فاطمة، أو بَرَدةْ، أول الآلهة

خالد جمعة | فلسطين

انظروا إلى ساعدها المتأقلم مع القوس، وثبات قدميها على أرض الغابةِ، إنها إلهة القمح والصيد الكنعانية التي نسيها التاريخ خلف شجرة صفصاف عملاقة.

///

هذا عقدها الذي صنعَته من أسنان وحش برّيٍّ كان يرعبُ صغار الطيور في الأعشاش العالية، ويتنمّر على صغار الحيوانات على الأرض، جعلته عبرة في حكاية، وبذلك صارت ملكة الغابة قبل أن تلم السحاب في جيوبها، والرياح في أكياس على ظهرها، لتكون احتمال إلهةٍ، حدث ذلك وهي ما تزال فتاة تلعب رفيقاتها بعرائس الخيش.

///

اسمها “فاطمة، أو بَرَدةْ” ـ واحدة البَرَدْ الذي يسبق الثلج ـ وقيل لها أسماء بعدد الأشجار التي مرت بها، وعدد الكهوف التي نامت فيها، بل وعدد الرمال التي خطت عليها، وكل من سمّاها خلُدَ إلى الأبد، أما هي، فما زالت تركض في الغابات إلى اليوم.

///

تبارك العشبَ في أزمنة الجفاف فينطلقُ خلافاً لرغبة الطبيعة، تنتشلُ الغرقى من كوابيسهم، وتمضي وكأنها لم تفعل شيئاً، حين بكت ذات يومٍ على صغير ذئبٍ تركته أمه، صار هذا الطقس ضباباً، وكل ضبابٍ هو بكاء إلهةٍ على ذئبٍ فقد أمه، ويقال أنه البكاء على أي فقدٍ بالمطلق، وهذه الرواية لم يؤكدها أحد.

///

هذه الكهوف التي تلجأ إليها الكائناتُ هي آثار أقدامها في صخور الجبل، اختلفت مع مجمّع الآلهة الكبير في كنعان الخفية، والذي قيل إنه في شمال الجليل، وقيل في غياهب النقب، لكن الكثيرين قالوا إنه تحت البحر الميّت، حيث لا يمكن لأحد أن يبقى حياً سوى الآلهة، وخلافها ذاك، كان من أجل خلود الطيبين من الإنسِ، لكن مجمع الآلهة كله وقف ضدها، فاضطرت لاختراع اللغة كي يخلد الطيبون حتى بعد أن يموتوا، فخذلتها البشرية حين استعمل لغتها جميع الأحياء، من طيبين وشريرين، ولم يستطع أحد إلى اليوم أن يحكم على صحة أو بطلان جملة مما كتب في التاريخ لهذا السبب بالذات.

///

ما تزال “فاطمة، أو بَرَدةْ” هنا، هي تلك التي ترون كحل عينيها في الليل، وتثاؤبها في الريح، وابتسامتها في قوس قزح، وغضبها في العواصف، ورضاها في نضوج الثمر، قوسُها لم تغيره الحضارة، قوسٌ صنَعَتهُ لتدافع عن توازن الوجود لا لتصطاد به المجد، ما تزال قدماها حافيتين، وعباراتها تأتي في الأحلام ويظنّها الناس من إبداعاتهم، وتسري في عروقها البلاد، وتسري هي في عروق البلاد، وكلّ ميّتٍ في الهامش، يكون قد حاول أن يفصل البلاد عنها، أو يفصلها عن البلاد، والغريب أنه بعد أن يموت، تمحوه من ذاكرة العالم…

///

“فاطمة، أو بَرَدةْ”، خالقة العالم القديم، ومدوزنة العالم الذي سيأتي، قيل كنعانيةٌ، وقيل بل أول اللغة وأول الحضارة وأول الأغاني وأول الأنهار وأول الآلهة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى