في تفنيد الأساطير الأموية.. عام الجماعة (4)

د. خضر محجز | فلسطين

معلوم أن الكثيرين يسمون العام الذي تنازل فيه الحسن ــ عليه السلام ــ عن الخلافة لمعاوية بعام الجماعة!. ألا وإن لهذه التسمية الكاذبة دلالات مضمرة عدة، أهمها أن الأعوام السابقة، من خلافة علي والحسن ــ عليهما السلام ــ كانت أعوام فرقة. مع أن الجميع مقرون بأن بيعة علي كانت حقاً، وأن بيعة الحسن كانت حقاً، ثم يختلفون في بيعة معاوية.

وهكذا يتقرر، لدى مؤرخي السلطة، أن انتصار بغي معاوية على حق آل البيت، كان مثار إعجاب لدى هؤلاء، الذين سرعان ما سيتناسون أن معاوية قد خالف الشروط التي بموجبها تنازل له الحسن عن الخلافة، وهي:

1ــ الكف عن سب علي”(1).
2ــ وأن تكون الخلافة للحسن، إن مات معاوية(2) ــ
3ــ أن لا يلاحق معاويةُ أنصارَ علي وآل البيت(3).
4ــ أن يحكم معاوية بسيرة الخلفاء الراشدين من قبله.

أما الشروط الثلاثة الأولى فقد أجمع مؤرخو أهل السنة على أنها كانت، ثم لا تتحدث مصادرهم عن الشرط الرابع.
أما مؤرخو الشيعة، فيوردون هذا الشرط ضمن شروط الحسن على معاوية قبل أن يتنازل له عن السلطة.
والحق أن معاوية لم يف بشرط واحد من هذه الشروط:

1ـ فعن نقض معاوية للشرط الأول نقول:
إن صحيح الحديث يؤكد بأن شتم علي ــ عليه السلام ــ قد استمر على منابر الأمويين طوال عهد معاوية ومن بعده، حتى أبطله عمر بن عبد العزيز رحمه الله. فقد روى مسلم في الصحيح قال: “أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن أسبه ــ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ــ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله! خلَفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي؟. وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه. قال: فتطاولنا لها. فقال: ادعوا لي علياً. فأُتي به أرمد، فبصق في عينه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم)(4)، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم! هؤلاء أهلي”(5).

2ـ وعن نقض معاوية للشرط الثاني نقول:
إنه لمن الثابت لدينا بأن الحسن بن علي عليه السلام مات مسموماً. ومن الثابت كذلك ان من سقاه السم كانت زوجته جعدة بنت الأشعث. كما اننا نعرف أن الحسن كان محبوب النساء(6)، حسن العشرة، مما يستبعد أن تكون زوجته قد قتلته كراهية له. من هنا لا يتبقى لدينا سوى أن هناك من أغرى جعدة بقتل زوجها. ولا يمكن إغراء امرأة تحب زوجها بقتله، إلا إن كان المغنم المتوقع أكبر من زوج محبوب. لكن مؤرخي السلطة لا يعجبهم هذا الثابت، لأنه يشكك في احتمال أن يكون معاوية ــ حبيب المؤرخين ــ وراء ذلك. وذلكم هو النص، منقولاً من أصح كتب الجرح والتعديل، التي يفخر بها المحدثون:
قال الإمام الذهبي في وفاة الإمام الحسن بن علي عليه السلام ما نصه: “أبو عوانة عن مغيرة عن أم موسى، أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم”(7).
وقال في موضع آخر يتمم القصة: “فجاء الحسين ــ عليه السلام ــ فقال: أي أُخيّ، أنبئني من سقاك؟ قال: لم؟ لتقتله؟ قال: نعم. قال: ما أنا محدثك شيئاً، إن يكن صاحبي الذي أظن، فالله أشد نقمة؛ وإلا، فوالله لا يُقتل بي بريء”(8).
ولا أعرف لم يشكك بعض مؤرخي السلطة في حقيقة أن الحسن بن علي قد اغتيل بالسم من قبل زوجته جعدة! ربما لكي لا يضطروا إلى الاعتراف بأن جعدة كانت مدفوعة بهذا من معاوية.
إن تلميذا بسيطاً في علم الجرح والتعديل، ليمكنه أن يرى أن رجال هذا السند جميعهم ثقات. فلا مجال هنا للطعن في صحة الرواية. وها هو تحقيق الإسناد:
أبو عوانة: هو الحافظ الوضاح بن عبد الله: وثقه الذهبي وذكر أنه يروي عن مغيرة بن مقسم.
مغيرة: هو ابن مقسم: وثقه الذهبي وقال إنه يروي عن أم موسى سرية علي رضي الله عنه.
أم موسى: هي (حبيبة) ويقال (فاختة) سرية علي بن أبي طالب أخرج لها أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في الأدب المفرد. وثقها العجلي والدارقطني.
إذن فلا جدال في صحة هذا السند. ولا جدال في صحة الحادثة، مما يدعنا نستنتج بأنه لا جدال من ثم بأن هناك من أغرى جعدة بدس السم للحسن عليه السلام.
أما أنا فلا أعرف أحداً له مصلحة في ذلك، أكثر من معاوية، حين رغب في تولية يزيد. فكان لا يمكن له ذلك، لأن من شروط المصالحة بينهما، أن يكون الحسنُ الخليفة من بعده، إذا مات في حياته. وأما المؤرخون فلا يحبون مني أن أقول هذا، لا لشيء إلا لأن معاوية صحابي، ولا يليق بصحابي أن يدس السم لسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3ـ وعن نقض معاوية للشرط الثالث، فيكفي أن ننقل خبر إعدام معاوية للصحابي الموالي لآل البيت (حجر بن عدي). قال ابن كثير في البداية والنهاية، ما نصه:
“ويُذكر أن حجراً لما أرادوا قتله قال: دعوني حتى أتوضأ. فقالوا: توضأ. فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين. فصلاهما وخفّف فيهما. ثم قال: لولا أن يقولوا ما بي جزع من الموت، لطوّلتهما. ثم قال: قد تقدم لهما صلوات كثيرة. ثم قدموه للقتل، وقد حُفرت قبورهم، ونُشرت أكفانهم. فلما تقدم إليه السياف، ارتعدت فرائصه. فقيل له: إنك قلتَ: لستُ بجازع!. فقال: وما لي لا أجزع، وأنا أرى قبراً محفوراً وكفناً منشوراً وسيفاً مشهوراً!. فأرسلها مثلاً. ثم تقدم إليه السياف، وهو أبو شريف البدوي. وقيل: تقدم إليه رجل أعور. فقال له: أمدد عنقك. فقال: لا أعين على قتل نفسي. فضربه فقتله. وكان قد أوصى أن يُدفن في قيوده. ففُعل به ذلك. وقيل: بل صلوا عليه وغسّلوه. ورُوي أن الحسن بن علي عليه السلام قال: أصلوا عليه ودفنوه في قيوده؟. قالوا: نعم. قال: حجّهم والله. والظاهر أن الحسين عليه السلام قائل هذا: فإن حجراً قتل في سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ثلاث وخمسين. وعلى كل تقدير فالحسن قد مات قبله والله أعلم”(9).
ورغم شك ابن كثير في كون عدي قتل في زمن الحسن، فالنتيجة واحدة: لقد لاحق معاوية أنصار البيت خلافاً للشرط. فلا شك ان الشرط لا يسقط بموت المشترط. كيف والمشترطون هم حزب كبير ما زال كبيره (الحسين) حيا، ولم يخرج بعد، لكي يحتج معاوية بنقضه من قبل الحسين.
والروايات في ملاحقة الأمويين لأنصار آل البيت كثيرة مشهورة، وإن كان ما قدمناه كافياً.

4ـ اما عن نقض معاوية للشرط الرابع، القاضي بأن يحكم بسيرة الخلفاء الراشدين من قبله، فلا يحتاج إلى تدليل، خصوصاً مع هذا التوريث القيصري للخلافة.

فأي جماعة هذه يحتجون بها، سوى جماعة القهر والخضوع!
ــــــــــــــ
الإحالات:
1ـ انظر: ابن الأثير. الكامل. ج3. ص272. والبداية والنهاية. ج8. ص14. وسير أعلام النبلاء. ج3. ص264
2ـ انظر: الإصابة. ج2. ص145،246. وأسد الغابة. ج2. ص18. وسير أعلام النبلاء. ج3. ص264، ص278. بل إن ابن عبد البر قد نقل الإجماع على ذلك. انظر: الاستيعاب. ج1. ص232
3ـ انظر: أسد الغابة. ج2. ص18. والاستيعاب. ج1. ص230
4ـ آل عمران. آية61
5ـ صحيح مسلم. ج2. حديث رقم20404. ص1129
6ـ الحافظ الذهبي. سير أعلام النبلاء. ج3. ص253، ص262
7ـ الحافظ الذهبي. سير أعلام النبلاء. ج3. ص274 ــ 275
8ـ الحافظ الذهبي. سير أعلام النبلاء. ج3. ص273
9ـ ابن كثير. البداية والنهاية. ج8. ص52 ــ 53

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى