يوميات فلسطيني في بلاد العم سام (7)

جميل السلحوت | القدس العربية عاصمة فلسطين

رحلتي الثّانية إلى أمريكا

            في آواخر آذار 1990 غادرت القدس إلى شيكاغو على عجل بعد أن تلقّيت مكالمة هاتفيّة من أخي جمال، استقليت طائرة من مطار اللدّ إلى مطار نيويورك، وهناك استقبلني أخي أحمد، فقد ترك احمد العمل في الصيدليّة واشترى بقالة في هيوستن شريكا مع محمّد موسى ابن عمّي، وما لبثا أن باعا البقالة، اتّجه أحمد لنيويورك لأنّ اقتصاد هيوستن المرتبط بالبترول يعاني كسادا، واشترى “سوبرماركت” لا يزال أحمد الذي يملك عقليّة تجاريّة بوصلتها لا تخطئ، يملك هذا المحل التّجاريّ حتّى أيامنا هذه، أمضيت حوالي 24 ساعة في نيويورك بصحبة أخي أحمد وأخي طه الذي يكبرني بعامين، وافتتح له أحمد سوبرماركت قريبا من محلّه، بقي طه عدّة سنوات مع أحمد، وما لبث أن تركه وانتقل إلى العمل في ميامي في ولاية فلوريدا بصحبة أبنائه إيّاد، نضال وثائر، أمضيت صباح اليوم التّالي صحبة طه، حتى حان موعد سفري، فأوصلني أحمد إلى المطار، حيث غادرت إلى شيكاغو، في مطار أوهيرو في شيكاغو لم أجد أحدا في استقبالي، حاولت الاتّصال باخوتي ولم أجد ربع دولار كي استعمل الهاتف العموميّ، ولم أجد من يصرف لي قطعة المائة دولار، فتبرّعت سيّدة سوداء ودفعت ربع الدّولار وطلبت لي الرّقم مشكورة، وردّ عليّ شقيقي داود، الذي أخبرني أن أخي جمال ينتظرني في المطار، وتبيّن لاحقا أنّ كلّ واحد منّا كان في طابق، واهتدينا إلى بعضنا البعض بعد حوالي نصف ساعة، كان أخي جمال قد افتتح عام 1987 بقالة في جنوب شيكاغو وتحديدا في الشارع 79 و- هي منطقة للسّود تعجّ بمدمني الكحول والمخدّرات- بمساعدة وشراكة من أخي محمّد الموجود في بورتوريكو، التحق به شقيقي داود المولود في أواخر كانون ثاني-يناير 1963 في شهر تمّوز-يوليو- 1988، وشقيقي داود هو الأقرب إلى قلبي من جميع اخوتي، فقد عشت وإيّاه في بيت واحد، وأنا من استخرج له شهادة ميلاده عندما ولد، وهو شابّ وسيم ذكيّ لمّاح، حتى أنّ علاقتي به كانت أبويّة أكثر منها أخويّة بسبب فارق العمر بيننا الذي يصل إلى أربعة عشر عاما، ووجدتهما قد افتتحا ثلاث محلّات أخرى في جنوب شيكاغو، واحد يعمل فيه ابن خالتنا حسين المصري الذي لا يزال يعيش في ولاية انديانا، والآخران يعمل فيهما موظّفون عرب، وقد وقعت في أحدهما جريمة قتل مدمن مخدرات ينحدر من أصول مكسيكيّة، وتم اعتقال موظّفين عربيّين من بلدتنا نفسها، واعتقال أخي جمال كونه مالك المحلّات للتّحقيق معه، وخرج بكفالة بعد مرور 48 ساعة، في حين بقي الآخران 28 يوما، وانتهت القضيّة ببراءة الجميع بعد حوالي سنتين، وبخسارة وصلت نصف مليون دولار، حيث بيعت المحلّات الأربعة.

 

الخوف من الإيدز

             في اليوم الثّاني لوصولي شيكاغو جلست على كرسي أمام”الكاونتر” في المحلّ رقم 1800على الشارع رقم 79 الذي يملكه اخوتي، وحوالي العاشرة صباحا دخلت طفلة سوداء جميلة في حجم ابنتي أمينة ابنة الثّلاثة أعوام، دخلت مع رجل، وما أن رأتني حتى انطلقت باتّجاهي باسمة، وضعت رأسها على ركبتي، تماما مثلما كانت تفعل ابنتي أمينة، مسّدت على شعرها، وأعطيتها سكاكر بدون مقابل ثمنها حوالي ثلاثة دولارات، فشكرني الرّجل وانصرف والطفلة تحاول العودة إليّ، في حوالي الثّالثة بعد الظّهر دخل ثلاثة رجال، أحدهم يحمل بندقيّة، والثّاني مسدّسا والثّالث عصا بيسبول في يد، وسكينا ذا حدّين في اليد الأخرى، صوّبوا اسلحتهم باتّجاه رأسي وأحدهم يصرخ:

اجلس على ركبتيك ووجهك للحائط وإلا ستموت، فاستجبت لتهديدهم وأنا أحسب أن العمليّة عمليّة تقشيط، وهي تحصل كثيرا في هكذا مناطق، ومن لا يستجيب لطلباتهم فإنّهم يقتلونه فورا، وصرخ أحدهم:

ماذا فعلت بفتاتي أيّها الوغد؟

 حسبت الأمر قد التبس على الرّجل، وأنّ شخصا ما قد اغتصب أو اعتدى على عشيقته. جرحني بالسّكين في خدّي الأيسر وهو يردّد:

 لقد فضحتني مع صاحبتي، فقد أخبرتها ابنتها أنّ عربيّا في المحلّ قد أعطاها الحلوى مجانا، لأنّه لا يملك ما يشتري به شيئا للطّفلة، فوبّخته عشيقته، وجاء ليثأر منّي تحت تأثير المخدّرات والكحول، استغرقت العملية أقلّ من دقيقة قبل أن يهربوا، حضرت الشّرطة بعد ثلاث دقائق عندما داس أحد العاملين على جرس الانذار الموجود قريبا من قدمه.

        حضرت الشّرطة وأقلّتني إلى مستشفى، وهناك وجد الأطبّاء أن لا حاجة لتقطيب الجرح، لأنّه سطحيّ، لكنّني وقعت في مشكلة أخرى، عندما أخذوا منّي دما للفحص خوفا من عدوى الايدز، فمدمنو المخدّرات هؤلاء قذرون، سكاكينهم قذرة، وقد تكون ملوثّة بفيروس الإيدز….ضاقت الدّنيا في وجهي، توتّرت أعصابي، ودارت في رأسي أفكار سوداويّة كثيرة، فاذا انتقلت عدوى فيروس الايدز إليّ فماذا سيقول النّاس في بلادي عنّي؟ وهل سيصدّقون قصّتي الحقيقيّة؟ لم أنم ليلتها…فكّرت بطفليّ”قيس وأمينة” وبزوجتي، وبدموع أمّي وأحبّتي، فعشقت لحظتها الحياة من أجل طفليّ وزوجتي، وخوفا على دموع أمّي، لم أذق طعما لطعام أو شراب سوى الماء، في صباح اليوم التّالي أخبرني المستشفى بأنّني سليم معافى، فدبّت فيّ الحياة، وشعرت أنّني ولدت من جديد.

 

أحياء المخدرات

        مناطق جنوب شيكاغو في غالبيّتها يقطنها السّود وقليل من المكسيك، وهم في غالبيّتهم مدمنو مخدّرات وكحول، يفتتح العرب في هذه الأحياء محلات تجاريّة، لأنّ البيض لا يدخلونها، والسّود لا يستطيعون فتح محلات لأسباب ماليّة، وبالتّالي فإنّه لا منافس لهم، وهذا سبب أيضا لمقتل البعض منهم على أيدي العصابات، وبعض هذه المناطق لا تدخلها الشّرطة إلّا بطائرات الهليوكبتر لخطورتها، وتجارة المخدّرات يقوم بها أطفال دون العاشرة، لأنّه يمنع على الشّرطة تفتيش الأطفال، أمّا البالغون فإنّهم يرتدون بنطالين عند حملهم للمخدّرات، وإذا ما طاردتهم الشّرطة فإنّهم يهربون ويتخلصون من البنطال الخارجيّ، ويمنع على الشّرطة ادخال أيديهم في جيوب المتّهمين إلّا في مراكز الشّرطة وبأمر قضائيّ، ويبدو أنّ غالبيّة السّود يعيشون على هامش المجتمع الأمريكيّ، وهذا ما تريده لهم الادارة الحكوميّة، حيث أنّهم في غالبيّتهم يعيشون على الضّمان الاجتماعيّ، ولا يمارسون أيّ عمل، الجريمة بينهم منتشرة، والأسلحة النّاريّة تكاد تكون في حيازة الجميع.

 

تمييز عنصريّ

      شاهدت بيتا محروقا في أكثر من شارع، ولما استفسرت عن ذلك أخبرني من يعيشون هناك أنّ البيت يكون قد اشتراه أسود في شارع كلّه من البيض، فيحرقه سكّان الشّارع كي لا يتكاثر وجود السّود في شارعهم، وإذا لم يحرقوه، فإنّهم يبيعون بيوتهم للسّود بثمن رخيص نسبيّا ويغادرون المنطقة.

ذات يوم سألت محاميا أبيض اللون عن سبب كراهيتهم للسّود فقال لي:

 الرّجل الأسود كالبقّ، وإذا ما التصقت بجسدك حشرة البقّ، فلا تفغصها كي لا يتّسخ جلدك بدمها، ادفعها بطرف اصبعك على الأرض، ودُسْها بحذائك!

     ومن عنصريّة البيض ضدّ السّود والملوّنين في أمريكا، أنّ أخي جمال عندما اشترى البيت في شارع 87 في شيكاغو، وجد على الجدار تخطيطا بالدّهان الأحمر وباللغة الانجليزيّة:

“ارحل من هنا يا خيّال الجمل.move away camel jockey “

التّنظيم

        الأبنية في الشّوارع تسير على نفس النّمط، وعلى نفس البعد عن الرّصيف وعن الشّارع، إنّها خطوط مستقيمة 100%، بما في ذلك الأبنية القديمة، ولما سألت عن ذلك، أخبرني أحد المهندسين العرب أنّ جورج واشنطن أوّل رئيس لأمريكا كان مهندس مساحة، وهو من وضع قوانين هندسة المدن. شوارع شيكاغو واسعة، بعضها فيه خمس مسارات لكلّ اتجاه، وتتوسط الاتّجاهين جزيرة، في الأحياء السكنيّة الشّوارع تتسع لسيّارتين في كلّ اتجاه، وبعده رصيف بعرض مترين، وطريق للمشاة، يليه متران من عشب النجيل والورود.

 

الصّحافة العربيّة

        شاهدت صحيفة عربيّة نصف شهريّة اسمها”البستان” تصدر في شيكاغو، ويرأس تحريرها الدّكتور غسّان بركات عضو المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، وهو أكاديميّ فلسطينيّ من القدس، يحمل شهادة الدّكتوراة في العلوم السّياسيّة من إحدى الجامعات الفرنسيّة، وهو شاب دمث خلوق، زرته في مكتبه أكثر من مرّة، نشرت مقالة في كلّ عدد صدر من صحيفته أثناء وجودي عام 1990 في شيكاغو.

 

في ميامي

         في كانون الثاني 1994 غادرنا أخي راتب إلى أمريكا في زيارة سياحيّة، وراتب هو الشّقيق الأصغر فينا، ولد في آذار 1970، كنت وقتها معتقلا اداريّا في سجن الدّامون القابع على قمّة جبل الكرمل، الذي يحتضن حيفا عروس البحر، غادرنا راتب إلى شيكاغو حيث كان أخوانا جمال وداود، على وشك تصفية أعمالهما في شيكاغو، ومغادرتها إلى مكان آخر، وفعلا غادر داود إلى ولاية كينتاكي، حيث عمل هناك “مخمّن” سيّارات، وبعد ستّة شهور أنهى جمال وجوده في شيكاغو، واتّجه وأسرته وراتب إلى ميامي في فلوريدا، اشترى جمال محلّا تجاريّا مناصفة بينه وبين داود، الذي بقي في كينتاكي، عمل راتب في المحلّ مع جمال، في صيف ذلك العام قرّرت زيارتهم في ميامي، على أن يأتينا داود هناك. في ميامي وجدتهم يسكنون بيتا في حيّ راق للبيض، محاط بسور، وبوّابة عليها حارس، ولا تفتح إلا ببطاقة ألكترونيّة، في الحيّ ناد رياضيّ ضخم فيه بركة سباحة، وجاكوزي وساونا، وهناك رأيت للمرّة الأولى طفلتي أخي جمال سارة وسوزان، كنت سعيدا بصحبتهما، أمّا المحلّ التّجاريّ فقد كان قريبا إلى الشّاطئ في حارة للسّود، غالبيّة سكّانها من مدمني المخدّرات والكحول، شاطئ ميامي من أجمل شواطئ العالم، هناك قصور مبنيّة داخل البحر على جزر اصطناعيّة، يملكها أثرياء من مختلف دول العالم، ومن بينهم أثرياء عرب، كلّ قصر له جزيرته الخاصّة وشارع يصل إليها، ولا يستطيع دخولها أحد إلّا بدعوة من صاحب القصر أو برفقته، في عرض البحر جزر سياحيّة جميلة تبعد حوالي عشرين كيلو متر عن الشّاطئ، فيها منتجعات سياحيّة وفنادق ضخمة، في صالة”لوبي” فندق هولي لاند شاهدت ثُريّا من الكريستال دائريّة الشّكل يزيد قطرها على خمسة أمتار، وهي المرّة اليتيمة في حياتي التي أشاهد فيها هكذا ثُريّا، ومن غرائب تلك البلاد هي البرق والرّعد الذي يأتي بدون سابق انذار، وقد يصعق البعض في سيّاراتهم أو وهم يسيرون في الشّوارع، وفي ميامي جالية كوبيّة كبيرة، حيث أنّ الهاربين من كوبا يلجأون إليها كونها الأقرب إلى كوبا، وهذه المدينة الغنيّة يسهل على المرء أن يرى تحت جسورها آلاف المشرّدين من مدمني المخدّرات الذين يسكنون تحت الجسور، والمثليّون الجنسيّون ذكورا واناثا يشكّلون ظاهرة في بعض شوارع تلك المدينة.

 

شيكاغو من جديد

          سافرت إلى شيكاغو في صيف العام 1999، ووجدت داود يستقبلني في مطار أوهير، كانت فرحتنا كبيرة باللقاء، سألني بحنان زائد عن ابنه علاء وعن زوجته التي تركها حاملا، والتي تعطلت معاملة هجرتها لخمس سنوات، لم يشاهد داود ابنه علاء إلّا بعد أن بلغ الرّابعة من عمره، بعد أن تمّت الموافقة على معاملة هجرته ووالدته، حيث عاد داود واصطحبهما معه في العام 2000، عدنا إلى المحلّ، لألتقي بشقيقي راتب بعد خمس سنوات من الفراق، وشقيقي راتب انسان عاطفيّ جدّا، رغم صلابته وقوّة جسمه المميّزة، تظهر عاطفته دموعا على وجنتيه عند استقبال أو وداع من يحبّهم، وراتب له هو الآخر مكانة متميّزة في قلبي، فهو شقيقي الأصغر، والذي يصغرني باحدى وعشرين عاما.

          أمّا داود ذو القلب الطيّب والعقل المتّقد، فإنّه لا يظهر عاطفته لأحد، لكنّه يظهرها بالأفعال…دار بي داود في أرجاء المحلّ شارحا لي كلّ شيء، صعد بي الدّرجات الخشبيّة إلى الشّقة التي تعلو المحلّ، فرآني تعبا بعد رحلة استغرقت ستّ عشرة ساعة طيران، وأكثر من ستّ ساعات انتظار في المطارات، فسألني إن كنت أريد النّوم طلبا للرّاحة، فغفوت ساعتين لا طلبا للنّوم، ولكن تحت ضغط الارهاق…نهضت واستحممت….جلست مع راتب حوالي السّاعة، ثم خرجت وداود لنستجمّ على شاطئ بحيرة متشيغن…تحدّثنا عن البلاد وأهل البلاد، والعائلة وهمومها، واستعدنا الأيّام الخوالي بمرّها وحلوها.

           أثناء تحليق الطّائرة فوق شيكاغو في طريقها للهبوط في مطار أوهيرو، كانت غيوم بيضاء تغطي سماء المدينة، وتعلوها غابة من ناطحات السّحاب في مركز المدينة..وهذا منظر لافت مثير للدّهشة قد لا يتكرر.

 

في لاس فيجاس

           ليلة وصولي شيكاغو تحدّث معي ابن العمّ محمّد موسى من هيوستن، استفسر عن أحوال الأهل وقال:

اسمعني جيّدا، اكتب هذا رقم التّذكرة الألكترونيّة، ستخرج بعد غد في السّاعة الثّالثة ظهرا…ستستبدل الطّائرة من مطار أريزونا وستصل لاس فيجاس في حوالي الثّامنة مساء، ستجدني في انتظارك…لا داعي للاعتذار فكلّ شيء مرتّب…لم يكن أمامي أيّ خيار سوى قبول الدّعوة، في حين أنّ داود اعتذر عن قبول الدّعوة قبل أن أصل شيكاغو؛ لأنّه مرتبط بأعمال لا يستطيع تركها، أغلقت الهاتف واذا به يرنّ مرّة أخرى، وكانت المكالمة من أخي محمّد من بورتوريكو، يطلب منّي تحديد موعد لزيارته، فاعتذرت له على أمل الحديث معه بعد العودة من لاس فيجاس.

في السّاعة المحدّدة بعد يومين أقلّني داود إلى المطار، استخرج التّذكرة، طرت إلى أريزونا ومنها إلى لاس فيجاس مدينة العجائب.

        لاس فيجاس مدينة عجيبة غريبة فريدة بين مدن العالم، بالتّأكيد لا يوجد لها شبيه بين المدن، أقامها في صحراء نيفادا وعلى سفوح جبال الأنديز شاهقة العلوّ مغني البوب الأمريكيّ الرّاحل إيلفاس بريسلى في منتصف القرن العشرين، ليلهو بها مع أقرانه المقرّبين، ثمّ ما لبث أثرياء أمريكا أن التحقوا به؛ لتصبح المدينة الأحدث والأكثر خدمات في العالم، والمدينة تشبه الصّحن وسط الجبال المرتفعة، أحضروا لها التّربة، وعملوا لها نهرا اصطناعيّا، وهي مضاءة بطريقة فريدة وعجيبة، تبدو المدينة ليلا جوهرة متلألئة، فنادقها ضخمة جدّا، وماكينات القمار تبدأ من المطار، وموجودة في كلّ مكان.

العربان في لاس فيجاس

       من المطار استقلينا سيّارة إلى فندق فنيسيا، لمّا سمعنا سائق السّيّارة الأسود نتكلّم العربيّة سألنا بلغة عربيّة ركيكة: هل تريدون بنات؟

 فرددت عليه ماذا تعني؟

 فقال: هل تريدون “شراميط” وأخرج بضع بطاقات كورق اللعب، على كلّ واحدة منها صورة لفتاة عارية من مختلف الألوان والأشكال، استغرب الرّجل الذي عرفنا أنّه من اريتيريا رفضنا لطلبه وقال:

عجيب أمركم فالعرب الذين يحضرون إلى هنا هدفهم النّساء والقمار!

        صالة فندق فنيسيا ضخمة جدّا، ولها عدّة مداخل، الفندق مبني حسب الفنّ المعماريّ الايطاليّ القديم، ويذكرك بمدينة فنيسيا “البندقيّة” الايطاليّة، سقف الصّالة مدهون على شكل السّماء التي تتطاير في فضائها غيوم بيضاء، يصعب على المرء تحديد ارتفاع السّقف من خلال الاضاءة والدّهان المتلألئ، الصّالة فيها آلاف ماكينات القمار، ومئات طاولات ورق اللعب، طاولات “الزّهر” والرّوليت، وألعاب قمار أخرى لم تحفظ ذاكرتي أسماءها، يوجد جناح خاص للمقامرين بمبالغ ضخمة، بمئات الآلاف وبالملايين، وعليها حرّاس لا يسمحون للمتفرّجين بدخولها، لكن بامكانهم مشاهدتها من خلال شاشات سينمائيّة ضخمة معلّقة على الجدران.

        واللافت أن المقامرين في غالبيتهم من كبار السّنّ المتقاعدين، الذين جمعوا ثروات هائلة، ولم يتبق أمامهم سوى اللهو بها، تدلّ وجوههم أنّهم في غالبيّتهم من شعوب جنوب شرق آسيا “اليابان، تايوان وكوريا الجنوبيّة” اضافة إلى العرب، وبعض الفنّانين الأمريكيّين والأوروبيّين، لفت انتباهي عربيّ في السّبعينات من عمره، دخل بصحبة شابّة عشرينيّة ترتدي العباءة والخمار، أشار إليها كي تجلس للعب على احدى ماكينات القمار، في حين دخل هو إلى صالة كبار المقامرين، وما أن ابتعد عنها حتى خلعت خمارها وغطاء رأسها وعباءتها، وضعتها تحتها على الكرسيّ الذي تجلس عليها، بدت حسناء في بداية العشرينات من عمرها، تلبس آخر ما أنتجته دور الأزياء الأمريكيّة من ملابس العري، تسريحة شعرها الفاحم، وعيونها الحوراء لفتت أنظار الجميع.

       تدور في صالات القمار لخدمة الزّبائن فتيات حسناوات، عاريات إلّا من طبعة لاصقة تغطي حلمة الثّدي، وخيط رفيع يغطي ما بين الفخذين، يدرن بعجلات ليقدّمن ما يريده الزّبائن من مشروبات مجّانا ودون مقابل.

       يعجب المرء من استعمال الذّهب في الفندق، فزرافيل الأبواب والحنفيّات، ومشاجب الملابس، ورؤوس التّخوت والملاعق والسّكاكين كلّها من الذّهب، الغرف عبارة عن غرفة نوم مزدوجة، وصالة فيها طقم كنبايات، أجرتها 160دولارا في اليوم مع وجبتي الفطور والعشاء، أمّا الغداء فإنّك تستطيع أن تطلب ما تشاء، وأن تأكل الكمّيّة التي تريدها مقابل تسعة دولارات فقط، سبب رخص الفنادق هو المنافسة الشّديدة بينها، ولجذب الزّبائن لممارسة القمار فيها.

لماذا لاس فيجاس؟

        سبب دعوة ابن عمّي لي لزيارة لاس فيجاس، وليس غيرها هو أنّ الرّجل جاء لحضور معرض لماكينات حديثة، ما أن تمرّر الشّيك عليها حتى تسحب المبلغ المطلوب من صاحب الشّيك وتحوّله أوتوماتيكيّا لحسابك، وإذا كان الحساب أقلّ من قيمة الشّيك، فإنّها تسحب الموجود منه وتكتب لك ذلك، وابن عمّي محمّد موسى الذي يمتلك ثلاثة عشر محلّ صرافة في هيوستن، جاء ليتعلّم كيفيّة استعمال هذه الماكينات، وليشتري كميّة منها لمحلّاته….ومعروف أن كبريات الشّركات الأمريكيّة تعرض انتاجاتها الجديدة في لاس فيجاس، لاحقا أصبحت هذه الماكنيات شائعة الاستعمال في أمريكا كلّها.

في الهورس شو

           التقى ابن عمّي بزميل له درس الهندسة معه في جامعة هيوستن، وهو فلسطينيّ من قرية العيزريّة قرب القدس متزوّج من ايرلندية، يملك في لوس انجلوس شبكة مطاعم، شبكة محطّات وقود وشبكة محلّات صرافة، قرّر وزوجته عدم الانجاب، تعرّفت على الرّجل، ودعانا بدوره على عشاء في مطعم ” الهورس شو” المكوّن من ستّ طبقات، أربعة منها صالات قمار، واثنتان لتناول الطّعام، ومن يريد تناول الطّعام فيه، عليه أن يحجز قبل 24 ساعة، لأنّه يعدّ الطعام على نار هادئة، “على شموع كما يزعمون” اتّفقنا أن نأكل “ستيك”، في مساء اليوم التّالي توجّهنا إلى المطعم في السّاعة المحدّدة، فاصطحبتنا فتاة إلى طاولة مكتوب اسم الرّجل عليها، أضواء المطعم خافتة، تنبعث في جنباته موسيقى هادئة، هي عبارة عن سمفونية لبتهوفن…سألَتْ النادلة:

 ماذا تريدون أن تشربوا؟ فطلب زجاجة نبيذ اسمه”لويس السّادس عشر”. و”ستيك” هذا المطعم يقارب وزنه الكيلو غرام، وهو لذيذ جدّا، لم آكل شبيها له في أمريكا أو غيرها من البلدان، – عرفت لاحقا أنّه ينقع بالنّبيذ- ثمّ ما لبثوا أن طلبوا زجاجة نبيذ أخرى، من نفس الصّنف، تحدّثوا في الأعمال والتّجارة، فاتورة العشاء أكثر من دخل عشر أُسَرٍ فلسطينيّة لمدّة شهر.

زفاف راتب

      عاد شقيقي راتب إلى البلاد في صيف العام 2000 وخطب فلسطين شقير ابنة قريتنا بل ابنة الحامولة، وفي العام  2001 لم يستطع الحصول على فيزا-تأشيرة دخول- ليتزوّج، فقد كان يحمل الاقامة في أمريكا، وغير حاصل على الجنسيّة في حينه، ولكم أن تتصوّروا أنّ راتب المولود في القدس أبا عن جدّ لا يستطيع دخولها إلّا بجواز سفر أجنبيّ، وبتأشيرة سياحيّة من المحتلّين، فسافرت وبصحبتي فلسطين خطيبة شقيقي، ووالدها، وابنيّ قيس ولمى التي كانت في التّاسعة من عمرها، حصلنا على فيزا وسافرنا إلى شيكاغو، وصلناها يوم 21آب-أغسطس-2001، عملنا حفل زفاف لراتب في مطعم كبير اسمه رضا، ملحق به قاعات أفراح، ويملكه ايرانيّ من أيتام العهد الملكي، المطعم يمتدّ على طول شارع، وبحضور المئات من أبناء الجالية الفلسطينيّة والعربيّة، أحيت الحفل فرقة لبنانيّة تخللتها رقصات شعبيّة فلسطينيّة ولبنانيّة، شارك الحضور فيها، كانت الفرحة ناقصة لأنّ الوالدة لم تشاركنا الفرحة نظرا لشيخوختها ومرضها، والعروس افتقدت والدتها هي الأخرى، تزوّج راتب واصطحب عروسه لقضاء شهر العسل في ميامي التي يعرفها، وسبق له العمل فيها لأكثر من سنتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى