التحولات الاجتماعية واستحقاقاتها
عفاف عمورة ـ برلين
يشهد العالم تحوّلات اجتماعية هامة يقودها تأثير العولمة، والأزمات الاقتصادية والتغيّر المناخي العالمي والأزمات المالية العالمية الناتجة عن أوجه عدم تحقيق العدل والمساواة المتناميتان، والاستبعاد والحرمان من حقوق الإنسان الأساسية ،والفقر المدقع،. وتظهر هذه التحوّلات الحاجة الملحة إلى حلول ابتكارية مجدية تفضي إلى قيم إنسانية عالمية تتصل بالأمن والأمان والسلام، والكرامة الإنسانية، والمساواة بين الجنسين وعدم التمييز واللاعنف. وعدم التمييز بين النساء والرجال الشباب الذين هم أكثر تأثرا بهذه التغييرات وتلك التحولات، هم بالتالي الجهات الرئيسية الفاعلة والقاعدة الأساسية في مجال التحولات الاجتماعية والأخلاقية.
تتمثَّل التحولات الاجتماعية في عملية الاندماج الاجتماعي والاختراع والابتكار الاجتماعي لأنها تشكل محطة تقاطع بين جميع الأنشطة التي ترعاها اليونسكو، مع التركيز الشديد وبشكلٍ خاص على أولئك المعرّضين للخطر المحدق بهم، والمستبعدين والمحرومين.لذا فبرنامج اليونسكو لإدارة التحولات الاجتماعية (موست)، ومجلسه الحكومي الدولي يشكلان محرّكين أساسيين فريدين لوضع مبادرات كلية لبناء الإمكانيات والقدرات في مجال التحوّلات الاجتماعية الهامة والسياسات العامة والمجتمع، وبناء جسور بين العلوم والمعارف العلمية الاجتماعية، وتطبيقها على أكمل وجه.
إنَّ التحولاتُ الاجتماعية التي تجري في العالم ليست عمليةً ميكانيكية خالية من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية الصادقة ، وليست إجراءً اعتيادياً أو دورياً يشتمل على منظومة السبب والنتيجة بدون تمهيد واقعي، أو وَعْي تاريخي مكين. إن التحولات الاجتماعية تتحرَّك وفق نسق معرفي ومنطقي تراتبي، لا مكان فيها للمصادفة أو أنصاف الحُلول. وإذا لم يستطع الإنسانُ إيجادَ شرح أو تفسير عقلاني منطقي للأحداث، فهذا لا يعني أنَّ جملة الأحداث والتحولات عبثية. وإذا لم يَستطيع المجتمعُ على فهم وتحليل الظواهر الرمزية المُسيطرة بقوة على سُلوك الشخص كفرد وتوجُّهات الجماعة ، فهذا لا يعني أن المصادفة هي القانون الذي يفرض حكمه على أنساق المجتمع. إن المُسبِّبات والأسباب ما تزال كامنة في الشعور والوجدان الإنساني والوَعْي الباطني والظاهري الاجتماعي .
إنَّ اتحادُ الشعور والوجدان الإنساني مع الوَعْي هو الذي يشكِّل الوجود الحقيقي والواقعي للعناصر الفكرية والمعرفية في التاريخ والجغرافيا. وبما أنَّ الوجود الإنساني في حركة مُتواصلة، والطبيعة في صَيرورة وسيرورة دائمة ، ولا مكان للعدم والفراغ في الواقع المُعاش والحياة اليومية، فلا بُد من إجراء تحوّلات اجتماعية عمودية وأُفقية. فالعمودية، أي (الرأسية) فتتمثَّل في البحث المستمر في طبيعةِ لغة الخطاب الاجتماعي السائد، ومركزيةِ الظواهر الثقافية والمعرفية، والمعاييرِ الرمزية المستندة على الخلاص الفردي والمصلحة العامَّة للجميع، وحالاتِ الوَعْي الجَمْعي تكون ضمن أُطُر التفاعل والتكامل مع الذات والآخَر .أما الأُفقيةُ فإنها تتمثَّل في الحراك الاجتماعي المتواصل ضمن سياقات ومستويات زمنية تتعلَّق بالماضي السحيق والماضي القريب والحاضر والمستقبل.
وهذا يؤكّد أنَّ التحولات الاجتماعية السائدة ليست تحصيل حاصل، أو أمراً واقعاً مفروغاً مِنه، ومتروكاً لحركة السيرورة الزمنية. إنَّ هذه التحولات تُؤَثِّر تأثيراً كبيراً في الزمن، كما يُؤَثِّر الزمنُ فيها بشكلٍ واضح وصريح، وهذا التأثير المُتبادل يُثبِت بقوة أنّها تحوُّلات منطقية وعقلانية، يُمكن توقُّع مسارها وسيرورتها قبل حدوثها موضوعياً وعلى أرض الواقع. وكُلُّ حراك اجتماعي له خصوصيته في الوجود يُمكن توقُّع اتجاهه ومساره، ومعرفة نقطة البداية وغايته، فهو حراك عقلاني مُنظَّم محكوم بتشريعات وقوانين منطق المجتمع ومنطق اللغة معاً. ومنطق اللغة يُوفِّر الشروطَ الفكرية والثقافية لصناعة الفِعل الاجتماعي، لأنه لا يُوجد فِكر بدون لُغة تملك كل مقومات التعبير .
ومنطقُ المجتمع الحقيقي هو الذي يُحدِّد خصائصَ الوعي والعقلانية للتوازن بين صراع الإنسان معَ نفسه وصراعه معَ مُحيطه الآخر ، وكُل صراع ذهني هو علاقة فكرية وعلاقة عقلية، لأن الفِكر هو صراع عُقول وقناعات ، وصِدام قوي بين الحُجَج والبراهين . ولا يُوجد معنى بدون مُجتمع له مكوناته ومقوماته التي تحدِّد مكانته وماهيته. .
وإذا كانت التحولاتُ الاجتماعية في طريق التطوير والتحديث والإبداع ، فهي تحوُّلات إيجابية بالمطلق، تحت سيطرة العقل الجمعي والوعي الفردي والجمعي معاً، ويُمكن التحكُّم بها لصالح الجميع والخَير العام ، وتوجيه مسارها وتحديد هدفها لإحداث نهضة مجتمعية حقيقية . أمَّا إذا خرجت هذه التحولاتُ عن الطريق والهدف الصحيح المرسوم لها، فإن المجتمع سيدفع ثمناً غالياً جداً ، لأنه فقد الاحتفاظ والسيطرةَ بقوة على أهم عناصره، وصارَ يسعى بشكلٍ حثيث وراء الأحداث والتغييرات والتحولات، تتحكَّم به ، ولا يتحكَّم بها، وتَقُوده ولا يَقُودها، وهذا هو الانتحار التدريجي المتسلسل في المجتمع، حيث يَبدأ العَدُّ التنازلي لنهاية الحُلْم الاجتماعي والتطلع الجمعي في الإزدهار والتقدُّم، وهذا يعني بالضرورة بداية ظهور الكوابيس وحالة التسلط والهيمنة ، وظهور حالة من القلق الفكري والثقافي والمعرفي وصنع هواجس عامة . وإذا سيطرت الهواجس والكوابيسُ على بِنية النظام الاجتماعي، فلن يَعرف المجتمعُ مصيرَه ومسارَه .ولن يَشعر الإنسانُ بجدوى وجوده وكينونته، وإذا دخل العقلُ والوعي الجمعي في متاهة التحولات الاجتماعية الخارجة عن الإرادة والهاربة من أي قوة تتمكن من السيطرة عليه ، فإن المجتمع سيخرج من التاريخ ، وهذا أمر هام في هذا السياق، وتُصبح العلاقاتُ الإنسانية سِلعةً رخيصةً في مَوضع العَرْض والطَّلَب تباع وتشترى .
وعندئذ ، يتحوَّل الإنسانُ من كائن حَي واعي ومُفكِّر إلى أداة وظيفية وشَيء هامشي لا دور له ولا قيمة، ويتحوَّل المجتمعُ مِن كيان اعتباري له رمزية حضارية وشرعية وجودية ، إلى ساحة صراع ساخنة لتصفية الحسابات،. وإذا وَضَعَ المجتمعُ مصيرَه وكينونته في أيدي الآخرين المتسلطين ،فلا بدَّ أنهم سيلعبون به على طريقتهم الخاصة لتحقيق مصالحهم الشخصية على حساب الآخرين .