاء في دائرة البروز في مظاهر الاحتفال المادي بالاستقلال ليس له معنى إذا لم يشفع ويعضد ويوطد بتدوين التّاريخ الذي نحتفي به ونحتفل ونفتخر، وفيه نستثمر.. في التّربية والبناء والإعداد وتهيئة وسائل العيش الكريمة والحياة الهنيئة، التي تكفل السّير إلى الأهداف النّبيلة بحسّ حضاري وفكر سديد، ومنهج سليم.. يستمدّ من التّاريخ ويتقوّى بالأمجاد ويتغذّى بالإرادة في الإضافة والتّطوير والتّجديد..

قال: ” إنّه ليس ثمرة الاستقلال أن نختال في البدل الزّاهية، وننعم بالعيش الرّافه، ولكنّ ثمرته هو العمل. مواهبُنا التي عقلها الاستعمار يجب أن تنطلق وتثمر ثمارها الطّيّبة النّاضجة في كلّ الميادين، وأن نكدّ في إخلاص وإتقان وطموح لبناء مغربنا، وأمّتنا العربيّة والإسلاميّة كلّها، سيّما في باب التّأليف.(تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص: 12).

كان يحرّض على التّأليف في التّاريخ كثيرًا ويحثّ أبناءه للمضيّ في هذا النّهج بقوّة وعزيمة ودأب متواصل.. لأنّ ذلك هو السّبيل الذي يكفل حفظ التّاريخ، وانتقال الحقيقة إلى الآخرين: ” إنّ الكتاب المغربي هو أعظم سفير للمغرب في أنحاء العالم، وهو النّتاج الذي يزينه، والكنز النّفيس الغالي الذي يورّثه الثّقل في ميزان الشّرف والنّضوج فترجح كفّته. إنّ محاسن المغرب كلّها تبقى في المغرب، ولكنّ كتاب المغرب هو الذي يرى العالم فيه حقيقته. وهو قبل هذا الغذاء الصّحيح اللّازم لنا ولشبابنا وأمّتنا، والوسيلة الكبرى لتربية المجتمع وتوجيهه إلى المثل العليا، التي كابدنا طويلا، وجاهدنا الاستعمار من أجلها.

يجب على حكومات المغرب أن تقوّم الدّولة في كلّ عام تقويمًا دقيقًا في باب التّأليف، فترى ماذا أنتج أبناؤها من النّتاج العلمي والأدبي والفنّي الرّفيع الذي ينفعها في الدّاخل والخارج، ويجب على كلّ غيور في المغرب أن يفعل ذلك. وإذا لم نفعل نكون مقصّرين كلّ التّقصير نحو أنفسنا، ونبقى دائمًا في مؤخّرة الشّعوب العالمة المنتجة..”(تاريخ المغرب الكبير،  ج1،  ص: 12.)   

من جملة ما وقف عنده محمد علي دبّوز طويلا – وهو في سبيل تصحيح التّاريخ، وتوضيح الرّؤى في المسائل الغامضة أو القضايا المشوّهة أو الـمَنسية..-  حياة البربر  بكتابته الـمستفيضة عنهم البربر، فهو يرى أنّ المؤرّخين المغرضين لم يعطوا لهم حظّهم من التّعريف بهم، بل ارتكبوا في جقّهم جنايات كبيرة، وقدّموهم للنّاس عبر مراحل التّاريخ في مظاهر غير حقيقيّة، وغير منصفة لهم.. كتب الشّيخ عن أصولهم وشخصيّتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم وإسهاماتهم الحضاريّة وأدوارهم الرّئيسة في السّيرورة التّاريخية مشرقًا ومغربًا، وعلاقاتهم مع الدّول التي احتكّوا بها وتعاملوا معها.. حتّى عن عيوبهم التي كانت من أسباب بعض انتكاساتهم سجّل عنها ملاحظاته ونظراته الخاصّة..

 قال مثلا: ” والبربر جنس كريم معتدّ بنفسه، يملكه من يحترمه ويعرف له مقامه، فأقبل البربر على الإسلام، فانتشر فيهم انتشار المطر القويّ في السّاحة، والنّور السّاطع في المكان، وأصبح البربر أحبّاء العرب، يزدادون تقاربًا على الأيّام، ليصبحوا شعبًا واحدًا، يصل بينهم الإسلام ، وتلحم بينهم العربيّة…” (تاريخ المغرب ا لكبير، ج2 ، ص: 39,)

وقال عنهم:  “… إنّ البربر شجعان أبطال، ذوو شهامة وكرامة، يشتفون من عدوّهم في المعركة إذا كان شاكي السّلاح قويًّا، أمّا الاشتفاء من الضّعفاء المسالمين فعمل الجبناء اللّئام، كما يفعل أحفادهم بعد ثلاثة عشر قرنًا في حروبهم مع المغرب الثّائر على الاستعمار. إنّ بعض المؤرّخين القدماء ليحلو لهم أن يضعوا من شأن البربر والمغرب، وإن اضطرّهم ذلك إلى الأكاذيب التي يحرّمها الإسلام المنتسبون إليه، وترى كثيرًا من المؤرّخين الأوروبيّين المغرضين يَلَغُونَ في هذه الأكاذيب وينقلونها ليبثّوا بها العداوة والبغضاء في المغربّ، وهو شعب واحد، قد مزج الإسلام بين عناصره، كما تمتزج الألوان العديدة في النّور فيبدو لونًا واحدًا يتلألأ في الفضاء.”

حذّر محمد علي دبّوز النّاشئة أن تسلّم بهذه الأكاذيب، وتغترّ بهذه الأباطيل، وتقتنع بهذه الأقاويل..فإنّها سموم بثّها الاستعمار في كتب التّاريخ، وشرور دسّها في مشروعاته التّدميريّة، وتهويمات زرعها في عقول النّابتة وملأ بها قلوبهم.. لابدّ من التّصدّي لها، وتخليص النّاشئة منها.. وذهب بعيدًا وهو يدعو إلى البناء الصّحيح بالتّاريخ فقال: ” لتحذر ناشئتنا من خرّيجي المدارس الفرنسيّة في المغرب من سموم كتبهم الدّراسيّة في تاريخ الإسلام ، سيّما في المغرب، فإنّ غرضهم من تدريسه أن يصوّروا أمجادنا وماضينا العظيم في الصّورة المزرية، التي يمليها عليهم تعصّبهم القاتم، وحقدهم على الإسلام، وعدم أمانتهم في العلم، ليحتقر الأبناء أجدادهم فيبتعدوا عن طريقهم، ويتجرّدوا من لبد الأسود التي كان الأجداد فيها، فارتعدت أوروبا منهم، ارتعاد الحمامة تحت مخالب الصّقر الذي ينقضّ عليها.

يجب أن يُدخِل هؤلاء الخرّيجون من المدارس الفرنسيّة أيديَهم في أفواههم حتّى تبلغ أقصى حلوقهم  فيتقيّؤوا كلّ ما درسوه من تاريخ المغرب في المدارس الاستعماريّة، فإنّه  طعام مسموم يقتلهم ويقتل المغرب معهم، وليؤمّوا ما كتب المسلمون العارفون بالمغرب وماضيه، النّزهاء فيما كتبوا، وليتزوّدوا من هناك الزّاد الضّروري، فإنّ معرفة تاريخ الأجداد الأمجاد هي الأجنحة التي تطير بك إلى السّماء. ” (تاريخ المغرب الكبير،  ج1، ص: 81، 82.)

من الموضوعات التي تطرّق لها وعالجها في كتابته التّاريخية، التي عملت فيها أقلام المؤرّخين المغرضين المدسوسين من الملكيّين بالثّلب..، خاصّة ما صدر من رجال  الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة ومن سار سيرهم من بقيّة رجال الدّول المستبدّة.. وشحذت  وغرزت في جسم من ظلموهم أسلحة المستعمرين المتعدّدة.. بالدّسّ والتّشويه والتّخوين..  من هذه الموضوعات موضوع قيام ما أسماها الدّبوز  بالجمهوريّات الإسلاميّة في المغرب الكبير، المناهضة للظّلم والاضطهاد والاستبداد..

قال من جملة ما قال”…إنّ الملكيّين قد بسطوا ألسنة دعايتهم الكاذبة ضدّ الجمهوريّين، فملأوا كتب التّاريخ بأكاذيبهم على الجمهوريّين، وحرّقوا وقضوا على خزائن الكتب التي تبيّن تاريخ الجمهوريّين وصفحات دولهم الغرّاء لمّا قضوا على تلك الدّول في المغرب. واتّخذوا كلّ وسيلة لتشويه سمعة الجمهوريّين، لـمّا قضوا على دولهم، حتّى لا تحنّ النّفوس إلى عدلها وصفحاتها الغرّاء، ولم يبق من الكتب التّاريخيّة التي تعتمدها جامعاتنا ومدارسنا ومكاتبنا ومؤلّفونا إلاّ مصنّفات الملكيّين الذين شوّهوا فيها سمعة الجمهوريّين، فلنحذر من تلك الدّعاية، ولنعلم أنّ جلّ ما ورد في تلك الكتب في حروب صفّين وفي وقعة النّهروان، وفي الإباضية من وضع الملكيّين الذين يعملون للقضاء على الجمهوريّين، وهو بعيد عن الحقيقة، وعكس الواقع الذي ورد في الكتب الصّحيحة.” (تاريخ المغرب الكبير، ج2، 388، 389)

هذا الظّلم الذي لحق بمن تحرّك ليناهض الاضطهاد وينشر العدل.. سلّطت عليه دعايات مغرضة، شوّهت سمعته، وضربت شرفه في الصّميم، وتناقلت الأجيال المتعاقبة هذه الأباطيل.. فجاء الدّور للاستعمار الحديث: الفرنسي والإيطالي وغيرهما فاستغلّ: ”  تلك الأكاذيب في الكتب العربيّة فردّدها في مدارسه، وبلسان أجهزته الاستعماريّة، كالرّهبان الذين يختلطون بالبسطاء، ويعلمون صغار الأبناء وأذنابهم الذين يبثّونهم في المغرب فيبثّون سموم التّفرقة فيه، ويصوّرون الإباضية أنّهم يَشْنَؤُون الإمام، وهو خلاف الحقيقة، وعكس الواقع كما بيّنّا ووضّحنا، وترى مؤلّفينا المحدثين الذين يكتبون في تاريخ المغرب يعتمدون على هذه المصادر الملكيّة، كابن الأثير والطّبري وابن خلدون وغيرها، فيقعون في أخطاء فاحشة وتقصير كبير إذا تحدّثوا عن الدّول الجمهوريّة في المغرب، وإذا حاولوا أن يبيّنوا نشأة الإباضية..” (تاريخ المغرب الكبير، ج2، 389)

 لذلك بيّن أنّه وقف في هذه النّقطة ليوضّح الحقيقة، ويكشف المستور ويصحّح المشوّه.. لتأخذ النّابتة تاريخها صافيا من الأكاذيب والأباطيل. وكان مقصده من كلّ ذبك هو بناء نفوس الأبناء بناء سليمًا، يبعدهم عن العقد النّفسيّة وينأى بهم عن التّنكّر لتاريخهم المجيد..” ويكوّنون لمغربنا بدولهم الدّيموقراطيّة أنصع صفحاته، وأزهى عهوده، فعسى هذه الفصول تكون مرجعًا لجامعاتنا ومدارسنا في الأقطار العربيّة ولأبنائنا في المغرب، فيزول ما خلقه الملكيّون والمستعمرون الذين ردّدوا دعاياتهم من عقد في نفوس كثيرة، فأمسوا يرمقون أسلافهم وأجدادهم بعيون شزراء، ويكرهون ماضيهم، ويعافون أن ينظروا إلى الوراء، وليس فيه إلاّ المجد الأشمّ والعهود الغرّاء.. وقد حشر الملكيّون الإباضية الجمهوريّين مع الأزارقة والصّفريّة الذين خرجوا عن الدّين بغلوّهم، والإباضية بعيدون عنهم، ويتبرّؤون منهم ” ( تاريخ المغرب الكبير، ج2، 389)

إنّ ما تناوله محمد علي دبّوز في موضوع  إنصاف المظلومين والمضطهدين فكريًّا وتاريخيًّا، لم يكن الغرض منه إثارة النّعرات، أو الدّفاع عن فئة معيّنة من منطلق عاطفي أو بمفهوم ” كلّ يَـجْلِبُ الـماء إلى غرسه، ويذود عن حوضه ببأسه”، والكتابة عنها على حساب الفئات الأخرى. بل الهدف هو لمّ شمل المسلمين وتوحيد الكلمة ورصّ الصّفوف؛ بعيدًا عن أيّ توجّه مذهبي أو عرقي أو جهوي.. فهو يرى في بيان الحقائق وتبيين المواقف وتصحيح المفهومات.. سبيلا لنزع فتائل الفتن، وتقريب النّاس إلى بعضهم وإبعاد الدّسائس والمؤامرات من بينهم.. قال:”…إنّنا من السّاعين لقتل المذهبيّة ومحوها بكلّ الوسائل، إنّها هي البلاء الأكبر على المسلمين، وهي مطيّة الاستعمار وكلّ المصائب إلينا. ومذهبنا في الدّين أن نعتني في كليّاتنا وفي دراستنا بالكتاب والسّنّة فندرسهما كلّ الدّراسة، ونتفقّه فيهما كلّ التّفقّه، فنعرف منهما أسرار الدّين ومقاصده، ويتكوّن فينا العقل المنطقي، والفكر الفاحص، ومحبّة الحقيقة، فندرس على ضوء الكتاب والسّنّة، وبعقولنا النّاقدة كلّ ما تركه لنا أجدادنا من تراث فقهي، فنأخذ بما وافق الكتاب والسّنّة، ونرمى  بما خالفه، وكان من إملاء السّياسة القديمة، وضيق الأفق في بعض الفقهاء عرض الحائط، فيتكوّن لنا الفقه الإسلامي الذي لا ينتسب لمذهب من المذاهب، بل هو وليد الكتاب والسّنّة، وخلاصة مصفّاة للتّراث الذي تركه لنا أجدادنا الفقهاء. هذا هو مذهبنا. وإذا وقفنا في الإباضية وقفة، فليس اعتناء بالمذهبيّة، ولكن تصحيحًا لأخطاء تشين صفحة المغرب في الكتب القديمة، وتبعد الأخ عن أخيه في مغربنا الكبير الماجد.” (تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 295، 296).

هذه دعوة محمد علي دبّوز وهو يكتب تاريخ المغرب الكبير، وهذا أمله بعد أن زال الاستعمار من هبلاد بفضل الله اوّلا، ثم بجهاد المخلصين المؤمنين بوحدانية الله وبوَحدة الصّفّ واتّحاد الكلمة قال: ” إنّ المغرب قبل الإسلام وفي عهود دولنا الإسلاميّة القديمة كان وطنًا واحدًا، لم يعرف هذه التّجزئة التي صار عليها المغرب الآن، كان وطنًا واحدًا. فتجد زناتة وهي من قبائل المغرب الكبرى في طرابلس، وتجدها في الجزائر، وتجدها في المغرب الأقصى، وكذلك بقيّة القبائل المغربيّة الأخرى. وكانت الدّول التي نشأت في المغرب الأقصى تشمل المغرب كلّه، أو أغلب أجزائه، وكذلك ما نشأ في المغرب الأوسط يـمتدّ إلى المغرب الأدنى، وما نشأ في المغرب الأدنى قد امتدّ إلى المغرب الأوسط والأقصى.” (تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 34، 35)

هذا هو مذهب محمد علي دبوز في كتابة التّاريخ، وهذا هو منهجه في تأصيله، وهذا هو مقصده من تدوينه، هو الدّعوة إلى الوَحدة، ببيان الحقائق وإنصاف صانعيه، ليتعرّف الكلّ على الكلّ ويتقاربوا فيما بينهم، ويتعاونوا على بناء حياة كريمة؛ لذا نبّه وبيّن الخطأ الذي يرتكبه بعضنا نتيجة الحماسة المفرطة في الاعتداد بالنّسب والانتماء النّاتجين من التّعصّب الـمقيت والـجهل الـمُطبق، والجهالة الـمُهلكة والبعد عن الرّوح الإسلاميّة: “… إنّ البليد الجاهل هو الذي يدّعي – في المشّرق أو المغرب – أنّه عربي خالص، أو بربري خالص، إنّه لم  يعد العربي الخالص – إذا أمكن وجوده – إلاّ في أعماق الصّحارى، والبربري الخالص إلاّ في رؤوس الجبال  المنقطعة. أمّا سكّان المدن – وأغلب أهل المغرب منهم – فهم مزيج من الدّماء البربريّة والعربيّة. وقد تكوّن لهم اسم عظيم شريف، هو الذي يجب أن نتسمّى به، وهو اسم ” الـمسلم”، وأمّة عظمى، هي التي يجب أن ننتسب إليها، ونعتزّ بها، هي الأمّة الإسلاميّة. هذا ما يجب أن ننقشه بالتّربية والتّعليم في النّفوس، وبالدّعاية المتوالية في الصّدور، وهو ما حاربه الاستعمار وأباه علينا، فغرس في نفوسنا وألسنتنا أسماء تدلّ على العصبيّات الضّيّقة والقوميّات الهزيلة، التي تنفّر كثيرًا من الطّوائف الإسلاميّة عنّا، وتخرجهم من جامعتنا، لأنّهم عند أنفسهم ليسوا عربًا، بل هم مسلمون.

إنّ المغرب ليس فيه – والحمد لله – إلاّ المسلمون. أمّا دماؤه فمزيج من الدّماء البربريّة والعربيّة والمصريّة والفارسيّة، فاسم المسلم هو الذي يجب أن نتسمّى به ولا نرضى منه بديلاً أبدًا، إنّه اسم عظيم سمّانا الله به في كتابه، فلو وجد اسمًا أشرف لنا وأجمع لأمّتنا لسمّانا به، وهو الذي سمّانا به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، والخلفاء الرّاشدون، وتَسَمَّى به أجدادُنا وتمسّكوا به، ورأوه أكرم أسمائهم. فما كان لنا في هذا العصر أن نتسمّى بالأسماء الضّيّقة، ونطلق على أمّتنا الأسماء التي لا تعترف بها كلّ طوائفنا.” (تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 145، 146.)

نرجو أن نهتمّ بتاريخنا الصّحيح على ضوء ما ذكره لنا شيخنا محمد علي دبّوز، فنستفيد ونفيد، ونؤدّي له حقّه كاملا غير منقوص، ونبرّ أمجادنا، ونعمل متكتّلين متعاونين للوقوف أمام موجات الـمسخ والسّلخ والنّسخ، والدّسّ والتّآمر.. هذا هو أحسن احتفاء بذكرى وفاته التي كانت يوم الجمعة: 01 من  محرّم 1402ه/ 13 من نوفمبر 1981م. رحمه الله وتقبّل منه وأسكنه فسيح جنناته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى