الشاعرة والإعلامية اللبنانية ماجدة داغر والكاتب السوداني زياد محمد مبارك (وجها لوجه)

الشاعرة ماجدة داغر تقول:

قصيدة النثر ثورة في الفضاء الشعري كان لها حضور حتى قبل شارل بودلير

الرواية لا تنافس الشعر وسطع نجمها ليس لتفوّقها بل لخفوت نجم الشعراء الكبار

أنسي الحاج عاصفة شعرية جاءت لتطيح بالمفاهيم المكرّسة في الذائقة العربية

الشعر يعد حجر الأساس في الحفاظ على الهوية والتقاليد الثقافية الشفهية

القصيدة تستطيع العبور خلف الحدود الحقيقية والافتراضية وتجعل الشاعر كونياً

الاستخفاف بالشعر كقيمة فنية جعل المكان يتسع لكثير من الطارئين والطفيليين

الأدعياء في مواقع التواصل الاجتماعي يشوّهون القيمة الحقيقية للإبداع

أعمل الآن على تظهير شعري في المواقع الإلكترونية المحترمة

لبرنامج “بيت الذاكرة” الثقافي على إذاعة الشرق من بيروت مكانة مميزة لدي

على القصيدة أن تكون على مستوى الحدث الجلل في مخزونها الشعوري والثقافي واللغوي

صناعة الشعراء أمر شائع في أيامنا كصناعة النجوم، ولكن بمعايير زائفة

ماجدة داغر شاعرة، إعلامية وباحثة لبنانية من مواليد بيروت.عملت في التحرير الثقافي وإدارة التحرير في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عدّة، منها: مجلة (الشؤون الاقتصادية)، ومجلّة (المسيرة)، وجريدة (إيلاف) الإلكترونية، ومجلة (عيون لبنان).ونشرت عشرات المقالات الأدبية والنقدية والسياسية في الصحافة اللبنانية والعربية مثل صحيفة (الحياة اللندنية)، وجريدة (النهار) اللبنانية العريقة، وجريدة (المدن) الإلكترونية.

تخرجت من برنامج (ستوديو الفن) اللبناني الشهير الذي خرّج معظم الإعلاميين والفنانين، ومارست بعدها العمل الإعلامي في محطات تلفزيونيّة، منها: (تلفزيون لبنان) الرسمي، و(قناة السياحة العربيةATC). إذاعياً، أعدّت وقدّمت برنامجاً أسبوعياً ثقافياً عبر إذاعة (صوت لبنان)، وأعدّت وأشرفت على برامج تربوية وأكاديمية في الإذاعة نفسها.وكان لها إطلالات عديدة على الشاشات والإذاعات وفي الصحف في مجالَي الشعر والأدب، وشاركت في ندوات تلفزيونية وإذاعية ثقافية وسياسية.

     تعمل حالياً في (إذاعة الشرق) في بيروت، ولديها برنامجان: برنامج (بيت الذاكرة) وهو برنامج ثقافي أسبوعي يستضيف كبار الأسماء في عالم الفكر والأدب والشعر والمسرح والفن التشكيلي والموسيقى وفي كل المجالات الثقافية، استضاف أبرز الوجوه في لبنان والعالم العربي منهم رائد قصيدة النثر العربية الشاعر اللبناني أنسي الحاج وكانت الإطلالة الأخيرة له قبل رحيله، والأديب اللبناني العالمي عضو الأكاديمية الفرنسية أمين معلوف، الروائي واسيني الأعرج، الروائية إميلي نصر الله، وغيرهم كثر.

     وبرنامج (الشرق اليوم) وهو برنامج يومي صباحي مباشر سياسي، ثقافي، يتضمن حوارات مع سياسيين ومثقفين وصحافيين من لبنان والعالم، بُثّ منه مئات الحلقات منذ ثماني سنوات حتى اليوم وواكب أهم الأحداث السياسية المحلية والعربية والعالمية.

     أصدرت ماجدة داغر عدة مؤلفات؛ كتاب (قصور ومتاحف من لبنان) عن دار الجنوب برس 2008، وهو مؤلَّف رائد في توثيق أحد ملامح لبنان العمرانيّة، من خلال تأريخٍ لحقبة من لبنان الأمراء والحكّام والبيوت السياسية العريقة، والثراء والطبقة الأرستقراطية (منذ القرن السادس عشر حتى التاسع عشر)، وهو مرجع عمراني تراثي سياحي تاريخي. وديوان (آية الحواسّ) عن دار المفيد 2009، من ضمن فاعليات بيروت عاصمة عالمية للكتاب. وكتاب (بيت الذاكرة والقامات العالية) عن دار الفارابي 2012، تناول أعلاماً وأدباء وشعراء لبنانيين وعرباً وعالميين، في محاولات نقدية تحليلية، سيرة حياة ونصوص إبداعية. حاز المرتبة الأولى كأعلى نسبة مبيع عن فئة الأدب في معرض بيروت العربي والدولي للكتاب في الإحصائيتين الأولى والثانية. وديوان (جوازاً تقديره هو) عن دار الفارابي 2015 الذي صدر عنه العديد من الدراسات والمقالات النقدية. وديوان (ملتئماً بالماء كَغَريق الطوفان) عن دار الفارابي 2020. وترجمت أشعارها إلى عدة لغات منها: الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية، الألمانية، السويدية، التركية، الأمازيغية، الفارسية، التاميلةوالماليبارية الهندية.

كما صدر عنها مؤخراً كتاب (فتنة الخطاب الشعري اللبناني المعاصر عند ماجدة داغر – مرايا نقدية) عن منشورات فرقة البحث في الإبداع النسائي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة عبد المالك السعدي تطوان المغرب. إعداد الشاعرة والباحثة المغربية فاطمة بوهراكةبمشاركة 15 ناقداً من ثماني دول عربية… وتضيق هذه المقدمة عن التعريف بمسيرتها الحافلة في الإعلام والثقافة والأدب، فإلى ثنايا الحوار الذي أتاحته بوافر كرم.

أستاذة ماجدة، ملأت جدلية قصيدة النثر صفحات النقاد وشغلت الشعراء، هل حُسمت جدلية النثرية مع انطواء الشعر لصالح السرد في عصر الرواية؟

أعتقد أن هذه الجدلية خفتَت ولم تُحسم. بمعنى أن النقاش النقدي الدائر حولها لم يعد بالحدّة نفسها كما كان في بداياتها في الستينات وفي العقود اللاحقة عند احتدام دورها على الساحة الشعرية، وتطوّرها وانتشارها الكبير بين شعراء الحداثة. وذلك أمر طبيعي عند اعتياد الذائقة الشعرية على نوع جديد من الشعر وهو أمر يحتاج إلى وقت لكي يتقبّله جمهور الشعر ويتمكّن منه الشاعر. خصوصاً أن الشعر العربي هو تحفة العرب الفنية والإعجاز الأدبي الذي يفتخرون به، وأقصد هنا بالطبع ديوان العرب أو الشعر الخليلي العمودي الكلاسيكي. لذا، ليس بالأمر السهل أن تقتحم الحداثة هذا الشكل الكامل للقصيدة لتفكّكها وتحرّرها من الأوزان والبحور والقوافي، وتصنع لها شكلاً جديداً لا شكل له، قياساًباكتمال الشكل الخليلي وبنائه الصلب والصعب. فلا كمال لقصيدة النثر لأنها ليست بناءات أدبية، بل فيض لا ينتهي من الحرية والتلقائية والمجاز، وفي الوقت نفسه هي صناعة الإبهار والإدهاش والتوهّج والإيجاز والمجانية.

أما ما جعل جدلية قصيدة النثر تمتد حتى يومنا، فهذا هو الأهم والأخطر إذا جاز التعبير. وأقصد بالأخطر أنّ غياب الثقافة والوعي بهذه القصيدة هما ما جعلاها تبقى عند البعض كدخيلة على الشعر، حتى عند شعراء لهم تاريخ ودواوين وثقافة، وذلك لسبب بديهي هو أن قصيدة النثر لها تاريخ عريق يمتد إلى منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا وتحديداً في فرنسا. هذه الثورة في الفضاء الشعري كان لها حضور حتى قبل شارل بودلير وذلك مع Aloysius Bertrand(1807-1841) وديوانه Le Gaspard de la nuit أو غاسبار الليل، أي أنه أب قصيدة النثر قبل أن تتطور لاحقاً وتتنوع مع كبارها: بودلير وملارميه ورمبو وإيلوار وبروتون وغيرهم في القرن العشرين.

هذا السرد التاريخي لآباء قصيدة النثر هو للقول إن عمر هذه القصيدة فاق ال 180 سنة، وبالتالي هي أصبحت من كلاسيكيات الشعر والأنواع الأدبية الراسخة، وبات النقاش بأصالتها وحضورها وأأأهميتهاأمر مستغرب ومستهجن لأنها كرّست نفسها قصيدة القصائد وعروسة الشعر الجميلة والمتمردة.

أما في ما يتعلق بالجزء الآخر من سؤالك حول انطواء الشعر لصالح السرد في عصر الرواية، فأنا أعتقد أن الشعر ليس صفحة باهتة لتُطوى. وبعكس الاعتقاد السائد فإن الرواية لا تنافس الشعر، بل ربما سطع نجمها أكثر من الشعر في السنوات الماضية، ليس لتفوّقها كجنس أدبي بل لخفوت نجم الشعراء الكبار الحقيقيين والأسماء الكبرى التي صنعت هالة للشعر لا تنطفئ. أما اليوم فنحن في زمن لا يُحصى فيه عدد الشعراء، ولا نستطيع أن نحصي سوى القليل من الشعر.

حدثينا عن رائد قصيدة النثر العربية أنسي لويس الحاج الذي قال عنه أدونيس: «إنه الأنقى بيننا»، وقد كان ضيفاً في برنامجكِ (بيت الذاكرة)في حوار أخير قبل رحيله.

الأنقى ربما هو التعبير الأقرب لهذه القامة الشعرية الثقافية الكبيرة. وقد كان لي الحظ الكبير أن أعاصر شاعراً مثل أنسي الحاج الذي ترك أثراً كبيراً في جيل بأكمله.

كانت لي معه مقابلة أخيرة قبل أن يرحل، وربما كانت من أجمل الحوارات التي أجريتها في مسيرتي الإعلامية. لن أتحدث عن شعره وأهميته وريادته في قصيدة النثر، لأننا لن نستطيع أن نقارب مجمل هذا المسار في هذه العجالة. وخصوصاً أنه من فتح الباب العريض لقصيدة النثر وفتح معه نوافذ كثيرة لا زلنا حتى اليوم نستنشق هواءها، ونحاول الاقتراب من فضاءاته المتعددة، وتفكيك مفرداته الجامحة وصوره المدهشة ولغته المتوحشة. هذه اللغة “المتوحشة” كما سُمّيت آنذاك هي من صنعت ريادة أنسي الحاج لأنها تضمّنت ثورته الشعرية واللغوية والحداثية القائمة على الحرية ولا شيء سوى الحرية. لذلك كانت جارفة ومدمّرة لكل ما كُرّس على أنه كلاسيك ولا يجوز المساس به. فإذا بشاعر “لن” و”الرأس المقطوع” يطيح كل المعايير السائدة للقصيدة، ويرسّخ نمطاً جديداً، حديثاً، يشبه العصر الذي ينتمي إليه ويشبه أبناء هذا العصر وخصوصاً الشعراء الشباب الذين يبحثون عن نمط تعبيري يقول أفكارهم وهواجسهم. فجاءت هذه العاصفة الشعرية المسمّاة أنسي الحاج، مع مجموعة شعراء الحداثة وخصوصاً شعراء مجلة “شعر”، لتطيح مفاهيم شعرية مكرّسة، وترسي مفاهيم أخرى جديدة على الذائقة الشعرية العربية، لاسيّما القصيدة العمودية، من دون أن يكون هدف هذه العاصفة مواجهة القصيدة الخليلية أو منافستها، إنما تقديم أخرى برؤية عصرية آتية من الغرب وخصوصاً أن معظم هؤلاء الرواد بالإضافة إلى أنسي هم من المثقفين الكبار المطّلعين بشكل واسع على الشعر الأوروبي.

وكان لهذه العاصفة أن هدأت عندما استقر مسارها وأثبتت أنها قادرة على تغيير الكثير في اللغة الشعرية المعهودة. وبدت ملامح هذا الهدوء تظهر في ديوانه “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”، كمن وجد ضالته وأيقن صوابية ما “اقترفته” يداه في القصيدة.

بالإضافة إلى المسار الشعري الممتع والغني لأنسي الحاج، لا يغيب عن بالنا مسار آخر صنع نجوميته أيضاً وتفوّقه الهائل، وهو مساره الصحافي وخصوصاً على منبر أعرق الصحف اللبنانية “النهار”، ما أعطاها نكهة مختلفة لوجود أنسي الحاج على رأسها. كما وجوده في منابر صحافية أخرى آخرها صحيفة “الأخبار” اللبنانية التي كتب فيها قمة نضجه الفكري لسنوات قبل أن يرحل حاجزاً له مقعداً شعرياً مع الخالدين.

أجبتِ عن سؤال طرحه الإعلامي زافين قيومجيانفي برنامج (سيرة وانفتحت) سألكِ فيه عن موت الشعر، دعينا نحصد إجابة أخرى على ضوء إحصائية رصدت المطبوعات الشعرية في مصر لعام ٢٠١٨ وأشارت إلى أنها تعادل ١٪ فقط من جملة المطبوعات. وهنا نسأل عن قضية موت الشعر من ناحية القارئ لا الشاعر؛ أو لنقل منسوب التلقّي بتعبير أدق. ربما لم يعد الشعر مناسباً لملامسة قضايا العصر كما كان في الآونة السابقة بينما تهيأت فنون كتابية أخرى لأغراض المرحلة.

حُكي كثيراً عن موت الشعر في السنوات الأخيرة، وكأن للشعر عمراً محدداً وينتهي. ولكن من الجيد أن نقارب هذه المسألة كما طرحتها أستاذ زياد مشكوراً أي من ناحية القارئ وليس الشاعر أو منسوب التلقّي. لأن الأمر يختلف في مطالعته بحيث أن رؤية الشاعر لعشقه الأبدي، أي الشعر، لا تقاس بمن يتلقّى القصيدة كنتاج فنّي إبداعي قابل للتشريح والنقد وحتى للتوقف عنده كمنتج من غير عالمه الحسّي. وهنا تكمن المفارقة، إذ ترتبط ذائقة المتلقّي بتحوّلات وتغيرات إنسانية واجتماعية وثقافية وحضارية. فيخضع المزاج الشعبي لجملة عوامل وعناصر تجعله يتنقّل بذائقته بحسب كثافة الحضور لهذا المتغيّر، أو لطارئ على حياته الثقافية بحسب ضرورات العصر. وهنا لا بد من الاعتراف بخفوت صوت الشعر في عصرٍ لم تستطع القصيدة الصمود أمام مغرياته وهي كثيرة ومتشعّبة.

العولمة جعلت الكون قريةً كونية، امّحت فيه الحدود وتغيرت الجغرافيا وفُرضت بالتالي منظومة حديثة لكل المفاهيم القديمة. هذه المفاهيم أعادت النظر بعمق ما كرّسته البشرية على مدى عصور حتى بالقيَم الإنسانية والعلاقات الفكرية والروحية بين البشر. فحدثت تبدلات جذرية لينتج عنها الإنسان المعولم أو النموذج الأولي أو Demonstrationلإنسان المستقبل الذي تتحكم به الشرائح الإلكترونية وكأنه آلة إنسانية تختزل تطوّراً تكنولوجياً هائلاً، يؤسس لعصر جديد مختلف لا مكان فيه لمخلفات الإنسان القديم. هذا الإنسان القديم هو ما نحن عليه اليوم، أي ما تبقى من القيم الإنسانية. الشعر هو في صلب هذه القيم التي بات حضورها ملتبساً، لذا التبس حضوره. ولكن ما يجعله يقترن بالحياة ويتجذر بها وما يبقيه على قيد الإبداع هوأثرهالكبير في تعزيز إنسانيتنا المشتركة لأننا نتشاطر التساؤلات والمشاعر نفسها. كما أثبت الشعر، الذي يعد حجر الأساس في الحفاظ على الهوية والتقاليد الثقافية الشفهية على مر العصور، قدرته الفائقة على التواصل الأكثر عمقاً للثقافات المتنوعة. فضلاً عن تفوقه كمنتج إبداعي أدبي فني تعبيري لا يضاهى باختراقه النفس الإنسانية، وهذه النفس هي في توق دائم  للارتقاء إلى فضاءات لا يستطيع الوصول إليها سوى الشعر الذي “يداوي الجراح التي يحدثها العقل” كما قال الفيلسوف الألماني نوفاليس.

نُشر مؤخراً كتاب نقدي عن مشروعكِ الشعري من جهة أكاديمية مرموقة، بعنوان (فتنة الخطاب الشعري اللبناني المعاصر)، وشمل دراسات ١٥ ناقداً وناقدة.. وضعية أشعارك كأنموذجهيمعبّرة عن الشعر اللبناني أم عن الشعر النسائي؟

قبل الإجابة على سؤالك، لا بد أن أشكر مجدداً كل القيمين على هذا الكتاب النوعي، جامعة المالك السعدي في تطوان المغرب في البداية ورئيسة فرقة البحث في الإبداع النسائي- كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتورة الشاعرة سعاد الناصر على احتضانهم للكتاب ولهذه التجربة. والشكر الكبير لمعدّة الكتاب الباحثة والشاعرة والرائدة في التوثيق الشعري الأستاذة فاطمة بوهراكة على مجهودها الكبير. والشكر بالطبع لكل النقّاد الشعراء والأكاديميين على هذا الغوص العميق في تجربتي الشعرية.

لم تقتصر الدراسات النقدية في الكتاب على تجربتي كأنموذج للشعر النسائي، بل للشعر اللبناني المعاصر كما يدل العنوان. رغم أنني ضد التصنيف الجندري في الكتابة الإبداعية، لأن الشعر هو أرحب من كل التصنيفات. ربما يكون الاختلاف في الأسلوب ليس إلا. وفي استطاعة القصيدة العبور إلى ما خلف الحدود الحقيقية وحتى الافتراضية، وذلك يعود إلى ثقافة الشاعر التي تجعله شاعراً كونياً غير مرتبط بمنطقة جغرافية أو مدرسة شعرية أو تصنيف.

كلمات الشاعرة والموثِّقة الشعرية المغربية فاطمة بوهراكة لافتة في مقدمة الكتاب: «تشرق على الساحة الشعرية العربية المعاصرة تجارب شعرية متفردة، وقامات شعرية سامقة، يتمردن على العبث الشعري، ويشققن ويعبدن طرقاً شعرية عميقة، وهو ما لمحته في تجربة الشاعرة ماجدة داغر»، أيمكن أن نلقي باللائمة على طوفان العبث الشعري الذي غمر الشعر الذي يستحق أن يُقرأ؟

هذا من كرم الأستاذة فاطمة ومن شيمها الثقافية والإبداعية. وهي أضاءت بمقدمتها المهمة على عدة ثغرات في عالم الشعر اليوم، والعبث الشعري هو أحدها. هذه الآفة تواجه الشعر كما هو حال معظم المجالات التي تتعرض لهجمة عبثية، بمعنى الاستخفاف بالشعر كقيمة فنية، وليس كاتجاه شعري يعتمد العبثية. ما جعل المكان يتسع لكثير من الطارئين والطفيليين الذين يحاولون تكريس أنفسهم كشعراء حداثيين، وهم بعيدون جداً عن الشعر والحداثة. في اعتقادي أنّ فرز الغث من الثمين سهل جداً في عالم الشعر، لذا طوفان العبث مهما كانت غزارته، يأتي يوم وينضب ماؤه، بالرغم من تأثيره في بعض الأحيان على نتاج شعراء يستحقون الاحتفاء بهم. ولكن نعود دوماً إلى السبب وهو نفسه يتكرر في عالمنا المعاصر الاستهلاكي القائم على الاستسهال وتسخير الإعلام لمثل هؤلاء.

في ذات المقدمة؛ نسبت الشاعرة فاطمة بوهراكة تدني المستويات الشعرية المطروحة في الساحة لمواقع التواصل الاجتماعي. وفي خضم دورة التلقِّي: الشاعر/ القصيدة/ المتلقِّي؛ هل تتفقين بخصوص تأثير التقنيات التواصلية الحديثة في هذه الدورة؟

     بالطبع دور مواقع التواصل الاجتماعي السلبي في هذا الإطار هو أساسي. وهنا نعود إلى جهل مجتمعاتنا، خصوصاً الثقافية، في مواكبة التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي الذي اصبح نواة المجتمعات الحديثة. نحن نسيء استخدام هذه المنصات، ونظن أنها فقط للترويج وبالتالي ندخل في العصر الاستهلاكي من باب عريض. نحن لا نستخدم هذه المنصات سوى للتسلية أو لإظهار العقد المخبوءة من دون وعي منا، لأن العالم الافتراضي يصبح خطيراً عند اجتياح الحمقى، كما يقول الأديب الإيطالي أمبرتو إيكو. وهذا الخطر طال الشعر كما غيره مثل الفنون والصحافة وكل المجالات الإبداعية. لا رادع ولا رقيب ولا ناقد في هذه المواقع. لذا كثر الشعراء والصحافيون والفنانون والمدونون، من دون أي إضافة نوعية بل على العكس هم يشوّهون القيمة الحقيقية للإبداع ويحجبون الضوء، ولو مرحلياً، عن الشعر الحقيقي. ربما بتنا نحتاج إلى شرطة رقمية وقوانين وأنظمة إلكترونية.

بالبحث في الشبكة لم يتوافر أمامنا الكثير من أشعاركِ، لماذا هي غير مبذولة في الشبكة لطلابها بخلاف أشعار كثيرة متاحة للتعريف بأصحابها؟

أعترف بالتقصير في هذا الإطار، ليس لسبب محدد إنما لكثرة المشاغل أهملت هذا الجانب المهم في النشر. خصوصاً أن الفضاء الإلكتروني هو الأوسع انتشاراً وسهولة في البحث. والأمر الآخر هو ما تحدثنا عنه في السؤال السابق أي العبث في الشعر والنشر على مواقع التواصل، وهذا ما جعلني أتريّث في هذا الموضوع كي لا يختلط الحابل بالنابل وتضيع الأعمال الجدية وتتساوى النتاجات بغير حق. ولكنني أعمل الآن على تظهير شعري في المواقع الإلكترونية المحترمة.

تعملين في إعداد وتقديم البرامج، من هذه التجربة الحافلة في مسيرتكِ الإعلامية أي برنامج ضمن برامجكِ حاز على الرضا التام منكِ؟

     العمل في الإعلام متطلب جداً، ويجعل ممن يمارسه أكثر تطلباً. لذلك من الصعب أن نحصل على الرضى التام عن عمل معين. إنما يبقى لبرنامج أفضلية على آخر ربما لما يرتبط به من ذكريات جميلة أثناء التحضير والعمل، أو بحسب الشخصيات التي تمت استضافتها. ولكن لبرنامج “بيت الذاكرة” الثقافي على إذاعة الشرق من بيروت مكانة مميزة لدي لأنني قابلت فيه أبرز الأسماء الأدبية والشعرية والمسرحية والموسيقية والسياسية ومن مجمل المجالات الإبداعية من لبنان والعالم العربي.

صدرت لكِ طبعة أولى لكتاب بحثي فيالعمران(قصور ومتاحف من لبنان) عن دار الجنوب برس، وعندما صدرت الطبعة الثانية لم تحمل اسمكِ (!) وهذا يدفعنا للسؤال عن ملابسات التنازل عن حقكِ الفكري.

من المستحيل أن أتنازل عن ملكيتي الفكرية وحقوقي الأدبية أياً تكن الأسباب، لأن الحق الفكري هو الأغلى عندي. ولكن ما حصل مع هذا الكتاب هو سرقة موصوفة للملكية الفكرية، وهذا كما تعلم يقاضي عليه القانون. تمّ حذف اسمي عن الطبعة الثانية للكتاب من دون أن أعلم وذلك للاستيلاء عليه من قبل الناشر وبالتالي الإيحاء أنه هو المؤلف. وعندما علمت بدأت بمتابعة الموضوع قانونياً ولكن لظروف خاصة توقفت مرحلياً، من دون أن يعني ذلك أنني صرفت النظر عن ملاحقته قانونياً.

أين موقع الحقوق الفكرية في عصر المعلوماتية الذي شاء للنصوص أن تصبح نهباً – مما خفّ وزنه وغلا ثمنه -لمجموعات لا تحصى ممن امتهنوا حرفة السرقة الأدبية؟

الحقوق الفكرية مصانة بحسب القانون الرقمي، ولكن شرط أن تكون مثبتة من قبل الكاتب. يستطيع أن يقاضي السارق إذا كان لديه الإثبات. ولكن الكتاب الافتراضيين معرضون أكثر على الشبكة الإلكترونية لسهولة السرقة وإتاحتها للجميع. السرقات الأدبية قديمة في التاريخ وهناك جدل كبير حول أسماء معروفة قامت بهذه الأفعال تحت مسمّى “تناص” في بعض الأحيان. أما اليوم فصار الأمر أكثر شيوعاً، ولا أعلم كيف يتجرأون على القيام بأمر مماثل خصوصاً أن اكتشاف السرقة أمر سهل للغاية.

بالرجوع إلى مسارك الشعري نجده أطول وأبعد من إصدار أول ديوان لكِ عام 2009 الذي حمل عنوان (آية الحواس)، ما سبب هذا التأخر في طباعة الديوان؟

شعرياً ربما هذا صحيح، إنما صدر لي بينهما كتابان في الأدب والبحث. ولكن هذا لا يبرر أنني مقلّة في النشر وحتى في الكتابة لأسباب عملية ترتبط بمهنتي في الإعلام التي تتطلب التفرغ الكامل. لذا كان الوقت عدو الشعر، والمعلوم أن الشعر يحتاج إلى صفاء وهدوء لتلقّي القصيدة حين تحضر، فهي لا تساوم على حضورها الملحّ. وهذا ما يجعل المبدع يعيش حالة من الصراع الدائم بين مسؤولياته وواجباته وبين ارتمائه في أحضان القصيدة. كان من المفترض أن يصدر لي بداية العام الماضي ديواناً جديداً، ولكن الظروف الاستثنائية المتعلقة بوباء كورونا أجلت الإصدار وهذا ما حصل مع كثير من الكتّاب والشعراء. بالإضافة إلى الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في لبنان وآخرها انفجار مرفأ بيروت الكارثي.

إن المتتبع لمساركِ الشعري بين ديوان (آية الحواس) وديوان(جوازاً تقديره هو) يلاحظ ذلك الاهتمام الكبير بالإنسانية من خلال تفردك بعدة مواضيع منها ما هو لبناني محض ومنها ما هو عالمي كقضية سبي النساء وقتل الأطفال، هل يمكننا أن نتحدث عن وصول ماجدة الشاعرة إلى صناعة الشعر وليس الشعر كشعور خاص بالذات فقط؟

شكراً على السؤال الذي استطاع الكشف عن جانب أعتبره مهماً في مساري وهو صناعة الشعر بعيداً عن الذاتية المفرطة لدى الشاعر، والتي يتطلب تخطيها الكثير من الجهد الثقافي والبحث والتأمل في الكون حولنا.

التجربة هي مسار طويل متكامل ومترابط، وهي مراحل تشبه حياتنا وتغرف منها. لكل مرحلة عدّتها الشعرية بحسب ما يختلج في ذواتنا الملتهبة المشاعر، وهنا دور الشاعر في تطوير قدراته وعدم عزلها في سجن المشاعر المرتبطة بالأنا. كذلك المراحل العمرية التي تفرض إيقاعها الشعوري بحيث تستطيع صناعة القصيدة بحسب أهوائها. عند النضج العمري والشعري تختلف النظرة والرؤى، إنما متطلبات هذه المرحلة عديدة وصعبة، من ناحية مدّ المخزون الثقافي للشاعر بثقافات جديدة ومتنوعة ومختلفة عن السابق عبر تكثيف قراءاته ومواكبته للحركة الشعرية العالمية، ما يفتح أفاقاً لم يستطع سبرها سابقاً. بالإضافة إلى المتغيرات التي حدثت في منطقتنا، عاصرنا خلالها أحداثاً كبرى أصابت الإنسان في أعماقه، وعظمة هذه الأحداث وهولها من حروب وعنف ودماء وقتل وسبي وتهجير وتغيير ديموغرافي وظهور مجموعات وحركات متطرفة، كل هذه الأمور كانت سابقة لجيلنا لم يشهد بقساوتها في حياته. أحداث بهذا الحجم تطغى على ما عداها من مشاعر ذاتية وعاطفية ضيقة، حينذاك شهدت تحوّلاً هائلاً في تكويني الشعوري، فتحولت معه كل طاقاتي الشعورية إلى الإنسان الذي يغرق بمآسيه. ولم أجد سوى القصيدة لأعبر إلى قضايا الإنسان المعاصر بهذه الحمولة الشعرية الجديدة وهذا الدفق الهائل من الإحساس بألم الآخر ومعاناته. وبالتالي على القصيدة أن تكون على مستوى الحدث الجلل في مخزونها الشعوري والثقافي واللغوي. فتكوّنت وقتذاك قصيدة جديدة محورها الإنسان والكون والنضج الفكري.

تغرفين من الاعلام السياسي الشيء الكثير لدرجة أنه متنفسك الأقرب إلى وجدانك، كيف أثر ذلك على كتاباتك الشعرية سلباً وإيجاباً؟

الغرق في الإعلام السياسي ليس مستغرباً بالنسبة لي، لأن السياسة في لبنان هي الخبز اليومي ومعظم اللبنانيين تهمهم السياسة. ولكنها تأخذ الشاعر إلى حد كبير من عوالمه الجميلة لتفرض عليه مناخاتها السلبية. على رغم شغفي بالعمل السياسي إلا أنه يبعدني عن الشعر للاختلاف الكبير بينهما.

حسب اعتقادك، هل تخليد اسم الشاعر راجع لجودة ما يكتبه وما يتركه من أثر،أم أن هناك آليات أخرى تصنع اسم الشاعر؟

صناعة الشعراء بات أمراً شائعاً في أيامنا، وهذا يندرج ضمن صناعة النجوم في كل المجالات وإنما بالمعايير الزائفة. من السهل جداً صناعة الاسم في عصر “الفاست فود” والInfluencers  والفن الجاهز والمعلب، إنما من المستحيل تخليد الإسم. ما يخلّد الشاعر هي أعماله وجودة كتاباته وقيمتها الأدبية.

في سطور؛ أمسيتكِ الشعرية الطربية مع الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة في جرش منتصف العام السابق.

هناك شراكة فنية شعرية بيني وبين الصديقة الفنانة اللبنانية الكبيرة جاهدة وهبه، قدمنا خلالها العديد من الأعمال في بيروت وفي تونس وفي الأردن. وهذه الشراكة قائمة على تقديم أمسيات فنية تتضمن قراءات شعرية من قصائدي ومن قصائد شعراء معروفين وغناء الفنانة وهبه بألحانها مع مرافقة موسيقية. وكان آخرها أمسية العام الماضي في مهرجان جرش الدولي للثقافة والفنون الذي قدمنا خلاله برنامجاً خاصاً بجرش وأغنية خاصة بالمدينة من شعري وألحان جاهدة وهبه.

في سطور؛ الأشعار التي سارع الشعراء والشاعرات بإلقائها لمواساة أهل لبنان في حدث انفجار بيروت.

الملحمة الشعرية “في حب لبنان” كانت من أفضل ما قيل في مواساتنا بعد الانفجار لما تضمنت من مشاعر سامية وراقية من الشعراء المشاركين من العديد من الدول العربية الذين تكرّموا بعاطفتهم الصادقة في قصائد رائعة، لهم الشكر من القلب. والشكر الكبير لصاحبة الفكرة ومنفذتها الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة التي أظهرت الكثير من الحب لبيروت والكثير من التضامن الذي لم نشهد له مثيلاً. عمل بهذا الحجم يستحق ثناء كبيراً وتقديراً بحجم محبتها من كل الشعب اللبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى