قراءة في رواية “الغرفة رقم 4” للروائية إيمان شرباتي
بقلم: سمر أحمد تغلبي | سوريا
من لعبة الأرقام إلى لعبة السياسة.. للأدب كلمته
قبل الدراسة:
“نعم يا عزيزتي، لكل رقم سرّ ومعنى، وفي علم الطاقة يلعب الرقم دوراً عظيماً في مسيرة الأشخاص.” ص85
ترى، هل يمكن أن تكون دلالات الأرقام التي يتحدث عنها الباحثون في الطاقة حقيقية؟ أم أن ذلك لا يعدو كونه خرافات وتهيؤات، وأن كل ارتباطات الأرقام مع الأحداث هو محض صدفة؟
هل للرقم 4 تأثيره على أبطال الرواية؟ أم أن تكرار هذا الرقم في حياة البطل هو محض صدفة؟ تساؤلات بقيت قيد الاحتمالات إذ طرحتها الرواية وتركتها تعبث بخيال القارئ وفكره.
“الأهم من كل هذا أنك تقيمين في هذه الغرفة، قدرنا واحد، ومسار حياتنا يحكمه الرقم 4” ص78
تمهيد:
رواية “غرفة رقم 4” للروائية إيمان شرباتي تروي حكاية أربع فتيات من أربع دول عربية اجتمعن في بيروت، الفتيات الأربع يخضعن لورشة تدريبية مكثفة تقيمها منظمة دولية تسعى لتحقيق السلام في العالم، التدريب هو بمثابة اختبار قبول لهن للانضمام لطواقم المنظمة.
ومع أن هذا كان حلماً يراود كلاً منهن، إلا أن الأحداث التي جرت في بيروت أثناء الورشة جعلتهن يرفضن الانضمام للمنظمة بعد قبولهن فيها، فقد اكتشفت كلٌّ منهن بطريقة مختلفة أن أي عمل باتجاه السلام لن يكون له أي أثر مادام العنف هو السائد على الأرض، ومادام ميزان العدالة مائلاً.
اللافت في الرواية هو الحكاية المتضَمَّنة فيها وهي حكاية كريم الشاب الفلسطيني الذي يظن الجميع بأنه قتل في المعتقلات الإسرائيلية إلا أن بطلة الرواية “أماني” تلتقيه في بيروت ليحكي لها حكايته التي التصق بها الرقم “4” ويطلب منها أن تنشرها في الصحف لتصل الحقائق إلى الناس غير مزيفة. كان هذا سبباً رئيساً في رفض أماني الانضمام للمنظمة التي كانت بالنسبة لها حلماً بعيد المنال، وحين أصبح بمتناولها لفظته..
عتبات الرواية:
جاء غلاف الرواية باللونين الأبيض والأسود تتوسطه صورة غرفة يكتنفها الغموض إذ لا تظهر أشياؤها بوضوح، تظهر النافذة والضوء الداخل منها إلى فضاء الغرفة، ورغم الضوء تبدو الأشياء فيها ضبابية..وهذه الضبابية ستكون طاغية على الأحداث بشكل كبير، وعلى الغرفة رقم 4 وما يحدث فيها أو بسببها بشكل خاص.
أما العنوان فهو أكثر ضبابية من الغلاف؛ فهو لا يشي بأي حل للألغاز المتعددة التي يواجهها القارئ في الرواية، ولا يمكن حتى التنبؤ بموضوع الرواية الرئيس من خلال هذا العنوان الذي لايحمل إلا رقم الغرفة التي جرت فيها الأحداث، سواء كانت هذه الغرفة في السكن التابع للمنظمة، أم غرفة للتحقيق في أحد المعتقلات الإسرائيلية. لندرك مع استمرار القراءة وتتالي الأحداث الرابط الغريب بين الغرفتين.
حين نفتح غلاف الرواية ونتجاوز عنوانها يطالعنا الإهداء الذي أتى إنسانياً يعلي قدر الفكر الذي يجعل من الإنسان عنصراً مؤثراً في مجتمعه:
“إلى كل إنسان آمن بفكرة حد الاعتقاد فآمن بها الآخرون”
وهو يشي بكاتبة تدرك عظمة كل من يترك بصمة لا تمحوها السنون:
“إلى أرواح العظماء الذين دفنت أجسادهم لكنّ أرواحهم بقيت حيةوتركت بصمة على جبهة الزمن”
وتقدّس حق الشعوب المنكوبة في الدفاع عن حقوقها بكل الوسائل، من خلال تخصيص جزء من الإهداء لـ “كريم” الشاب الفلسطيني الذي أصبح في الرواية أسطورة للكفاح الفلسطيني والصمود الفلسطيني:
“إلى كريم بطل روايتي، والذي يمثل الروح المنكسرة لشعب بأكمله”.
لتأتي العتبة الأخيرة بعد الإهداء في بضع مقولات بعضها فكري وبعضها عاطفي لبعض المشاهير هم على الترتيب: (مصطفى محمود – جلال الدين الرومي – باولو كويلو – أحمد شوقي – جبران خليل جبران – نجيب محفوظ)
هذه المقولات التي من الواضح أنها تلخص فلسفة الكاتبة في الحياة، وليست مجرد مقولات يمكن إسقاطها على أحداث الرواية.
شخصيات الرواية:
رغم أن الشخصيات الرئيسة في الرواية هي شخصيات الفتيات الأربع اللاتي قدمن من بلدان مختلفة بهدف الخضوع لورشة تدريبية تابعة لمنظمة “حراك” في بيروت، إلا أن الشاب “كريم” لم يقتحم غرفة الفتاة السورية “أماني” وحياتها فقط، وإنما تغلغل في أحداث الرواية التي حدث معظمها بسبب ظهوره على مسرحها أو بسبب وجوده السابق في المكان ذاته والغرفة ذاتها قبل اعتقاله.
لذلك لايمكن أن نتحدث عن الشخصيات دون أن يتصدرها “كريم”: هذا الشاب الفلسطيني الذي ولد وترعرع في عائلة مناضلة، والذي عشق الحجر منذ نعومة أظفاره، لتتدرج أساليب المقاومة لديه مع بلوغه سن الوعي والرشد شيئاً فشيئاً، ذُبحَ أخوه الأكبر أمام عينيه في المعتقل، وسُحبت خالته التي ربته أمامه ليتم قتلها بدم بارد، وتم القبض على زوجته والاعتداء عليها لتموت مع الجنين الذي كان قد أضفى تكوّنه في رحمها فرحة جديدة في حياة العائلة التي لا يزورها الفرح عادة، لكنها فرحة لم تكتمل،
“لا أنسى اللحظات التي تم الاعتداء فيها عليّ، سامحني لأنني عجزت عن حماية نفسي وشرفي وابننا” ص208
أشيع خبر موته في المعتقل بعد أن عُذِّب واقتلعت عيناه، لكنه ظهر في بيروت خلف نظارة سوداء تخفيان وراءهما “مغارتين مظلمتين غارقتين في لجج من السواد، تحيط بهما هالتان من دوائر زرقاء تمتدان حتى الخد” ص11
أماني السورية، لينا العراقية، فرح المصرية، ومي الفلسطينية: أربع فتيات لكل منهن حكاية، لكن جمعهن هدف واحد: هو حب السلام والعمل من أجله وهذا ما دعاهن للعمل من أجل الانضمام إلى المنظمة العالمية المعروفة بنشاطها الواسع في هذا المضمار، وحين ضل الهدف، رفضن جميعاً الانضمام وعادت كل منهن إلى بلدها محملة بمعارف جديدة ورؤى جديدة أبعد من حدود بلدها الذي قدمت منه.
المشرفة رجاء: التي استطاعت بهدوئها واتزانها أن تحافظ على انضباط نزيلات السكن وتكسب محبتهن في آن واحد، لكنها لم تتمكن من إقناعهن بالاستمرار مع المنظمة.
العم فؤاد الذي يعمل في حديقة السكن ولا يغادره، والذي قتل في ظروف غامضة.
منير: الشاب الذي كان في الدفعة السابقة للتدريب ولكنه أبطأ سفره لهدف ظاهره الحب ولكن كان هناك سبب خفي، ويبدو أن هذا السبب كان سبب مقتله في طريق عودته إلى بلده سورية.
السياسة والتاريخ في الرواية:
تأخذنا الرواية من خلال سردها الروائي وأحداثها والحوارات بين شخصياتها إلى السياسة العالمية في الشرق الأوسط التي بدأت بأحداث القرن الماضي في دول عربية عدة أهمها فلسطين، وامتداد هذه الأحداث حتى الوقت الحاضر، وخاصة غزة، القطاع الذي ينتمي إليه كريم بطل الرواية وقريبته مي الشريكة في السكن.
تحدثنا الكاتبة بلسان شخصياتها عن المعتقلات الإسرائيلية، وتعذيب الأطفال، والحصار الذي يتعرض له الفلسطينيون، فضلاً عن الذل على المعابر حين يضطر فلسطيني أن يغادر القطاع لحاجة ما. حول هذه القضية اخترت مثالين الأول بلسان مي والثاني بلسان كريم:
- “نحن في غزة نخضع لظروف قاسية، أحياناً نحاصر شهوراً، وأحياناً نحتجز في المعابر، حين قدمت إلى هنا عرفت مقدار المشقة والعذاب اللذين يعانيهما الخارجون والداخلون، إضافة للإذلال وهدر الكرامة والكلمات المسيئة التي نسمعها، لن أستطيع الحضور مرة ثانية” ص225.
- “سمعت حزّة السكين وهي تأخذ مجراها بين اللحم والعظم، وصرخت!! وصلت صرختي للسماء فهبطت العتمة لتغطي المكان (….) واندفعت إلى أخي الذي كان يبتسم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويهمس لي: اثبت.” ص144.
وبعيداً عن فلسطين كان لبيروت التي تستضيف ورشة العمل نصيب وافر من التعريف بالحياة السياسية في هذه المدينة الغريبة الأطوار؛ فبيروت المدينة اللعوب كما وصفها مصطفى محمود في مقال له حدثت به الشخصية الساردة نفسها وهي تتذكر ما تعرفه عن هذه المدينة، فلا يمكن أن تذكر بيروت إلا “وتسترجع في ذاكرتك بيروت المقاهي الثورية، والمنتديات السياسية، وبارات الجواسيس، والأحاديث العقائدية.” ص37
فبيروت في النصف الثاني من القرن الماضي أصبحت عاصمة عالمية بسبب الأحداث التي جذبت عرباً وأجانب إليها فقد كانت “ملاذاً للاجئين السياسيين العرب الذين أطاحت بهم الانقلابات العسكرية” ص38
ولابد لباقي الدول التي جاءت منها الفتيات الأربع أن يكون لها نصيب في التغني بالماضي القريب والمقارنة بينه وبين الحاضر المأساوي الذي أرخى بظلاله على هذه الدول.. فالعراق الذي جاءت منه “لينا” كان في أوج تطوره قبل الحروب التي خاضها مع دول الجوار وكان الاستقرار السياسي فيه سبباً في الاعتناء بالاقتصاد والتعليم والبناء، ولكن كل ذلك ابتلعه النظام الفاسد وأجهز عليه:
“”من يصدّق أن العراق مثلاً عندما كان ناهضاً أعلنت اليونيسكو بأن التعليم فيه أفضل تعليم في الشرق الأوسط، وصار ينافس الدول الإسكندنافية عام 1977، كما أن أول دينار عراقي كان يعادل 436 دولاراً أمريكياً ، وأول سلم كهربائي في الشرق الأوسط كان في بغداد عام 1970” ص168
ومن غير الممكن أن يحضر العراق في الرواية سياسياً دون أن يحضر سجن أبو غريب الذي فُضحت ممارسات التعذيب داخله من خلال صور تم التقاطها وتسريبها إلى خارجه؛ ليضجّ الرأي العام ضد هذه الممارسات التي قامت بها دول تدّعي العدالة والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، بينما تظهر ممارساتها الاستعمارية واضحة جليّة من خلال فضيحة هذا السجن الذي كان والد لينا أحد ضحاياه، فقد “تسلموا جثته من سجن أبو غريب مرفقة بتقرير طبي يبرر موته بسبب ارتفاع في سكر الدم في الوقت الذي كانت فيه أعضاؤه الذكرية مقطوعة وأظافره وأسنانه مقلوعة” ص171
أما مصر التي جاءت منها “فرح” فقد كانت أجمل مدن العالم 1925، وقد كانت الدول الأوربية تفتخر بأنها تقوم بتجميل مدنها لتصبح مثل القاهرة. وما سبب ذلك إلا الاستقرار السياسي أيضاً والذي يتبعه استقرار اقتصادي جعل الرئيس الأمريكي السابق (هيربرت هوفر) يزور مصر “لطلب المعونة بسبب المجاعة التي اجتاحت أوربا بعد الحرب” ص169
وخارج هذه البلدان أشارت الرواية على لسان المدرّب إلى اليمن الذي يعدّ من البلاد المنكوبة حالياً بينما كان في زمن الاستقرار السياسي ذا اقتصاد قوي لدرجة أنه “كان يقرض البنك الدولي في عهد أسطورة اليمن الشهيد إبراهيم الحمدي وكان الدولار في عهده يعادل ريالاً ونصف” ص169
بينما لم تحظَ سورية في الرواية إلا بحديث عابر عن الحرب التي “دمرت مدنها وشردت أبناءها وهجّرت شعبها، ولا زالت الآثار المتبقّية تطفو على السطح كلّ ثانية لتذكّرنا بصائب وكوارث وويلات عصيّة عن الحل.” ص148
وهذا يعود -في اعتقادي- إلى أن الكاتبة توسعت في الحديث عن سورية عموماً ودمشق خصوصاً وعن الحرب وآثارها بشكل مسهب في روايتها السابقة “بنت العراب” التي وثقت من خلالها الكثير عن تاريخ سورية المعاصر قبل الحرب وبعدها.
الثقافة والأدب في الرواية:
بدءاً من الأدب الفلسطيني وأثره على المجتمع الفلسطيني المقاوم وانتهاء بالثقافة العربية عموماً زخرت الرواية بالأحاديث الثقافية الشيقة التي تقدّم وجبة معرفية دسمة سواء كانت هذه الأحاديث ذاتية للشخصية الساردة أم كانت ضمن حوارات بين الشخصيات المختلفة.
فقد كان للأدب الفلسطيني عموماً والشعر خصوصاً أثر كبير على بناء شخصية “كريم”؛ حيث كان والده يحفظ أشعار محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان وإبراهيم طوقان وتوفيق زيّاد. ولم يتوقف الأمر لديه عند حدّ الحفظ، بل تعدّاه إلى تمثّل القضية الفلسطينية من خلال هذه الأسماء وهذه الأشعار، لدرجة أنه سمّى أولاده بأسمائهم، ويردد على مسامعهم دائماً مقاطع شعرية تثير العزة وتعزز الالتصاق بالقضية. كل الأسماء السابقة للشعراء كانت أسماء لأخوة “كريم” الذي حمل بدوره اسم الشاعر الفلسطيني “عبد الكريم الكرمي” الملقب بأبي سلمى، ولم ينس والده أن يوصيه بأن يسمي ابنته سلمى ليكتمل حمل الاسم.
“وكان يتباهى بهذا أمام الجميع ويقول: لقد جمعت عظماء الشعر كلهم في بيتي.” ص106
يحفظ كريم من أبيه الكثير من الشعر الفلسطيني الذي يتغنى بالوطن، وقد ردد بعضه على سمع “أماني” خلال لقاءاتهما المتكررة في الغرفة رقم “4” عند التقاء العقربين في منتصف ليل بيروت المشاكس.
يحفظ أيضاً الكثير من الشعر الوجداني لأولئك الشعراء، يرسل إليها بعضه في رسائل نصية، ويسمعها بعضه الآخر حين يفيض وقت اللقاء عن حكايته التي أتى ليسردها.
وفي سياق الأدب الفلسطيني أيضاً يحفظ كريم عن أبيه حكايات الشعراء ومنها حكاية الشاعر معين بسيسو الموغل في الوطن شعراً، والذي نام نومته الأخيرة في غرفته الفندقية بعد أن علق على بابها يافطة مكتوباً عليها: “الرجاء عدم الإزعاج”.
وبعيداً عن “كريم” فللثقافة والأدب في الرواية حيّز واسع أتى بعضه في حوارات مختلفة وبعضه الآخر على لسان “أماني” الشخصية الساردة التي ذكّرها كريم برواية فلسطينية قرأتها في دمشق هي رواية “مدينة الله” لحسن حميد؛ فوجدت نفسها ترسل رسالة إلى أمها لترسلها لها مع أحد السائقين لتعيد قراءتها بنفَس جديد بعد أن تعرفت على كريم. لتجوب مع الكاتب شوارعَ القدس عبر رسائل زائرٍ روسي لأستاذه الجامعي الذي علمه اللغة العربية في جامعة سان بطرسبورغ:
“هنا لاشيء يفسد المكان أو الهواء أو الصفاء سوى هذه البغال السمان التي يعتليها الجنود السمان الثقال، وقد اعتلتهم خوذ الحديد الشاحبة، يهزون أيديهم بهراواتهم الغليظة وقد أغلقت وجوههم.” ص187
كما تحدثت الرواية على لسان كريم عن محاولات الإسرائيليين لإجهاض العقل الفلسطيني من خلال اغتيال الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين “وهو المسلسل الذي بدأ من محاولة اغتيال العديد من رموز الثقافة كغسان كنفاني (….) وكمال ناصر الذي استهدفته عملية عسكرية إسرائيلية …” ص114
وإضافة للأدب الفلسطيني كان للحديث عن الثقافة بمختلف أشكالها وأبعادها مساحةٌ لا يستهان بها في الرواية، ومثال ذلك حديث الشخصية الساردة عن بيروت التي كانت مكتباتها تزخر بكتبٍ قيّمة جعلت منها قبلة لزوارها من المثقفين، “إذ تشكّل المكتبات مقصداً للمثقفين اللبنانيين والعرب والمستشرقين والمستعربين في العالم” ص40
فبيروت كما تذكر الساردة هي عاصمة الطباعة والنشر في الوطن العربي، واتّكأت في حكمها هذا على المقولة الشهيرة: “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والعراق يقرأ”.
العروبة والأديان في الرواية:
لم يكن للدين والقومية العربية أثراً جلياً في رواية إيمان شرباتي، ومع ذلك فقد حضر كلٌّ منهما كومضة برق لتقول للقارئ: ها أنذا فالتقطني. فرغم الحيّز الصغير الذي عبّر عنها إلا أن هذا الحيّز بدا مشعاً بنور المعنى وعمق المغزى..
أشارت الرواية للأديان في سياق حديثها عن القدس، فالقدس كما يقول أهل الجغرافيا “إنه إذا رسمنا مثلثاً تكون رؤوسه بمكة والقاهرة وبغداد، تكون القدس في القلب من هذا المثلث” ص188
فهذه المدينة التي جمعت رموز الأديان السماوية الثلاثة؛ (العين الذي استقى منها موسى، والدرب الذي شهد آلام المسيح، ومنها معراج النبي محمد عليهم السلام أجمعين)؛ وقد تحققت فيها العدالة والحرية الدينية التي ضمنتها العهدة العمرية “ولم يكن هناك لا مجلس أمن ولا أمم متحدة ولا جامعة الدول العربية ولا منظمات حقوق الإنسان” ص189
أما العروبة فهي القيمة التي توصلت إليها الساردة “أماني” بعد تجربة التدريب الذي جمعها بفتيات من دول مختلفة لكنهن يحملن الهمّ ذاته، ما أكّد لها أن القضية لا تتجزأ وأن كل الدعوات لتجزئتها تصب في مصلحة العدو المشترك الذي هو “إسرائيل”
“جئت إلى هنا وأنا أحمل قضيتي فإذ بي أحمل قضايا كل العرب، فلسطين، ومصر، والعراق، واليمن، وغيرها.. جئت إلى هنا وأنا أسمع ولا أدين تلك الأصوات التي تنادي بنسف العروبة والاكتفاء باسم البلد مجرداً منها، (….) وأن العروبة ليست فقط انتماء، بل هي ماضٍ وحاضر وهوية وثقافة..” ص227-228
فقد انطلقت أماني من المحلّية إلى العروبة، ومن العروبة إلى الإنسانية؛ حيث باتت تنظر إلى الإنسان مجرداً عن قوميته ودينه وطائفته. “هنا صار لي أهداف، كل قضايا العرب قضيتي وكل مشاكل الإنسان مشكلتي، الإنسان أينما كان، ومن أي طائفة ولون ودين هو” ص148
البناء الروائي في الغرفة رقم 4:
على مستوى الحدث الروائي اتخذت الرواية شكلاً هرمياً من حيث البداية وتتالي الأحداث وتعقدها حتى وصولها إلى الحبكة التي تجلت بجريمتي قتل تحدث أولاهما في السكن المخصص للفتيات الأربع، وثانيتهما لشاب من رواد السكن السابقين، ما أثّر على توجّههنّ وعلى قرارهن بشأن الانضمام للمنظمة في نهاية التدريب، لتصل الرواية إلى نهايتها مع نهاية فترة التدريب ومازال الغموض يلفّ الجريمتين، وحدها أماني تعرف السبب الرئيسي وراء الجريمتين وتعرف مَن وراءهما.
لكن رغم هذا البناء الهرمي فقد جاءت الأحداث الإضافية التي هي الأهم في الرواية خارج هذا البناء؛ فنجد مثلاً حكاية كريم التي شكلت هرماً آخر لحكاية أخرى قادمة من زمان آخر ومكان آخر فكان كريم هو البطل الحقيقي للرواية، إضافة لحكايات إضافية أخرى هي حكايات فتيات التدريب التي كانت تعريفية لا أكثر.
أما من حيث اللغة فقد جاءت مسبوكة بحرفية عالية بمفردات سهلة لكنها ليست هشة، وبتراكيب واضحة ولكن بعيدة عن الابتذال. يُحسب للكاتبة اعتماد الفصحى في الحوارات، هذه الفصحى التي تراوحت بين السهل الذي يتناسب مع المحاور البسيط كالعم فؤاد وشادي،وبين العميق الذي يتناسب مع حوارات المثقفين كحوارات الفتيات الأربع وحوار أماني مع كريم.
وسأورد مثالين أولهما حوار بين أماني والعم فؤاد والثاني حوار بين أماني ولينا:
- “برد كأس الشاي، هل تحبين أن أستبدله بآخر ساخن؟ – لا… شكراً صديقي سأشربه بارداً، ولكن قل لي: ما الذي كان يميز كريم عن باقي الزملاء؟” ص30.
- “- مع أن عملك يتطلب مهارة عالية في الكلام. – نعم صدقتِ، أنا أميل للصمت، أقرأ فيه الآخر وأستفزّ ذاكرته، بهدوء وعمق ألملم حكاياه كما شهدها وأعرف شخصيته.” ص83.
وفيما كانت معظم الحوارات طويلة اتخذت شكلاً سردياً، فقد جاء بعضها قصيراً يتناسب مع حيزه الزمني المحدود، كحوار أماني مع لينا في أثناء زيارتها القصيرة لها في الغرفة، أو حوارها مع العم فؤاد أو مع شادي أو مع مي ضمن المحاضرة.
أما السرد فقد جاء قسم منه على لسان الشخصية الساردة، فيما جاء القسم الآخر على لسان شخصيات أخرى ضمن حوارات طويلة، وفي كلا الحالتين نجد للسرد أشكالاً مختلفة؛ فبعضه جاء إخبارياً مباشراً تشعر معه أنك تقرأ في صحيفة أو تستمع لتحليلٍ بعد نشرة أخبار سياسية: “قال المدرب: صحيح أن الظلم والتعذيب واضطهاد الأقليات تخلق ردات فعل عكسية تصيب صاحبها بداء العنف الذي قد يتحول إلى إرهاب، لكن كل هذه الأمور مردّها إلى الأنظمة التي تحكم البلاد والتي هي أصلاً صناعة إرهابية مستوردة يراد بها زرع العنف والفساد والانحراف لتصبح حقاً من حقوق الإنسانية فيما بعد. لو بقيت الأنظمة العربية كما كانت من قبل لما وجدنا أنفسنا نحن الدول العربية نعيش في غربة يحدها من جميع الجهات إسرائيل.” ص168
ولكن قبل أن يسيطر عليك الشعور بالملل من قراءة هذه التحليلات، ما تلبث الكاتبة أن تكسر هذا الشعور لتعيدك إلى أجواء الرواية من خلال حوار أو حدث.
أما الشكل الآخر للسرد فقد جاء عميق المعنى شعري اللغة ينضح بالصور التي تسحب القارئ إلى عالمها لتغرس فيه ما تشاء من أحاسيس.. معظم هذا السرد جاء على لسان الساردة أماني.. لكن لابد من بعضه على لسان الشخصيات الأخرى.
وسأورد بعض الأمثلة عن هذا الشكل من السرد:
- “وهو.. لغز محيّر، أمل هلامي يحوم فوق رأسي، كلما حاولت التمسك به تسرّب من بين أصابعي، كالماء هو حين تتمكن الرغبة بضم يدي عليه، كقبض الريح لا يورّث غير الحسرة والهمّ، يثقل القلب كذكرى حزينة متوارية في رفوف الذاكرة كلما أطلّت برأسها غرست أشواكها المدبّبة في القلب” ص62 (أماني).
- “لاينبغي لأحد أن يستعير مخيلة شاعر ماهر في اصطياد أحلامه والتحضير لها بشكل يوشك أن يكون حقيقة، لولا موسيقى توشّي الكلمات بفيض رقتها، وتؤنس الحكايات الأخيرة بمحض غواياتها وفتنة نغماتها لتكون القصيدة الأخيرة، لكن القصيدة التي جلجلت في صدر الشاعر قبل إغفاءته الفندقية والتي طالت حتى اكتمل في ظلها الشاعر كائناً خرافياً مكتمل الوجود، ظلت حبيسة ذلك الصدر ولم تخرج أبداً” ص111 (كريم).
- “لم أشأ أن أدعه يسترسل في أحلامه الجميلة التي يصبو لها وأنا على مشارف موت لا أدري متى يأتي، آثرت الانسحاب في الوقت المناسب قبل أن أغرق فيه أكثر وتتكسر أشرعتي وأنا على شفا الرحيل. آثرت أن أنسحب قبل أن أعرش في ذاكرته وشماً لاشيء يزيله.” ص131 (فرح)
أما الأشكال الأخرى للسرد فقد جاءت لدعم الحدث الروائي أو للوصف أو للتعريف بالشخصيات إلى غير ذلك من وظائف يقوم بها السرد في أي رواية.
ولابد من التنويه عن بعض الأخطاء اللغوية والطباعية التي وردت في الرواية إضافة إلى عدم وضع علامات الترقيم بشكلها الصحيح، هذه الأخطاء التي تضيع المسؤولية عنها بين الكاتب والناشر بسبب عدم وجود بند يحدد هذه المسؤولية في بداية الكتاب، وهذا لا يقتصر على الرواية التي بين أيدينا، وإنما هو أمر عام يجب أن يعالَج.
الخاتمة:
فتحت الرواية أبواب القضية الفلسطينية على مصاريعها، وفتحت معها قلوب العرب على هذه القضية التي لم تغلقها في نهاية الرواية؛ وإنما أبقت الرواية مفتوحة على الاحتمالات مع الأمل بتحقيق شيء يخدم هذه القضية من خلال نشر أماني لحكاية كريم في الصحف إضافة لإرسال الوثائق المهمة التي صارت بحوزتها إلى الصحافة التي تتمكن من نشرها وفضح أسماء العملاء، هذا يأخذنا إلى انفراج مأمول ليس في مستقبل أماني وكريم فحسب، بل في مستقبل المقاومة الفلسطينية والقضية برمّتها.