فاطمة نزال.. الكتابة بالجسد لا بالكلمات
سامي قرّة | القدس العربية المحتلة
يقدّم ديوان الشاعرة الفلسطينية فاطمة نزال بعنوان “إصعد إلى عليائك فيّ” فرضية أساسية ترتبط بذاتية المرأة، وهي أن وعي المرأة وشعورها ينبثقان من احتياجاتها الفسيولوجية وغرائزها الجسدية مما يؤثر على تجاربها الجنسية والعقل الباطني لديها. والصوت الأنثوي القويّ الذي نسمعه في جميع قصائدها ما هو إلا استعارة طنانة، تبغي الشاعرة عن طريقها تفكيك اللغة الذكورية والممارسات الاجتماعية التي تفرض على المرأة نمطًا ممنهجا من الحياة، يتّسم بالكبت والحرمان والانهزام والتقوقع. وفي هذا تُظهر الشاعرة قوّة وجرأة في التعبير نراهما بوضوح في الألفاظ والإيحاءات الجنسية الصريحة التي تستخدمها الشاعرة، ومن أمثلة ذلك هذه المصطلحات “فض بكارة” و”رعشة” و”رجفة جسد” و”عذراء” وغيرها من الكلمات التي تشير إلى جنسانية المرأة. كما تمهّد الشاعرة أيضا الطريق لنشوء لغة أدبية خاصة بالمرأة، وهذه اللغة، كما تقول الكاتبة والمفكرة الفرنسية هيلين سيكسو، تقع خارج نطاق الخطاب الذكوري. وهذا ما تعبّر عنه الشاعرة بوضوح في قصيدتها غير المعنونة التي تفتتح بها القسم الثالث من ديوانها بعنوان “لا مستور بين طيّات الكلام:”
سأمتطي صهوة فكرة جامحة
أروضها بطلاوة الحرف
أصوغ منها نصّا
يوقظ البنات الغافيات في خدر الخيال
يهرعن على شرفاته
راقصات على المعنى
منتشيات
وسابحات في ملكوت من أثير “ص 85”
أمّا “الفكرة الجامحة” التي تتحدث عنها الشاعرة من وجهة نظري فهي التعبير بحرية عن جنسانية المرأة ليس بدورها الاجتماعي الجنسي التقليدي المحدود الذي يسعى دائما لإسعاد الرجل وتلبية رغباته (مثل المرأة العذراء أو بنت الليل أو الزوجة أو الأمّ)، بل عن جنسانيتها من أجل ذاتها، ومن أجل تعزيز هويتها الأنثوية. وتدعو الشاعرة في قصيدتها كافة “البنات الغافيات” أن يستيقظن ويحررن أنفسهنّ من الأوهام التي توحي بمركزية الرجل في هذا الكون، وأن يمتطين معها صهوة فكرتها الجامحة، ويُعرّفن أنفسهنّ ليس بلغة الرجل بل بلغتهن الخاصة، لغة أجسادهن، لأنه كما تقول الشاعرة:
لا مستور بين طيّات الكلام
ابقر بطن السطر
ودع دمه يسيل على المجاز (ص 97).
لا تستحي الشاعرة من جسدها ولا تعتبره عورة، بل تفتخر بكونها امرأة لها جسد يشكل جزءا من هويتها وكينونتها. تخاطب الشاعرة الرجل بكبرياء وبنبرة ملؤها التحدي والنديّة وتقول:
حواء التي أخرجتك من الجنة
تجلس الآن هناك تقضم التفاحة
لا حاجة لورقة توت تغطي سوأتها
لا سوأة أصلا
لا ضلع أعوج “ص 100”.
لا تحتاج حواء أن تغطي جسدها فهو مصدر قوة لها، وعليها أن تكون هي المسؤولة عنه، وعمّا تفعل به. ففي هذه القصيدة نجد أن الشاعرة تحرر نفسها مما يسميه فرويد “عقدة الخصاء” التي تجعل من المرأة، كما يقول فرويد وافلاطون من قبله، رجلا غير مكتمل بسبب فقدانها للعضو الذكري. وهذا ما أدى بفرويد إلى وصف حياة المرأة الجنسية بـ”القارة المُعتِمة”، مشيرا إلى تعقيداتها ورغباتها وكل ما تتضمنه من تصرفات وهواجس ودوافع. فاعتبر كثيرون أن حياة الذكر الجنسية هي بسيطة وواضحة، وما يريده الرجال جنسيا ليس بالمعقّد كالنساء. وبالفعل تنجح الشاعرة بهدم نظرية ما يمكن تسميته بالاضطهاد الجنسي للمرأة، والإطاحة بالأيديولوجيات الذكورية نحو خلق خطاب أنثوي نسوي نابع من الغرائز الطبيعية للمرأة، وليس من مصادر اجتماعية ثقافية. فهي تريد أن تحب “كما أشتهي لا كما ينبغي” “ص 43”
وفي أكثر من قصيدة نجد أن الشاعرة دائمة البحث عن ذاتها، عن “الأنا” في داخلها. فتقول في قصيدة “حنين”:
عليّ أن أعثر
على أناي “ص 20”
وترجو أن تعود إلى “ظلي/وبعض من صباي”. وفي قصيدة “صدى” تذكر الشاعرة أنها لا تسمع:
سوى موجة متكسرة
على الرمل
تجتر زبدًا من أعماق الأنا “ص 25”
وفي قصائد أخرى تستجدي الشاعرة الرجوع إلى الماضي إلى صباها وطفولتها، فهي تصرخ متضرعة في قصيدة “براءة:
ردنّي طفلة …
ردنّي … ردنّي …
ردنّي إليّ … (ص 43).
فالشاعرة تريد أن ترجع طفلة وأن تحيا الماضي مرة أخرى، كي تشكل ذاتها من جديد، وكي “أعيد تشكيل السنابل في ضفيرتي/لأرسم قلبًا لم يشقه سهم طائش/لقصة حب بلهاء” (ص 43). هي تريد أن تحب وتشتهي على هواها؛ لأن جسدها ملك لها، تريد أن تعشق “كما أشتهي وليس كما ينبغي” “ص 43”
نستنتج مما سبق أن الشاعرة كي تكتشف ذاتها تحاول أولا الغوص في “أعماق الأنا” لديها أي في عقلها الباطني، وثانيا أن تعود إلى طفولتها وهي المرحلة التي تتشكل فيها هوية الفرد الاجتماعية والجنسية. فهوية الفرد الاجتماعية والجنسية ليست فطرية أو متأصلة في الفرد منذ ولادته، بل أنها تتطور مع تفاعل الفرد مع أسرته وافراد مجتمعه والنظم الاجتماعية السائدة، التي يفرضها الأب والأم على أبنائهما وبناتهما. وفي كثير من الأحيان ينشأ تعارضا بين ما يريده الفرد أن يكون وما يشكل هويته الحقيقة وبين ما يكتسبه الفرد وما يشكل هويته الزائفة. يظهر هذا التضاد الثنائي بوضوح في قصيدة “آلهة” التي تتحدث فيها عن أمها وتصفها بالآلهة التي “تعيد الأشياء إلى قداستها” (ص 31). لكن في نفس الوقت هي الأمّ التي تزرع في عقل ابنتها ونفسيتها “الموروث” الاجتماعي الزائف، الذي ترفضه الشاعرة وتقرر حمل صليبها على كتفها وتحدّي ما هو قائم. سوف تنزف لكن ستبقى قامتها مرفوعة نحو السماء بكبرياء وشموخ: “سأحمل الصليب على ظهري وأسير نازفة الخطا/لكنّ قامتي تُعانق السماء” “ص 31”
تحب الشاعرة أمها كثيرا وهي تهدي ديوانها الشعري إلى روح أمّها البهية، وتصفها بأنها “كانت الأمان لروحي” (ص32). وكما يقول فرويد الحب الأول الذي يختبره الفرد هو حب الأم. لكن في القسم الثاني من الكتاب بعنوان “ادخل دهاليزك المعتمة لترى النور” نجد أن الشاعرة قد انتقلت من حب أمها الأوليّ إلى حب الرجل إذ لم تعد بحاجة إلى حنان الأم كما كان الوضع عليه عندما كانت صغيرة تضع رأسها على حجر أمها، وتقرأ لها التعاويذ والتراتيل، بل أصبحت بعد أن كبرت وأحسّت بذاتها بحاجة إلى نوع آخر من الحب: حب يروي عطش الجسد. وعلى الرغم من اكتمالها إلا أنها تدعو الرجل لتقاسم هذا النعيم الذي يمنحه جسدها في قصيدة “اكتمال”:
إنني امرأة
كل كامل متكامل
مني وبي فيّ
وأنت الند
الذي تقاسم
هذا النعيم لو دريت “ص49”
لكن كما يقول الأستاذ رائد محمد الحواري في تعليقه على ديوان الشعر ترفض الشاعرة فكرة الهرولة وراء الرجل، “وتدعو إلى اغتنام الفرصة التي أتيحت، فلا مجال لتكرارها في المستقبل، فهي تأتي مرة واحدة، إن اغتنمها كانت له، وإن تركها كانت عليه”. فالشاعرة ليست مثل زوجة فوطيفار التي تحاول إغراء يوسف بل هي امرأة متمردة لها الحق أن تقبل أو ترفض:
ما أنا بامرأة العزيز
ولا أنت بيوسف
وما إغواء حرفي
قدّ قميص كلماتك
فإن استبقت الباب فهو مشرّع
لكن لا ترجو إيابا لقلب
أوصدتُه بوجه الريح
كي لا تثرثر
بابتهالاتك
أغلقتُ سمعي
والجوارح كلها
ولست راغبة
بوصل قطعته بانهزامك “ص 37-38”
من ناحية أخرى، تعبر الشاعرة عن رغبتها الالتصاق بالرجل، لكن دون سطوته عليها، ودون الاستسلام له، فنراها تنشد في قصيدة “معك”:
لي فلسفتي .. ولي نسكي
ولي كل المحظور من لغتي
ولي أنت “ص 74”
وتضيف في نهاية القصيدة:
لي أنت وكل ما في العيش
من رغد أنت صانعه
رعاك الله يا كل أمنيتي “ص 76”
كما أنها تدعو إلى صياغة علاقة جديدة مع الرجل، وتدعوه إلى فتح صفحة جديدة في علاقته مع المرأة، والبحث عن “وعد جديد”. فالمرأة لا تعيش من أجل الرجل، بل تعيش معه، وهذا ما يحدد أو يشكل صلب العلاقة بينهما وطبيعتها. تقول الشاعرة في قصيدة “مرايا” معبرّة عن الوحدة الناتجة من مثل هذه العلاقة:
انفض عن كاهلك اليأس
وابحث عن وعد جديد
أصرخ فيك، عليك، ومنك
…
أكتب أنك أحببتني حتى ثملت من كأس غوايتي “ص 73”.