تعرّف على فن التحنيط وتاريخه عند المصريين القدماء
فريدة شعراوي | باحثة في التاريخ والمصريات
التحنيط بوابة العالم الآخر في الحياة الأبدية، ويُعد أحد أهم أسرار المصريين القدماء، والتي حافظوا عليها باستماتة
كان علم التشريح، ذلك العلم الذي تقدم فيه المصري القديم، البوابة الحقيقية لتقدم فن التحنيط عند أجدادنا السلف الصالح، ومن خلاله أمكن لأرواحهم، ووفقًا لذلك المعتقد الحياة الأبدية، القدرة علي عودة الروح إلى أجسادهم في رحلة البعث والخلود.
قديمًا، وقبل أن يتطور علم التحنيط، أي عصر ما قبل الأسرات، كان المصري القديم يعتمد علي التحنيط بالطرق الطبيعية، فكان يقوم بدفن الجثث في حفر غير عميقة في الرمال، فالحرارة الشديدة كانت كفيلة بحفظ الجثث من التلف وامتصاص السوائل .
ومع بداية عصر الأسرات، زاد الإيمان بفكرة حياة ما بعد الموت، وأهمية الجسد لتتعرف عليه الروح، فصار المعتقد السائد أن الأمر لا يتوقف عند تحنيط الجسد والحفاظ عليه من العفونة، وإنما يجب أن يصل للحفاظ على شكل وملامح الميت، بحيث تتمكن الروح من معرفة الجسد الذي يخصها، ولعل ذلك يظهر جليا في صمود مومياوات يعود تاريخها إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد، دون أن يصيبها تحلل أو عفونة.
ظل ذلك العلم سرا من أسرار الفراعنة، حتى أننا لم نكن نعلم عنه سوى ما ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت، فقد دون بعض طرق التحنيط أثناء زيارته لمصر في القرن الخامس قبل الميلاد .
لكن مع الاكتشافات الحديثة زادت معلوماتنا عن ذلك العلم، خاصة عندما اكتشفت البعثة الأمريكية التابعة لجامعة ممفيس الأمريكية المقبرة رقم 63 بوادي الملوك، والتي احتوت على 8 توابيت، بداخلهم بقايا أدوات ومواد خاصة بالتحنيط، والتي استخدمت في حفظ مومياء الملك توت عنخ آمون، ما فتح بابًا كبيرًا لكشف أسراره الخفية.
استخدم المحنط المصري القديم أساليب مختلفة في عمليات التحنيط، فكانت هناك طريقة يستخدمها مع الملوك وكبار رجال الدولة، ولكنها باهظة التكاليف، وفيها تبدأ عملية التحنيط داخل خيمة الإله أو المكان المطهر، والذي كان يُطلق عليه باللغة الهيروغليفية “بر – عبد”، حيث توضع الجثة على منضدة التحنيط الحجرية .
ويبدأ المحنط بكسر عظمة الأنف باستخدام أزميل ومطرقة، ثم يتناول صنارة معقوفة ويقوم بإخراج المخ من الفتحة التي صنعها، ويملأ الجمجمة بطبقة سميكة من البيتومين والكتان المشبع بالصمغ أو بالراتنج المستخلص من النباتات، حتى يحفظها من الكائنات الدقيقة التي تتوالد داخل الجثث. . ما تلك الدقة !!
الدراسات التي أجريت على مومياوات بعض الملوك منهم تحتمس الأول والثاني والثالث، أكدت على أن رأسها تحتوي على المخ، مما يؤكد أن المصري القديم لم يتبع تكنيكا نمطيا في تحنيط الأجساد، ومع الدراسات المتوالية لمومياوات أجدادنا على مدار الأسر، ثبت أن المحنط لم يلتزم بطريقة واحدة في التحنيط، حتى إنه من الصعب أن نجد مومياوتين متشابهتين سواء في طريقة التحنيط أو في المواد المستخدمة.
أما الخطوة الثانية، فيقوم بها المحنط ليتخلص من كل المواد الرخوة التي تسبب التعفن البكتيري، فيشق الجانب الأيسر من أسفل البطن، ومنها ينزع كل الأعضاء الداخلية، ويغسلها جيدا ثم يغمرها بملح النطرون، ويقوم بمعالجتها بمادة الراتنج الساخنة، ثم توضع في أربعة أواني كانوبية على شكل أولاد الإله حورس، فالكبد يوضع في وعاء “إمستي” على شكل إنسان، والرئتين توضع في إناء “وحابي”، والمعدة في وعاء “دوا – موت – إف” وهو على هيئة رأس ذئب “إبن آوي”، بينما توضع الأمعاء في وعاء “قبح – سنو – إف” ذو رأس الصقر.
لا يترك المحنط في الجسد سوى القلب والكليتين!! ثم يقوم بغسله من الداخل والخارج بمحلول مكون من 15 مادة، منها نبيذ البلح، ونبات المر، والحناء، وزيت خشب الأرز، والبصل، ثم يملأ تجاويف الصدر بكور من الكتان المشبع بالراتنج والعطور ومحلول النطرون، وهي مواد تمنع التحلل البكتيري، بعد ذلك تدفن الجثة داخل ملح النطرون لمدة تصل إلى 40 يوما، حتى تجف الأنسجة تماما من كل السوائل والدهون.
يُنقل الجثمان مرة أخرى إلى “بر – عبد”، ليتمكن الكهنة من تطهيره بمياه النيل، وتعتبر تلك الخطوة أهم مرحلة في عملية التحنيط، لتحديد الوقت اللازم لتحضير الجسد، إلى جانب إيمان المصريين القدماء بقوة النيل في بعث الإنسان مرة أخرى، وتكتمل عملية التطهير بإضافة زيت الأرز والزيوت النفيسة والعطور، وتدليك المومياء بالبخور والقرفة.
وفي النهاية يُصب على المومياء الرايتنج السائل، ومهمته إغلاق المسامات، باعتباره عازلًا للرطوبة والحشرات الدقيقة، بعدها يقوم المحنط بإغلاق العينين والأذنين والأنف بالشمع، ثم يلف المومياء بالكامل بعشرات الأمتار من الكتان المشبع بالصمغ، والذي يحمل في طياته التمائم ولفافة البردي الجنائزي، ويزينها بالحلي ويلقي عليها الزهور .
ليتبقى أمامه الطقس الأخير لاكتمال المراسم الجنائزية، فيقوم بترتيل الصلوات وفي تلك الأثناء يقوم بفتح فم المومياء، لتتمكن حواسها للعودة مرة أخرى في العالم السفلي، وأخيرا يضعها في التابوت الذي يحمل قناعا يشبه ملامح المتوفي، ومزخرف بعبارات من كتاب “الخروج إلى النهار” ثم يدفن داخل مقبرته التي تحتوي على كافة الأغراض التي يحتاجها في رحلته إلى العالم الآخر.
أما العامة ومتوسطي الحال فكانت توجد خطوات أكثر بساطة وأقل بذخًا في تحنيط موتاهم،
واستمرت تلك الطقوس حتى ظهور المسيحية، ولكنها تراجعت بشكل ملحوظ في العصر الروماني والهيلينستي، حتى أن جودة الحفظ كانت أقل من العصور السابقة، وإن كان أضيف إليه القليل، حيث أضيفت على المومياء لفة من الكتان يكللها قطعة ذهبية في المنتصف، بالإضافة إلى حفظ الأطراف أو الجسد بالكامل بطبقة من الذهب.
وفي العصر البيزنطي توقف استخدام التحنيط وتطويره.