استعلاء الصور اللاواعية.. قراءة لنوفيلا حلم لآرتور شنيتسلر
د. محمد سمير عبد السلام | ناقد مصر ي
ينطوي مدلول الواقع – بمدلوله الحديث في المدن الكبرى – على الفاعلية الخفية لعوالم اللاوعي، واللاوعي الجمعي التصويرية الفاعلة في طرائق إدراك الشخصيات للعالم، وللآخر، وفي تحولاتها الذاتية، وتشكيلها المتجدد لكينونتها الخاصة؛ وقد بدت فاعلية الرؤى اللاواعية في بعض الشخصيات الفنية الشهيرة في الأدب؛ مثل جيني في الأمواج لفرجينيا وولف، ومولي في عوليس لجويس، وإيفيت في العذراء والغجري ل د. ه. لورنس؛ إذ تتقاطع نوازع الهو مع بنية الواقع الحديث، وتحول إدراك الشخصية لكينونتها، وللآخر طبقا لبنى التعارض أو التوافق بين النوازع الغريزية القديمة الأسبق من تاريخ الفرد، ووعيه، والأنا في السياق الاجتماعي المحدد؛ ومن الروايات الرائدة في هذا الاتجاه أيضا نوفيلا حلم للروائي النمساوي آرتور شنيتسلر؛ وقد ترجمها عن اللغة الألمانية المترجم المصري القدير سمير جريس، وصدرت عن دار الكرمة بالقاهرة 2020؛
وقد أشار سمير جريس – في تذييله للترجمة – إلى اهتمام آرتور شنيتسلر بالبعد النفسي للشخصية، واستخدامه لتقنية المونولوج في السرد؛ وسنجد أن الخطاب الداخلي المباشر أو غير المباشر المتعلق بالشخصيتين الرئيسيتين في العمل سيحمل قدرا كبيرا من الإشارة إلى استعلاء الهو في خطاب الشخصية التعبيري، وفي الصور الحلمية اللاواعية، والتوافقات أو التعارضات البنيوية الداخلية بين كل من الدكتور فريدولين، وزوجته ألبرتينه؛ إذ يصطدم وعي فريدولين بذلك الاستعلاء غير المبرر لصور الهو، وأثره في تشكيل انطباعات زوجته حول الضابط البحري الغريب، بينما نجده – في حالة تشبه التخاطر- ضمن نطاق اللاوعي في حلم زوجته الذي يشبه ذلك الطقس الغريزي الذي شاهده في الفيلا المهجورة؛ ومن ثم يكشف الخطاب الداخلي المباشر أو غير المباشر – في النص – عن الفاعلية الخفية لنوازع الهو القديمة ضمن مفردات الواقع المدني الحديث المستقر نسبيا؛ وقد انتقلت من مجال الانطباعات، والصور المقطعة اللاواعية إلى مجال الوعي عبر المحادثة التي يقدمها السارد في بداية النص؛ ليؤكد الفعل التعبيري الاستعاري في بنية خطاب ألبرتينه حين تحدث فريدولين حول ذلك الضابط الذي نظر إليها نظرة عابرة كادت أن تترك من أجلها حياتها المستقرة، واستدعاء تلك الخبرة التي تنطوي على ظاهرية الصور المؤكدة لاستعلاء الهو وانتقاله من المنطقة النفسية الشبحية إلى أفعال الكلام في المحادثة؛ ففريدولين يتذكر ايضا اقترابه من فتاة الشاطئ بصورة مجردة، توحي بالاقتراب من نموذج الأنوثة القديم قبل أن تتشكل في سياق زمكاني نسبي للحظات، التقى فيها الإدراك بتصاعد نغمات الهو؛ ثم ينتقل السارد إلى تحول إدراك فريدولين لعالم لزوجته، وللواقع انطلاقا من الاستعلاء المجرد والمؤقت للهو، حتى يصل إلى ذروة التقاء الهو – بصورة مجردة – بالواقع في ذلك الطقس الغريزي المجازي المتناقض في الفيلا، ثم اكتماله في حلم زوجته الذي يوحي باقتران الهو بالعقاب، والهروب في آن؛ وهو ما يوحي بأن الخطاب السردي الداخلي للشخصيات يؤكد تصاعد اللذة والرعب معا بصورة ظاهراتية تستعصي على الاختزال التفسيري في مجال الوعي.
وقد استخدم السارد التبئير الداخلي المتنوع – وفق تعبير جينيت – في علاقته بشخصيتي الرواية؛ إذ ينتقل – عقب المحادثة – إلى وصف تضاعف خبرات فريدولين الداخلية حول فاعلية الهو في السياق الاجتماعي، ثم رواية ألبرتينه لحلمها المكمل لمتوالية الطقس الاستعاري الذي جسد الغموض، واللذة، والرعب بصورة تتنازع مع الهوية الفردية، وتتوافق معها بصورة مؤقتة في الوقت نفسه؛ ومن ثم يؤكد خطاب النص ذلك التصور الفرويدي المتعلق بالتقاطع بين الإيروس، والتدمير؛ وقد أشار إليه فرويد في كتابه الأنا، والهو بصورة عضوية، ونفسية؛ وقد اقترن تصاعد نغمات الهو خلف الأقنعة السوداء – في النص – بنبذ فريدولين من الاحتفالية، وتعذيبه في الصور المقطعة في متوالية حلم ألبرتينه؛ كما خلفت صورة الضابط البحري انطباعا يوحي باستعلاء صورته الغريبة عن أي تفسير واقعي منطقي، أو مقبول؛ وهو ما يثير نوعا من الدهشة الممزوجة بالرعب أيضا.
وتشير المتواليات السردية – في النص – إلى التعددية التأويلية الكامنة في بنية حدث اكتشاف الطقس اللاواعي؛ ففريدولين يسعى لاستنطاق التجلى المجرد للهو بصورة تمثيلية في بنية الواقع، بينما ينشطر الحدث إلى بنيتين متضادتين؛ تتعلق الأولى بالإعلاء من الغياب في الطقس اللاواعي بينما تشير الأخرى إلى جريمة واقعية تتعلق بغياب الفتاة التي حذرته من التمادي في الطقس؛ ومن ثم يؤكد الخطاب السردي للنص التعارض الأساسي بين الطقس التمثيلي للهو، والصيرورة الواقعية للحدث؛ فاللقاء بينهما تم خلف الأقنعة والصورة الضبابية المجازية للفيلا المجهولة، وعبر حلم مجهول لألبرتينه، يوحي بتصاعد العقاب من داخل البنية نفسها التي تعزز من تصاعد إيحاءات الهو؛ هكذا يراوح الخطاب السردي بين فاعلية شبحية مؤقتة للهو ضمن السياق الاجتماعي، ومراوحة تصويرية بين الطقس والواقع، توحي بكثافة الخبرات الإنسانية القديمة المستعادة في حدث ينطوي على جماليات التجلي الظاهراتي للهو، والعقاب في آن.
يمهد السارد لولوج فريدولين للاحتفال الطقسي الاستعاري بمجموعة من العلامات التي تعمق من إعلاء نغمات الهو اللاواعية من جهة، وتؤكد حالة انفصال بنيته عن الواقع من جهة أخرى؛ مثل القناع، والحضور الشبحي للاحتفالية في المكان، وكلمتي السر، وضبابية الرؤية، وتحولات الوظائف السردية للشخصيات، والأزياء، ثم تناقضات الأصوات الأنثوية المجردة التي تجمع بين الصرخات غير المبررة، والرقة، والشر، والرعب في آن؛ وكأنها تكثف تجربة المجموع الإنساني المتناقضة في لحظة فريدة تؤكد تصاعد التعالي الطيفي للهو خارج الذات الفردية، وخارج الهويات التاريخية، والأصوات المحددة؛ ومن ثم حين أراد فريدولين الخروج عوقب بخلعه للقناع؛ أي بتحديد هويته مرة أخرى؛ وكأنه فقد قوة ما؛ هي قوة الغياب في عوالم الهو، وصوره الإنسانية المتناقضة الأولى.
إن مثل هذا الطقس الذي يوحي بالغياب، يؤكد عودة البنى الرمزية الاستعارية للأساطير، والطقوس الجماعية القديمة ضمن الواقع المدني نفسه، وتحديها للمرجعيات الإدراكية الفردية؛ ليظل نسق الهو الرمزي متعاليا في النص؛ وبهذا الصدد يرى نورثروب فراي – في كتابه تشريح النقد – أن الطقس بمفرده لا يفسر نفسه؛ لأنه يسبق المنطق، ويسبق الكلام؛ وقد كان يتصل بالفصول، ودرجة التوافق بين الكائن، والبيئة مثلا، ويرى أن اتحاد الطقس بالحلم يمنحه نوعا من الدينامية (راجع، نورثروب فراي، تشريح النقد، ت: د. محمد عصفور، منشورات الجامعة الأردنية بعمان، 1991، ص 134). يؤكد فراي – إذا – فاعلية تلك الصور الطقسية العابرة للزمكانية في اللاشعور الجمعي، وعلاماته الفاعلة التي تعلو على الإدراك الفردي؛ وقد تجلت تلك العلامات الطقسية القديمة في – احتفالية نوفيلا حلم – في المحاكاة التمثيلية لإيماءات الربيع التصويرية القديمة في عالم الحلم من جهة، واتصال تصاعد الهو باللذة والعقاب معا، أو اتصاله بالتدمير طبقا للتصور الفرويدي حول الموت والحياة.
ولم تكن الأجواء الطقسية – في النص – حلمية في الواقع، وإنما استدعت حضورا مضاعفا وجمعيا لعلامات الهو في غياب مؤقت للهوية الفردية؛ ومن ثم نجد – في تلك الاحتفالية – أصداء لنماذج لاواعية، وأساطير متداخلة؛ إذ يمكننا الاستماع المجازي – تحت طبقات الخطاب الظاهرة – إلى الأصوات التمثيلية لشخصيات تعامة، أو فينوس، أو أفروديت خلف تلك الصرخات الناعمة أو الشريرة في تناقض ساخر في سياق الاحتفالية، وكذلك يمكننا رؤية تمثيلات استعارية للطواطم، أو لملك الغابة طبقا لفرويد، أو جيمس فريزر في السياق الأدبي الملتبس لتصاعد العقاب الحلمي الأسطوري داخل بنية الواقع المؤجلة.
ويمكننا قراءة البنية السيميائية لحلم ألبرتينه من داخل الإنتاجية الإبداعية للعلامات المكملة لخبرة فريدولين التي تجسدت فيما بين الحلم، والواقع؛ ولكن حلم ألبرتينه جاء أقرب للصور المقطعة الكثيفة المميزة لحالة الغياب، والانخراط المضاعف في عالم اللاوعي؛ وقد أكدت العلامات الحلمية المكملة – في عالم ألبرتينه – التناقض النيتشوي بين كل من العقاب المضاعف، وبنية الهروب التي تمثلت في فعل الطيران، أو الخروج من ذلك التداخل بين الإيروس والتدمير الذي يؤكد سطوة الأنا الأعلى والهو معا في نسيج يقترب من الأجواء الأسطورية؛ لوجود ملكة غامضة في المشهد، واستخدام لأدوات تقليدية في العقاب؛ مثل السياط؛ ومن ثم يؤكد الحلم تداخل الأزمنة، والإيحاءات الغريزية الكثيفة المتناقضة.
ويبدو فعل الطيران غريبا عن السياق الحلمي المكمل؛ ولكنه يجسد آلية تجاور الصور، والعودة إلى بنية التعالي الأولى للهو، وتناقضاته التصويرية الإبداعية؛ وبهذا الصدد يرى فرويد – في تفسير الأحلام – أن جزءا من لا معقولية الحلم يرجع إلى أن جملا مستعارة من أنحاء شتى في أفكار الحلم قد أجريت معا من غير وصل أو واسطة. (راجع، فرويد، تفسير الأحلام، ت: د. مصطفى صفوان، مراجعة: د. مصطفى زيور، دار المعارف بالقاهرة، ص 436)؛ يمكننا قراءة فعل التحليق – وفق تصور فرويد للامعقولية الحلم إذا – انطلاقا من التجاور الكثيف بين كل من إيحاءات اللذة، والعقاب، وأصداء الماضي السحيق، وحدث الخروج، دون ترابط منطقي في حلم ألبرتينه المكمل؛ ويؤكد حدث الخروج الضاحك – بصورة دائرية – تناقضات الصرخات الأنثوية البدائية، والاكتشاف الأول لظاهرية الصور اللاواعية المتصلة بالهو، واستعلائها الشعري على إدراك الفرد.