هل نستطيع مواجهة غول جرائم القتل؟
سهيل كيوان | فلسطين
اختُتِم عام 2020، بأكثر من مئة جريمة قتل بين العرب الفلسطينيين في مناطق 48، بدون احتساب بضع جرائم أخرى، وقعت في مدينة القدس المحتلة. لم ينقطع مسلسل الجرائم مع بداية العام الجديد، بل استمر وبقوة، وخلال أسبوع واحد وقعت عدة جرائم قتل، والجميع في حالة من الاستسلام والعجز عن أي فعل في مواجهة الجريمة، أو محاولة منع الجرائم المقبلة.
في إحصائية رسمية نشرتها صحيفة «هآرتس» في العام المنصرم، تصدَّرت عشر بلدات عربية جرائم القتل، وذلك بالنسبة لعدد سكان كل بلدة، حيث قُتل في عام 2019 واحد وتسعون عربياً مقابل مقتل 43 يهودياً. وكشفت الشرطة عن الجُناة في ما نسبته 58% من جرائم القتل عند اليهود، بينما كشفت 31% من الجناة في الجرائم عند العرب. أما في جرائم الجنس مثلا، فنجد أن البلدات العشر الأوائل كلها يهودية، وكذلك يتفوَّقُ اليهود على العرب بنسبٍ كبيرة، في كل الجنايات الأخرى، مثل السرقات والاعتداء على الأملاك، والرَّشاوى، وتجارة البغاء وغيرها. إذن فنحن نتصدر جرائم القتل، وبالرصاص، حيث أن أكثر من 90% من الجرائم نُفِّذت بسلاح ناري. هنالك تساؤلات كبيرة عن تقصير الشرطة في لجم ظاهرة السِّلاح غير المُرخَّص والقتل، ويتَّهمُ العربُ السلطات بالتهاون بشكل متعمَّد، مع ظاهرة تجارة السلاح، حيث أن مصدر 80% منه، يأتي من الجيش الإسرائيلي.
تثار تساؤلات، كيف يمكن لمجتمعنا الذي تناصبه السلطة العداء، أن يتغلَّب على هذه الظاهرة المقلقة، التي تفتِّتُه وتحوِّله إلى مجتمع مرتعب وقلق على مصير أبنائه؟ علينا أن نعرف الأسباب أولا كي نعالج أي ظاهرة، فأحد أهم العوامل لانتشار الجريمة، هو ضعف الانتماء والهدف الوطني والقومي الجامع الذي يوحِّد الشَّعب من حوله. الهدف السَّامي الواضح يدفع الناس إلى التكاتف والتضحية ودعم بعضهم بعضًا، ومن خلاله ترتقي المشاعر الإنسانية السَّامية، مثل الإيثار وعطاء الفرد لأجل المجموعة، والعمل التطوُّعي والتبرُّع لأعمال خيرية، والترفّع عن صغائر الأمور، وتراجع الأطماع المادية أمام الأهداف الروحية، مثل قيم الحُرِّية والمعرفة والتكافل الاجتماعي، والحوار الفكري، والسَّعي والتركيز على الجوانب الإيجابية، مثل العِلم والرياضة والفنون والنشاطات البناءة في مختلف اتجاهاتها، التي تشمل حماية الإنسان والمكان. أما عندما يضعف الهدف الوطني الجامع، وتعتريه الضبابية، وعدم الوضوح، حينئذ تقوى النزعة الذاتية والمصلحة الفردية، وتضعف المعنويات وروح الجماعة، ويصبح الخلاص الفردي أهم ما يشغل الفرد أو الأسرة، والهدف المادي هو الشُّغل الشاغلُ، ويرتفع منسوب الأنانية، وتتضَعْضَعُ الثقة بين الناس.
أحد أهم العوامل لانتشار الجريمة، هو ضعف الانتماء والهدف الوطني والقومي الجامع الذي يوحِّد الشَّعب من حوله
الحقيقة أن في مجتمعنا خيراً كثيراً، وفي كل عام تُوزَّعُ آلاف المنح الدراسية لطلاب الجامعات، من قبل جمعيات وناشطين من مختلف الفئات، وتوجد مظاهر مباركة من التكافل الاجتماعي، تظهر خصوصاً في مناسبات مثل الأعياد، لكن في الوقت ذاته، وفي ظل انخفاض الدَّخل بين الشرائح الضعيفة، وتقدَّم القِيَم المادِّية، تظهر مغامرات مالية غير مدروسة، مثل أخذ القروض المُغرية من السوق السوداء، وحتى انزلاق البعض إلى تجارة السموم والسِّلاح، بهدف الرِّبح السريع والسهل، على حساب القِيَم الاجتماعية، وهذه أرضية خصبة لنموِّ الجريمة.
في موازاة إهمال السلطة ونكوصها عن ردع عصابات الإجرام في المجتمع العربي، ضعُفت كذلك قوة ونفوذ جاهات الصلح العربية التقليدية، التي اعتمدت على وجهاء البلدات العربية، التي لعبت دوراً كبيراً في السِّلم الاجتماعي، هذه الجاهات فقدَت قدرتها على الرَّدع، حيث كانت تفرض شروطها على القاتل والمعتدي وعائلته مثل، دفع الديِّة وترحيل أسرته، ثم عقد صلح عشائري أمام الناس لمنع عمليات الانتقام والانتقام المضاد. هذه الجاهات أضعفها ظهور السِّلاح النَّاري بأيدي المجرمين، فباتت عاجزة عن فرض أحكامها، إلا في حالات نادرة.
تواطؤ السلطة المركزية وفقدان القدرة الذاتية على الرَّدع، وعدم وضوح الهدف الوطني الجامع، أدى إلى ما نحن فيه من تفشٍ لجرائم القتل، في كثير منها يُقتل ويصاب أبرياء، لا علاقة لهم في عالم الإجرام. نحتاج إلى مؤتمر للجماهير العربية، يمثل كل شرائح المجتمع، وليس الأحزاب السياسية فقط، وأن يحدَّد هذا المؤتمر الأهداف التي تجمعنا كلنا كأقلية قومية، تحت سلطة تسعى في كل الوسائل لإضعافنا وتفتيتنا، وزرع الفوضى واليأس بين صفوفنا. فكرة المؤتمر للجماهير العربية ليست جديدة، فقد بادرت حوالي مئة شخصية وطنية في حزيران/يونيو عام 1980، ودعت لإقامة مؤتمر كهذا، وبدأ الإعداد لعقده في أيلول/سبتمبر من العام نفسه، إلا أن رئيس الحكومة ووزير الدفاع في حينه مناحيم بيغن، أصدر أمراً عسكرياً بحظرِ المؤتمر. كنا قبل أربعة عقود نصف مليون مواطن، وأصبحنا اليوم أكثر من مليون ونصف المليون، إضافة إلى تطوِّر وسائل الاتصال التي تكشفنا أمام العالم كله، وممكن جداً أن تساعد في إنجاح مؤتمر كهذا.
أعتقد أنه بمجرد طرح الفكرة والمبادرة والتخطيط لها والبدء بالإعداد لتنفيذها، سوف ترتفع المعنويات، وتنفتحُ كُوَّةٌ للضوء، ومساحة لاستعادة المبادرة إلى الأيدي المسؤولة والنظيفة، في الطريق إلى تهميش الجريمة وأسبابها وحاضناتها، والجاهزية إلى غيرها من المهام الوطنية الكبيرة.