قراءة في ستة نصوص للشاعرة الليبية سهام الدغاري

ناصر أبو عون

القراءة التاريخانية لمنتوج النثرية العربية الآنية يشي للمتلقي أن الكتاب الجدد المتأخرين والذين بزغت نصوصهم في بداية الألفية الثالثة تنبع أنهارهم الإبداعية من نهر صافٍ ينتمي إلى الجيل الثالث من كتاب قصيدة النثر العربية ذلك الجيل الذي تلا (جماعة شعر البيروتية) و(جماعة إضاءة 77 المصرية) … تلك الموجة الثالثة ـ كما نحب أن نطلق عليها ـ تتفرد بخاصية واحدية وهي أنها نزلت حافية القدمين إلى بحيرة الشعر دونما تجارب خليلية وصارت لها مرجعيات لا تقف عند تجارب أدونيس وأنسي الحاج. ولأننا نتفق مع ميشيل ساندرا في أن قصيدة النثر تثير أسئلة مخيفة؛ لا.. لأنها تريد إلغاء التناقض القديم بين الشعر والنثر فحسب، بل لأنها ترغم النظرية الشعرية على البحث عن طبيعة اللغة الشعرية ذاتها.. وهذا ما نقرأه في نص سهام الدغاري:

(بقلبٍ خانه الحب فاحتضنته الحرب

بالأربعين والثمانِ الهاربة من بين فكي الوقت

بكل فكرة مثيرة دخلت من الباب وخرجت بشهقة اللون في دمي

بجنوني

بظنوني

بشجوني

بكل حرفٍ مقامر راهن على ظلٍ بذاكرة عمياء

بكل وجوهي الجميلة

بكل وجوهي الدميمة

بكل وجوهي الكليلة

بشرود اللحظة قبل بدءها

بالعين التي فاضت بالسؤال

بالكف التي نفضت عن قلبك بؤسه

بالفجر الذي صار ميقاتاً لاحتراق الأمنيات

بليالٍ باردة أنفقتها في العد على أصابعي

بالفواتح التي تفتحت لها عروق الأمل. الذابلة

بالخواتيم التي ترسم الفشل لكل حكاية تبدأ بأحبك

 – أُحِبُكْ -)

واتفاقا مع ادوارد سعيد فإنه لا يمكن بتر الأدب عن التاريخ والمجتمع، إن الاستقلال الذاتي المزعوم للأعمال الأدبية والفنية الذي يقتضي نوعا من الفصل، يفرض فيما أرى، محدودية مضجرة، تأبى الأعمال الأدبية نفسها أن تقوم بفرضها؛ وبذلك فإن مسألة (امتياز) المبدع وفقاً للموقف الجمالي فحسب بالتناسب مع فكرة الاقتراب أو الابتعاد جمالياُ، مسألة نسبية للغاية ولا يعتد بها في الحكم على قيمة المبدع، إنما يجري الحكم عبر نظرة شاملة للنص وخصوصاً التقاليد الثقافية لما لها من تأثير في نشأة وتكوين المبدع، فلا يمكن أن يولد شيء من لا شيء، وبطبيعة الحال لا يعني ذلك تبني المبدع للتقاليد بشكل نهائي، بقدر ما يعني اجتراحه لمسارات مغايرة لما نشأ عليه بحكم النضج والتطور لانتشال تلك التقاليد من الركود والتحجر. وهذا ما تجترحه سهام الدغاري في كل نص تكتبه:

(كتبت قصيدة ذات يوم وعلقتها فوق سور مدينة تشكو قصر قامتها و تناهيد ليلك

لم أحمل اللغة بين كفّيْ كقبس يكفل لقصيدتي حق الوصول، فقصيدتي مُدانة بسحب حبل من صمتك العقيم

لتصله بأُلفة لمحتها مرة في بارق عينيك

وآهة خرساء يمزق بعضها بعضاً كانت تسد الفينة مابين

نومك واستيقاظي

لم تكن تستبين الدروب

ولا نداوة التراب تحت وطء سيرها العجول

ما أحييت موتى

ولا قتلت أحياء

كانت تحمل قائمة أخطاءها فوق ظهرها

تكابد رغبة منفلتة من بين جفنيْ الخوف

أ حفظتها ؟

تلك القصيدة الراجفة التي اخترقت خطى العابرين لتستقر فوق وحشة حزنك

أم أنك مازلتَ تتهجى شوقها اللهوف)

لقد تركت الحرب الأهلية في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي آثارها على جسد قصيدة سهام الدغاري؛ بل وقعت سهام بين سندان المنفى الاختياري في القاهرة ومطرقة الحرب في ليبيا.. حيث كان لا سبيل للنجاة، وفي ظل حالة الوهم والاستلاب التي تتلبس النخبة الثقافية العربية، فتبدو متلبسة ومهمومة بالواقع، وتعتقد – واهمة – أنها تؤدي دورها الثقافي والاجتماعي، نجد سهام الدغاري تؤمن بأن الشاعر في عصر ثورة المعلومات والتدوين الإلكتروني فقد (نبوءته) و(كفرت) الأجيال الجديدة بدوره التنويري وتمردت على وصايته الكاذبة.. نجد هذا الاتجاه عندما نقرأ لها:

(كفكرة منبسطة في العينين

أختلط واقعها بخيالها

لا يُرى منها سوى الجانب المسجور

مابين نسيج نار ووحشة حسحستها

كطريق رُسِمَ ليكبر

فيبتلع عابريه

يهبهم قمراً

وسبباً نادراً للمُضِيْ

قبل أن يمجهم لدوار الخديعة

كقبلة لامست فيها الشفاه الشفاه

فخمنت حِمم العذاب

توقفت

لتسبق زفرتها شهقتها

فتزيد موتها بريقاً

ككذبة تحاول تمرير نفسها

بأن تضرب الصدق بالصدق

فيتضرج السواد بالسواد

وتندلع ظِلالها

ككل هذا السراب تسكنني)

وفي محاولة لتوصيف أو وضع سمات محددة لنصوص سهام الدغاري يمكننا القول بأنها تكتب ما يجثم على صدرها من كوابيس ليلية ومكبوتات نهارية ولا تضع القارئ في أجندة حساباتها عند الكتابة، ولا ترى أن الشعر له من القداسة ما تجعل الشاعر فوقيّ وعلى القارئ أن يمر بمعاناة كالتي عاشها الشاعر للوصول إلى المعنى، وإذا كان (الشعر قد تفصّد وتبعثر في كلّ الفنون، فنجده في السرد، ونجده في السينما، ونجده في الفوتوغرافيا، كما نجده في المسرح؛ بمعنى أنّه حتى وإن كان يوجد نصّ شعريّ محض إلا أن الشعريّة موجودة في كلّ الفنون والألوان بنسب مختلفة) وقد لاحظنا في نصوص سهام الدغاري  دفقات شعرية في ثنايا السرد وهي نفسها لا تدري أيهما يطغى على الآخر عند لحظة الكتابة.

(في الأولى

نصنع من الشعر سُلماً

نتسلقه لنيل برهةٍ من التحليق

نتحسس الغيم

ونحلم بأنه أوسدتنا المفقودة

 

في الثانية

نمتليء بالفراغ وبألوان المطر

نغلق أبواب الرحلة

نفتح للسقوط ألف باب

فينسانا الصباح

ويهبنا استيقاظاً متأخراً

في الثالثة

ننسى العد

أصابعنا

وموقع خطواتنا

نسير … ولكن

دون أن نحدد وجهة

في المرة المليون ربما

نقف ….

لنعيد الكَرَّة)

نحن الآن في عصر النص المفتوح وتحرّر النصوص الإبداعية الحداثوية من (ترسّم خطى التصنيفات القديمة المحفوظة، معتمدة على فكرة “اللعب الحر” بتسلق الأسوار وهدم الجُدر الفاصلة بين الشعر والقصة والرواية والمقالة والخاطرة، التي كانت تحفظ المسافة بينها بشروط واضحة تحيل كل “نص” إلى جنسه الإبداعي دون مشقة) .. ونصوص سهام الدغاري تعتمد هذا التزاوج مما أتاح لها القدرة على التعبير دون مثاقيل الشروط والمحدّدات، إلا إنه في المقابل أفقد النص “نقاءه” يخالجنا هذه الشعور عندما نقرأ لها:

(يعرف كيف يحافظ على جراحاته نيئة

ليعود لطبخها على مهل

بعد أن يعجز عن مقاومة أساه الكثيف

وبعد أن يستشيط حزنه

فيرغي ويزبد ملقياٍ به في قبضة الموت الأخير

هذا الموت يصنع له حيوات أخرى

يضع فيها الكلمة على الكلمة

والذنب على الذنب

والصفح على الصفح

وقبل أن تنعيه الرياح

يتكاثف

فيصير جبلاً من شعر)

أما من حيث الإيقاع فإن البنية الإيقاعية لقصيدة سهام الدغاري تعتمد (على الجملة الطويلة أو القصيرة كوحدة لها وعلى نماذج الإيقاع من جملة إلى جملة، بحيث يتبع الإيقاع المعنى والحافز والغاية وينسجم مع الدفقة العاطفية، وتحدده الصور بتتابع الألفاظ) ..إن إيقاعات قصيدة النثر أطول من إيقاعات الشعر المنثور والنبر وتجاوب الأصوات وقد تحققت تلك السمة في نصوص سهام؛ بل هي تعتمد هذه التقنية في كل منتوجها الإبداعي.

(قلب في قلادة أو بين أصبعيك

لا فرق

فهو يحمل لك نبضة يتسع لها العمر

واسم واحد لكل المعاني الخاسرة

مرتحلة أنا ياحبيبي

مذ سقطت عني كل عناويني

ووقفت بين ظلك وبينك

أتساءل

لماذا تأخر الفجر في ليل عينيك

مرتحلة أنا ياحبيبي

مذ آمنت بأن اللحظة وصاحبتها معدومتان

وأنه ما من بقاء إلا لجريان قصيدك في دمي

واسمك الذي عشعش في ركامي

والقُبل البعيدة التي ما اكتملت

مرتحلة أنا يا حبيبي

مذ صِرتُ أعد المرات

كم مرة كُنتَ هنا ؟

كم مرة كُنتَ هناك ؟

وكم من المرات وقفتَ في المنتصف

تحاول إثبات إننا < صدفة >

يارجلاً يؤكد استحالة أشباهه الأربعين

ياماضٍ أمضي إليه بكلي

وحاضراً يأخذني بتمامي

ومستقبلاً أُسرف في ركضي نحوه

خذ قلبي …وقلادتي

وقصائدي التي تعبرك

مابين وهجٍ وانطفاء

فلن ينتهِ فيك الكلام

لن ينتهِ فيك الكلام)

وإذا كان تزيفتان تودوروف يدعونا للاتفاق معه في كتابه (أجناس في الخطاب) حول وجهة النظر القائلة بأن قصيدة النثر لم تأت من فراغ بل ارتكزت على أشكال أخرى من أجل تدميرها أو تحويلها، وهو يتساءل من أين يأتي الجنس الأدبي؟

ببساطة متناهية فإن نصوص سهام الدغاري تأتي: من أجناس أخرى؛ فالجنس الجديد هو تحويل جنس سابق، أو بضعة أجناس دائمًا: بقلبه، بإزاحته، بالارتباط به؛ ولهذا لا تختلف قصيدة النثر عن الأجناس الأخرى في هذا الصدد، هذا إذا تصورناها مرتكزة على تقاليد النثر التي أربكتها لاحقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى