الثورة الفرنسيّة و دورة العنف
عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة (أوروك) – العراق
أعادني الفلم السينمائيّ الروائيّ الطويل الفرنسيّ (الثورة الفرنسيّة)/ ١٩٨٩م إلى أبرز أحداث نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، ألا وهي الثورة الفرنسيّة التي كانت فاتحة بوابات الكثير من مفاهيم الحرية، والعدل، والمساواة، والإخاء، والمُسببة لعشرات التغييرات الجوهرية في بنية الحكم، والتعاطي مع القضايا الأساسية في العديد من دول العالم.
يقال عن هذه الثورة أنَّها ألهمت حركات التحرر في العالم، وأسهمت بنشر مفاهيم الجمهورية، والديمقراطية، والليبرالية، والراديكالية، والقومية، والاشتراكية، والعلمانية، ونصرة المرأة، لكنَّ حقائق مغيَّبةً يجب أن يضعها الناس أمام أنظارهم، وهي: أنَّ أنهاراً من الدماء سُفحت تحت شعاراتٍ ثوريةٍ براقةٍ، كانت الثورة الفرنسيّة المُلهِمة لها، والمؤسِسة لأُطروحاتها.
وهذا هو الذي أظهره الفلم التاريخي الكبير (الثورة الفرنسيّة) المتكون من جزئين :الأول بعنوان (سنوات الأمل)، ومدته ثلاث ساعات إلا ربعاً، والثاني (سنوات الإرهاب)، ومدته ساعتان وأربع وثلاثون دقيقة. أما المدة الزمنية التي تغطيها أحداث الفلم فهي خمس سنوات تبدأ من سنة ١٧٨٩ م ،وتنتهي بسنة ١٨٩٤م.
بدأت أحداث الفلم باقتحام سجن الباستيل الذي يبلغ ارتفاعه ٢٤ متراً، وسمكه ثلاثة أمتار عند القاعدة، وثمانية أمتار عند القمة . استغرق بناؤه اثني عشر عاماً من سنة ١٣٧٠م وحتى سنة ١٣٨٣م، واستخدم حصناً للدفاع عن باريس، ثمَّ صار سجناً للمناوئين للسلطة.
شاهدتُ الفلم التاريخي على قناة اليوتيوب على ثلاث جلسات قبل أيامٍ من كتابة هذا المقال، وقد حرَّك الفلم في نفسي الكثير من المشاعر المتناقضة، وجعلني أُعيد النظر في الكثير من الأفكار المسلَّم بها. أخرج الفلم المخرجان روبيرت أنريكو، وريتشارد تي هفران الذي اشترك أيضاً في كتابة الفلم مع أربعة كتابٍ هم : ديفيد أمبروز، و دانيال بولانكر، و روبرت أنريكو، وفريد أي وايلر.
جسد الأدوار المحورية في الفلم نخبةٌ من النجوم فمثل دور الملك لويس السادس عشر (جان فرانكوس بالما)، أما الملكة النمساوية ماري انطوانيت فجسَّدت دورها الممثلة البريطانية والأمريكية (جين سيمور) ، وقد أُشيع عن الملكة أنَّها غير مبالية بمحنة الناس الجائعين فقالت جملةً ذهبت مثلاً هي: (طالما لا يوجد خبزٌ، دعوهم يأكلوا الكعك) !!
لكنَّ الباحثين في هذه المسألة يؤكدون أنه لا يوجد ما يدعم أنَْ ماري أنطوانيت هي من نطقت بتلك العبارة، بل على العكس من ذلك ينسبون إليها قيامها بأعمال خيرية فضلاً عن تمتعها بثقافة، وذكاء، واحساسٍ بالآخرين، ويعللون نسبة هذه العبارة إليها لتشابه اسمها مع اسم أميرة ورد ذكرها في كتاب “الاعتراف” لجون جاك روسو الذي نُشر سنة ١٧٦٧م، يعني المسألة مجرد تشابه أسماء! وكان دور جورج دانتون من نصيب الممثل النمساوي (كلاوس ماريا براندوير)، وجسد دور ماكسيمليان روبسبييرو (أندرشز سويران) ومثل دور رسول الحرية كامي ديملان (فرانسوا كلوزيه).
فإذن نحنُ أمام فلمٍ متعدد الجنسيات من حيث الممثلين، والقصة التي تهم جميع البشرية. يتسلسل الفلم في السرد فيتناول ظروف تأسيس المجلس الوطني، وسلب صلاحيات الملك لويس السادس عشر شيئاً فشيئاً، وتحطيم سجن الباستيل الذي لم يجدوا فيه سوى سبعة سجناء بقضايا جنائية، ثمَّ تصفية المنتقدين، والمشكوك في ولائهم للثورة، أو المتعاطفين مع الملك، والخصوم، والذين يُشتبه في خيانتهم ! الأمر يتكرر مع الأسف في كل حركة تغيير في النظام السياسي في كل عصرٍ ومكانٍ !
يُظهر الفلم الملك لويس السادس عشر ودوداً متواضعاً، يستجيب لطلبات المواطنين، بينما يتصف رموز الثورة بسمات العنف، والإقصاء، وإلغاء المختلف! تبدأ دورة العنف باقتحام سجن الباستيل سنة ١٧٨٩م، ثمَّ سلسلة القتل العشوائي، والقتل المنهجي بالقانون، والمقصلة التي لا يسلم منها أحدٌ ابتداءً بالملك، وزوجته، والقائد جورج ملتون، وماكسيمليان روبسبييرو الذي يصفونه بـ (طاهر اليد) لنزاهته لكنَّه لا يتسامح أبداً مع أعداء (الثورة) المفترضين حتى وصل عدد الذين أُعدموا بأوامره ستة آلاف مواطن خلال ستة أسابيع، ومن بينهم معظم زعماء الثورة، وقادتها!!
لم تنقذ روبييسبيرو من المقصلة رئاسته للمجلس الوطني، ولا التأييد الشعبي الذي حظي به ، و لا وصفه لأعمال القتل العشوائي بالقضاء الشعبي ، ولا تصفيته لـ (أعداء الثورة)، فلاقى المصير الدموي الذي أذاقه لآلاف الضحايا !!
أسئلةٌ كثيرةٌ تتوالى: هل هذه هي حقيقة الثورة المُلهِمة للأحرار في العالم، التي فتحت أبواب تغيير الحكم بالقوة، وأعطت للعسكر الشرعية في القيام بانقلابات متتالية؟ ما الذي جلبته الحركات العنفية للناس في العالم غير المزيد من الخراب، والدمار، والدم ؟
هناك مَنْ يرى أنَّ الثورة الفرنسيّة وليدة كتابات عددٍ من مفكري وأدباء القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين انتقدوا الحكم الملكي المطلق، ونظَّروا لنشر مفاهيم العدل والمساواة ومن بينهم : الفيلسوف والسياسي مونتسكيو (١٦٨٩م ـ ١٧٥٥م) صاحب نظرية فصل السلطات ، والفيلسوف والكاتب الساخر فولتير
(١٦٩٤م ـ ١٧٧٨م)الذي دافع عن الحريات، وانتقد التفاوت الطبقي، والفيلسوف والكاتب وعالم النبات جان جاك روسو (١٧١٢م ـ ١٧٧٨م) الذي له مؤلفات شهيرة في التربية والاجتماع والسياسة، وقد دعا إلى المساواة، فهل نعدهم شركاء في كل ما يحصل من انتهاكات جراء الانقلابات، والتغيير القسري للحكم أم أنَّ الطبيعة البشرية تظل لغزاً ربما كشفت بعضه ما جرى من فظاعات الحروب، والتنازع المستمر، ورفع شعار البقاء للأقوى، و الأصلح ، ومناعة القطيع !؟