اتحاد دول بلاد الشام

توفيق شومان | مفكر لبناني

لنعد قليلا إلى الوراء، ونقلب صفحات الجدل والنقاش حول : من نحن؟ وماذا نريد؟ وهو سؤال بدأ يشق طريقه إلى بلاد الشام أولا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يستقر على إجابة قاطعة، ولا شك أن عدم قطعية الإجابة أنتجت لاحقا اقتتالات واحترابات وألف طوفان وطوفان، واحد منها يغرقنا الآن، وعلى أية حال ، فإن أوراق البدايات تقول:
ـ1: عن دراية أو عن غير دراية ، فإن حملة محمد علي باشا على بلاد الشام عام 1831، أسست لمشاعر قومية تجمع المصريين والشوام تحت مظلة سلطة مصرية ، لعلها كانت الأولى في التاريخ الحديث ، ولا أدري إذا كانت استلهاما لمساعي الدولة الفاطمية السابقة على سلطة محمد علي بخمسة قرون ، أو محاكاة لمساعي الفراعنة الدؤوبة لتوحيد مصر وبلاد الشام ، أو هو منطق الجغرافيا والمصير ، ولكن الذي جرى بعد حملة محمدعلي وإبنه إبراهيم ، أن شعورا قوميا لاح في أفق العواطف ، وهو القائل ـ أي ابراهيم باشا ـ : ” لقد جئت مصر صبيا ، فلونتني شمسها وصيرتني عربيا “.

وأما بعد حملة محمدعلي باشا فأوراق الماضي تقول :
ـ2: ناصيف اليازجي وبطرس البستاني يؤسسان جمعية ” الآداب والعلوم ” في عام 1847.

ـ3 : الجمعية العلمية السورية ” في عام 1857، وضمت إلى جانب اليازجي والبستاني ، حسين بيهم ومحمد أرسلان وعشرات غيرهم.

ـ4: إبراهيم اليازجي يطلق قصيته الشهيرة و يقول فيها :
فيا لقومي وما قومي إلا عرب ـ ولن يضيع فيهم ذلك النسبُ
سنطلبن بحد السيف مأربنا ـ ولن يخيب لنا في جنبه الأربُ.
هذا الشعور القومي المتنامي ، بقيت دائرته غير مكتملة ، ولو تتبعنا مسالك التفكير آنذاك سنقع على المعطيات التالية :
ـ أ : جمعية ” بيروت السرية ” التي أسهم في إطلاقها فارس نمر باشا ، وأصدر من القاهرة مجلتي ” المقطم ” و المقتطف” ، طالبت بتمام الإستقلال السوري وإتحاده مع جبل لبنان.

ـ ب: جمعية ” حقوق الملة العربية “، التي ظهرت عام 1881 ، رفعت شعار وحدة المسلمين والمسيحيين في بلاد الشام ، وإصلاح أحوالهم في إطار وحدة السلطنة العثمانية.

ـ ج : جمعية ” الإخاء العربي ـ العثماني “، المنطلقة في عام 1908، يحتوي إسمها على مدلولها السياسي ، إذ ” هي رابطة قومية مخلصة للدولة العثمانية ” على ما يقول محمد حرب فرزات في كتابه القيم ” الحياة الحزبية في سوريا ” الصادر في دمشق في عام 1955، وتطالب “بتحسين أوضاع المقاطعات العربية على أساس المساواة الحقيقية مع الأجناس الأخرى في الدولة ” مثلما أورد جورج انطونيوس أحد أهم الذين أرخوا لنشوء القومية العربية في كتابه ” يقظة العرب ” الصادر في عام 1939.

ـ د: “الجمعية القحطانية ” المتشكلة عام 1909، دعت إلى تحويل السلطنة العثمانية إلى مملكة من تاجين ، تاج عثماني وتاج عربي ، على غرار الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية التي انهارت إثر الحرب العالمية الأولى.

ـ هـ: وفي العام نفسه ، تشكل ” المنتدى الأدبي ” برئاسة وجه ثقافي مرموق من جنوب لبنان ، هو عبد الكريم الخليل ، الذي أعدمه القائد التركي جمال باشا ، مع مجموعة من أبرز مثقفي بلاد الشام .

و: وظهرت ،جمعية ” اللامركزية الإدارية العثمانية ” في عام 1911 في القاهرة ومن أبرز قادتها محمد رشيد رضا ، ” منطلقة من كون المنضوين فيها مواطنين عثمانيين يطالبون بالنظام اللامركزي في إطار السلطنة الموحدة.

ـ ز : وطالبت ” لجنة الإصلاح ” بالحكم الذاتي لبلاد الشام والعراق ، في عام 1913.

ـ ح: وإلى تلك الجمعيات ، ظهرت ” العربية الفتاة ” ، في باريس ، وهي الأكثر تقدما في مسعاها نحو ما أسمته ” الإستقلال العربي التام عن السيطرة التركية أو أي سيطرة أجنبية أخرى ” ، مع عدم إغفال المؤتمر العربي الأول المنعقد في العاصمة الفرنسية باريس عام 1913.

هذه الأطر والتيارات ، المتعددة والمختلفة حول : من نحن ؟ وماذا نريد؟ ، انعكست آثارها على مفكري وسياسي المرحلة اللاحقة ، فتوارثوا تبايناتها واختلافتها ، ولعل مراجعة أفكار تلك المرحلة تُغني عن الكثير من الإطالة والإسهاب :
ـ 1: نجيب عازوري ، دعا في ” يقظة الأمة العربية ” الصادر في عام 1905، إلى إقامة دولة عربية من اليمن حتى سواحل السويس ، مستثنيا مصر من تلك الدعوة ، إلا أن عازوري أعاد النظر لاحقا ، بالدولة العربية المنفصلة عن السلطنة العثمانية ، ليستقر به المطاف إلى المطالبة بنظام اللامركزية.

ـ 2: قسطنطين زريق ، كان دائم الحديث عن ” البلاد العربية ” وأما الأمة فهي قيد التحقق” ، منذ صدور كتابه الأول ” الوعي القومي ” عام 1939.

ـ 3: رئيف خوري ، يرد على قسطنطين زريق في كتاب ” معالم الوعي القومي ” عام 1941، ويسأل من العربي ؟ ويجيب قائلا: ” هو الذي ينزل قطرا من الأقطار التي يتألف منها الشرق العربي والإتحاد العربي”.

ـ 4: علي ناصر الدين : في كتابه ” قضية العرب ” يطالب بدولة إتحادية واحدة تستند إلى القومية والجنسية الخالصة ويكرر مرات عدة على ضرورة استكمال بناء الوعي القومي.

ـ 5: ساطع الحصري ، المصنف بأكثر المفكرين فلسفة وتنظيرا للقومية العربية ، يتحدث في كتابه ” العروبة أولا ” عن شرط استيقاظ الشعور القومي لتحقيق الوحدةالعربية ( شرط الإستيقاظ ) ” وإذا استمرت ضآلة هذه الشعور ، فستتوقف الجهود وتنهار العزائم “، وفي كتابه “دفاع عن العروبة ” ، يتحدث عمن لا يؤمنون بالقومية العربية ولا يريدونها، ويحاربونها ويرمونها بالسخف .

ـ6: المفكر أنطون سعادة يرفع لواء الهلال الخصيب .

ـ7: زكي الأرسوزي المفكر القومي العربي ، يلتقي مع سعادة في ” مشروع الهلال الخصيب ” دعا فيه إلى ” إقامة دولة مستقلة من سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين ، أي إقامة الهلال الخصيب ، مع السماح لهذه الدولة بأن تعقد معاهدة دفاع مشترك مع الدول العربية المستقلة آنذاك.

ـ8: الشيوعيون تكيفوا مبكرا مع الأقطارالوطنية الناشئة بين الحربين الأولى والثانية .

ها نحن ، تقريبا ، أمام النصف الأول كله من القرن العشرين ، مختلفون حول الأمة ، وما هي ؟ تائهون ومرتبكون ، وهل نريد وحدة أو اتحادا ؟ وهل يوجد عالم عربي واحد أو عوالم عربية ؟, وبالطبع كل ذلك ، لا يُغفل التمعن بالتجربة العربية الأولى للشريف الحسين بن علي ، حيال إقامة مملكة عربية في المشرق العربي وإستطرادا تقلصها إلى المملكة السورية العربية مع إبنه الملك فيصل.
بطبيعة الحال ، جاء حزب البعث ، وحركة القوميين العرب ، وبعد ذلك الرئيس جمال عبدالناصر ، ليجيبوا على سؤال الجغرافيا الواحدة والهوية أيضا، لكن الكيانات الوطنية كانت سبقتهم إلى الرسوخ ، فوقعوا أمام هذه الإشكاليات :
الوطن أولا أم الأمة ؟ السلطة أولا أم الدولة ؟ الأمة أولا أم الدولة ؟ الدولة أولا أم الأمة ؟ .
إذا ، نحن استغرقنا في سؤال الهوية القومية حوالي قرن من الزمان ،إذا اعتبرنا، البدايات الأولى متمثلة بجمعية ” الآداب والعلوم ” التي شكلها اللبنانيان ناصيف اليازجي وبطرس البستاني في عام 1847، وصولا إلى الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1956، ومن دون استثناء جهود حزب البعث في ذلك ، ولا حركة القوميين العرب ، ولن تختلف مسافة القرن عن جمعية ” الآداب والعلوم ” ونشأة البعث والقوميين العرب .
والسؤال هنا : هل ترتبط اختلالاتنا الراهنة ، وكوارثنا الحالية ، بعدم استيقاظ الشعور القومي بأشكاله وأنواعه وأجناسه كافة ، قومي عربي كان أو قومي سوري ، أم أن الإشكالية الأساس تكمن في عدم قدرتنا على الإجابة على مفهوم الدولة الحديثة ؟
من ضرورات النقاش والحوار حول هذه الإشكاليات ، عدم إسقاط الإجابات الجاهزة والخروج أيضا من نمطية الإجابات ، ففي حين لم تتحقق الوحدة الإندماجية طوال العقود السبعة الماضية ، ولا يلوح في الأفق احتمال تحققها ، فلماذا لا يتم النقاش حول عتبة اتحاد أولى تجمع بين دولتي لبنان وسوريا أولا ، ومن ثم العراق ثانيا، وفي حقبة ثالثة قد يكون الأردن من مكونات هذا الإتحاد إذا رأى مصلحته فيه ، وقد تكون ايران وتركيا مكملتين لفضاء أوسع يحفظ خصوصيات الجميع ولا تطغى هوية على أخرى ولا دولة على أخرى؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى