عين.. قصة قصيرة

الدكتور سامي الكيلاني | فلسطين

 

أغلق الكتاب بعد أن وضع علامة الوصول في المكان الذي وصله، فكّر هل تعبير علامة الوصول يمكن أن يصبح دارج الاستعمال مثل (بوك مارك)، أم أن الكلمة والتعبير والدلالة ملك للثقافة التي تنتجه. أوقف نفسه عن التفكير بالأمر، وتذكر هذه “البوك مارك” التي تحمل رسماً بالألوان المائية لزهرة شقائق النعمان متفتحة، هذه العلامة دون غيرها يستعملها مع الكتب الأدبية ويحملها معه أنّى ذهب لتنتقل من الكتاب الذي ينهي قراءته إلى الكتاب الذي سيبدأ بقراءته، تختلف عن العلامات الأخرى التي يصنعها من شريط ورق عادي ويضعها في المراجع التي يستعملها للأبحاث والدراسات. قالت له الصبية التي تشرف على طاولة في معرض المنتوجات الفنية لاتحاد الجمعيات الخيرية “هذه الأعمال الفنية من بطاقات بريدية وغيرها صنعتها سيدة من بيت المسنين الذي تديره الجمعية، سيدة فنانة تشغل وقتها في هذه القطع الفنية ليعود ريعها للجمعية”، تناول بطاقتين وهذه العلامة ودفع تبرعاً للجمعية. قالت له الصبية “وهذه أعمال سيدة أخرى مختلفة، انظر هذه القطعة من الخرز، إنها من الخرز الأزرق لرد عين الحسود”، ضحك ورد عليها “ليس عندي ما أحسد عليه”، وأضاف ممازحاً “أكيد أنت من يلزمه مثلها”، ضحكت وشكرته على هذه المجاملة.

قرّر “الآن وقت المشي”، فليترك كل شيء على ما هو عليه في غرفته. نظر من الشباك، الجو جميل، والشارع هادئ. أغلق باب الشقة ونزل الدرج الخشبي ليخرج من باب العمارة الصغيرة وينعطف يساراً نحو الشارع الرئيسي ليبدأ مشواره الذي يبدأ من تقاطع شارعه الفرعي مع الشارع الرئيسي. يبدأ المشوار صعوداً مع الشارع المتجه نحو الشمال ليخترق المتنزه الكبير الذي يحتضنه الجبل. عادته التي يمارسها كلما تركته الواجبات من قبضتها المحكمة. جهاز الهاتف المحمول الذي ابتاعه من السوق الحرة في المطار في سفرته الأخيرة ولم يستعمله حتى الآن كهاتف متنقل لارتفاع رسوم الاشتراك وتعرفة المكالمات، ولعدم الرغبة في أن يصبح في متناول يد الجميع في أية لحظة، ولكنه رغم ذلك صار رفيقاً جيداً له، يعمل كجهاز راديو إف إم. يضع السماعتين ويمشي صعوداً حتى يستوي الشارع عند التقاطع الكبير ليعود هابطاً من الجهة الأخرى. محطات الاستراحة في المسير معروفة ويكاد لا يغيّرها، قد يغير قليلاً في مكان الجلوس. في دورة الصعود يختار مكان استراحته على المقاعد الموجودة في بداية “البارك” مقابل النصب التذكاري، أو على المقاعد في الطرف الآخر عند الشارع العرضي الذي يسلكه في طريق العودة. وفي دورة الهبوط للعودة من الشارع الموازي تكون الاستراحة إما في الحديقة الصغيرة مقابل مطعم الدجاج المشوي البرتغالي الذي يعتبر دجاجه الأفضل مقارنة بالمطاعم الشبيهة ويرتاده بين فترة وأخرى، أو يستريح في الميدان الصغير الموجود في نهاية الشارع المبلط المليء بالمطاعم والمقاهي.

وضع سماعتي الأذن وبحث عن محطة، شدته موسيقى شرقية، اختار المحطة وانطلق، توقفت الموسيقى وقالت المذيعة أنها ستعود لمتابعة اللقاء مع ضيفة البرنامج، ناشطة حقوق إنسان عائدة من أفغانستان، تتحدث عن الرعاية الصحية للنساء والعادات والمجتمع والتراث، ونشاط منظمتها النسائية غير الحكومية التي عملت على مساعدة النساء. تحدثت الضيفة بشغف حقيقي عمّا رأته وما سمعته، عن نساء عملن في التعليم السري للفتيات، وعن دور المنظمة في تقديم الرعاية الصحية وتدريب النساء، وتحدثت عن العادات، ثم كان فاصل من الموسيقى الشرقية مرة أخرى. تذكر التراث وأحاديث النساء في طفولته والعادات، خاصة العجائز في مجتمعه عن العين التي ترمي الخيّال عن ظهر الفرس.

كان قد وصل بداية “البارك” فقرر أن يستريح هناك، بالقرب من الملاعب الصغيرة، كانت الملاعب تعج بالأصوات، ألعاب مختلفة، أعجبه ملعب كرة طائرة الشاطئ حيث المساحة الرملية التي جهزت لهذه اللعبة، ووجود مدرج حديدي صغير مقاعده من الخشب وشبه خالٍ لأن المشجعين كانوا وقوفاً عند طرف الملعب ومندمجين في التشجيع والهتاف العالي، جلس على الصف العلوي من المدرج الذي كان خالياً تماماً، حيث يمكن من عليه مراقبة اللعب. شدته المباراة ومهارات اللاعبين وأصوات المشجعين الحماسية.

انحاز إلى الفريق الذي يلعب من الجهة الشرقية، ربما بتأثير هذه الصبية ذات القد الرياضي الممشوق والبسمة الآسرة وضرباتها الماهرة، وانغمس في المتابعة، حتى أنه هتف عالياً لضربة سددتها الصبية، ووجد المشجعين الآخرين ينظرون إليه، ابتسم لهم وحياهم بيده، شرد ذهنه قليلاً، ربما يتساءلون من يكون؟ ولماذا هذا الحماس؟ ثم غاب عن متابعة اللعب واللاعبين. استيقظ من شروده على صرخة من اللاعبة التي انحاز لفريقها من أجلها، كانت نصف جالسة على الأرض، تستند على مرفق واحد وتمسك بيدها الأخرى قدمها وتصيح ألماً.

شعر معها، وتألم من أجلها، اقترب من المجموعة، كانت أصوات التضامن معها تختلط باقتراحات ما بين الانتظار قليلاً وتبين ما حصل أو الاتصال بالإسعاف حالاً، حاول التقدم أكثر للاطمئنان والاستفسار، لكن صوتاً في داخله أوقفه، كان صوتاً يلومه “الحق عليك، هل قلت ما شاء الله وأنت تتأملها وتتأمل لعبها، هل صليت على النبي؟”، كان الصوت صوت جارتهم التي كانت مختصة بمحاربة العين في القرية. ابتعد عندما أيقن أن وجوده لن يقدم أو يؤخر في مساعدتها. اتجه ليكمل مشواره مطرقاً حزيناً من أجلها، ولكنه فطن للدفاع عن نفسه، أجاب الصوت الذي لامه “الحق عليها، كان لازم تحط خرزة زرقا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى