نقد لنص حبيبة محرزي عن نصها (أمل )

سعيد محتال/ المغرب

بنية التقابل الدلالي في قصيدة ” الأمل ”
الأزمنة كما هو معلوم تنقسم إلى ماض ومضارع وأمر،
ولكل زمن دلالاته المعنوية الخاصة إلى جانب وظيفته الزمنية، والتي لها علاقة بالماضي والحاضر والمستقبل.
أثرنا هذه المسألة بعد ولوجنا الى عالم قصيدة ” الأمل” للشاعرة التونسية حبيبة المحرزي، ونحن نتصفح النص لاحظنا هيمنة أفعال المضارعة على كامل النص دون ذكر لأي زمن آخر، مما يوحي إلينا بأن للنص سرا وراء اختفاء كل من زمن مضى وزمن تنتظره بلهفة وهو ما عبرت عنه شاعرتنا ب” الأمل”
وغالبا ما يُستخدم الفعل المضارع للدلالة على وقوع الحدث في الزمن الحاضر.
إلا أنه يمكن أن ينصرف الى دلالات أخرى كالدلالة على وقوع الحدث في المستقبل، مسبوقا بالسين أو سوف في اكثر الحالات، وهذا النوع غير وارد بتاتا في القصيدة، ولعل الشاعرة تسعى بلهفة لتجاوز الزمن الحاضر دون حاجة لرابط يربطها بالمستقبل سواء كانت الحروف الدالة عليه أو بنية فعله.
كلمة الأمل تصدرت القصيدة بحكم أنها العنوان المرافق للنص، الأمل في ما هو آت لعله ينسينا جرح واقع مؤلم،
ظلت الأحداث حاضرة بقوة في ذهنية الشاعرة من خلال الشكوى والمعاناة التي تجسدت في حضور بشكل مكثف من ياء المتكلم الملتصقة بكثير من الافعال الواردة في القصيدة.
وهذا يتطلب البحث عن مصل يخفف جرح الوجع الذي أنسانا أو دفعنا لتجاهله إما لكثرة ضغطه على النفس ولقساوته، أو لأنه بات معروفا لدى الجميع، وبالتالي لا داعي لذكره أو الالتفات اليه، يكفي أنه ترك قلوبنا تتمزق من حرقة السؤال عن مدى قدرة حلول أمل آخر المطاف:
” ابحث عن مصل يغزوني. .
يرديني
دون ذاكرة .”
هذا المصل الذي ظل حاضرا بكل ثقل على أنفاس شاعرتنا.
وهذا الغائب الذي تمَلّك أنفاس نصف القصيدة متصدرا الجمل الفعلية المثقلة بهاجس التمزق والتشتت :
يبعثرني دون قرار .
يهدم شطآني .
يأسر كلماتي .
ينثر حروفي .
يسبي بنات افكاري .
يغوص هناك .
انهيار تام بعثر كل المشاعر وهدم كل الحدود مما سبب في توغل آلام الجرح الذي جعل الكلمات سجينة الأنفاس، والحروف متناثرة بين ثنايا السطور ، ومما جعل شاعرتنا عاجزة عن التعبير عما سبب لها كل هذا الفزع المدمر داخل قفص القلب المنكسر:
” بين جدائل الصبايا
الحالمة .”
أي حلم هذا وهو سجين الأحلام، كل أملها أن تهجرها أوجاع دفينة غير حاضرة مباشرة وانما اختزلتها في صور شعرية قصيرة ( جمل فعلية قصيرة ):
” أمل في نسيان ”
وحضور الذات بقوة ملتصقة بالغائب تجاه الزمن له عدة دلالات منها محاولة الهروب من زمن الحاضر الى زمن الأمن والسلام الذي لا وجود له في حاضر النص إلا من خلال المتخيل ، وهذا ما نجده في العديد من الصور الفنية التي تشكلت من أفعال متقابلة،
وكأنها عبارة عن إشارات
لنستقبل أفعالا تقابل هذا التبعثر الذي هيمن على المقطع الأول من أفعال المضارعة بصيغة ضمير الغائب، ضمير يعود الى زمن الحلم بوجه جديد، يسود فيه السلم مستحضرة صوت ضمير الغائبة منفصلة عن ضمير المتكلم كما في السابق، فالشاعرة أنفاسها مثقلة بالأحلام :
” تتطاير فراشات احلامي .”
فالفراشة غالبا ما ترمز الى الأمل ، وإلى الطمأنينة ، ظهورها في الطبيعة يعني حلول الربيع ، لعلها تمنح الشاعرة بعض الاطمئنان وراحة البال أمام هذا الكم من الهم الذي سبب في هيمنة الأمواج على شط البحر، مما أحدث هيجانا قويا على شط الأمان، كي تزهر الحياة من جديد:
” تشدو بقبس الحرية .
تناغم لمعة الضفاف .
تزهر شتاء وضح النهار . ”
لتستمر فراشات الأحلام في اقتناص ألمع الصور المشهدية وهي تحلق بنا عاليا خلف الأسوار على إيقاع رقصة برية تبحث عن ضوء النجوم الهاربة من عبثية الفضاءات الموغلة بالوحشة والغربة ، الأمل في تجاوز الحدود والاسوار التي دمرت الأحلام:
” وتطارد النجوم عابثة .
في رقصة برية .
ولحن يجتاز الأسوار .
وراء القصور .”
لتسبح بنا بين ثنايا الأنهار المتدفقة بأعذب الألحان، مستعيرة القبلات لترسم بها وجها جديدا ،
” وبين ثنايا الأنهار الوارفة .
تعزف القبلات . ”
والقبلة خصوصا تعد من أسمى معاني التعبير عن حالات الحب والمشاعر بين طرفين ، وهي عبارة عن شعور يوحي بالطمأنينة والتودد للطرف الآخر، وكما تحيلنا الى الرغبة في الاستسلام والخضوع، كما ان انهاء الجمل بنقطة تحد من استمرارية إيقاع العزف، لتضعنا أمام تساؤل جديد حول طبيعة الجمل الفعلية القصيرة المتقطعة ، إذ يصعب علينا تاويل دلالاتها إلا إذا ربطناها بسياق ما قبلها وما بعدها ،
” تتعامد .
تتعانق .
تتشاكس .”
فعل ” تتعامد ” لوحده يحمل أكثر من دلالة
تعامدَ يتعامد ، تعامُدًا ، فهو مُتعامدِ
تعامد الخطَّانِ: نزل أحدهما عموديًّا على الآخر
من هو هذا الآخر !؟.
فعند ذكر التعامد يمكن الإشارة إلى جسمين متعامدين عندما يتقاطعان مع بعضهما البعض.
فهل يمكن اعتبار هذا جوابا عن تساؤلنا حول طبيعة الآخر، وهو ما صرحت به الشاعرة نفسها :
” تتقاطع على جذع
نخلة برية .”
ما سر هذا التقاطع الحاصل بين عزف القبلات الذي رسمته شفاه فراشات تجوب فضاء رحبا في جو من العناق والمشاكسة، وهي:
” تغازل الربيع بهمس وديع .
كي ينجبا نغمة سرمدية .
تنتشلني من الملل .”
أم هو تقاطع من نوع آخر إذا التجأنا إلى الاستعانة برمز الصليب الذي سطرته الشاعرة بحروف ممزوجة بتصادم وتقاطع مضطرد على أكثاف جذع النخلة، من أفعال ( تتعامد ، تشاكس، تتقاطع)!؟.
عُرفت النخلة قديما بالشجرة الطيبة وشجرة الحياة، ويطلق عليها أيضا شجرة العذراء.
فدلالاتها الرمزية متعددة بين التضحية والعطاء،
إن ما تقدم من دلالات النص السابقة توحي بنوع من التضحية والصبر على الأذى ( حضور تناص مع حادثة الصلب التي أشار إليها القرآن الكريم)، (فعيسى عليه السلام مثل رمز التضحية لدى اهل الكتاب الذي تحمل الأذى من أجل إسعاد الآخرين ). حتى يتحقق ما تصبو إليه ، الفراشات المشاكسة الطموحة لملإ الأرض عدلا بعدما عمها الجور، ووالبحث عن لحن يبعث الأمل في النفوس بعدما عمها اليأس والقنوط.
” وترجع لي بعد الجفاف.
شيئا من الأمل ”
وترجع هو الفعل الوحيد الذي ورد في القصيدة يحمل دلالة الماضي، لربط أواصر الامن والسلام بين ماض لم يذكر له أثر وحاضر يعمه الملل والألم ، والذي طفا على السطح بعد أن اقتلع كل أمل في النجاة والظفر بعودة الحياة من خلال هذه اللمسة الفنية التي رسمتها شاعرتنا على خدود جذوع النخل.
من خلال ما تقدم يمكن استنتاج أن للنص بنية دلالية خاصة قائمة على التقابل
وكلمة (تَقَابَلَ) في المعاجم العربية لها معانى لغوية مختلفة منها: التلقاء، والمواجهة، والضم.
والتي يفهم منها المواجهة التي تحدث بين شيئين ، الأول منهما يواجه الثاني ويتقابل معه، أو بمعنى أيضاً ضم شيء إلى شيء آخر أي قابله.
وعند البلاغيين المعنى يكاد لا يختلف،
فقد اشار أبو علي الفارسي إلى أن المقابلة هي تطبيق لفظي، ذلك لأن الكلمة تقابل فيه أختها على ترتيب… مثال قوله تعالى: (جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً ).
فالتقابل قائم على المطابقة
وقد لاحظنا من خلال تتبع البنيات الدلالية للنص هيمنة بنية المخالفة والتضاد التي سيطرت على جزء كبير من بنية النص العامة
تجلت اولا في تقابل فقرتين شكلتا النص بالكامل
الاولى تمثلت في بنية الانكسار والتمزق والهدم والأسر
هذه الصورة صيغت بشكل الغائب المذكر
أي زمن الاغتراب والتدمر من الوضعية القائمة ،
لتنقلنا الشاعرة صورة ذهنية مقابلة كلها رغبة في معانقة الامل الذي تحلم به فالتجأت الى الغائب المؤنت الذي ارتبطت افعاله بالفراشات من تعامد وتعانق ومشاكسة ومغازلة
لاحظنا كيف قابل حرف الياء بالتاء
الغائب بالغائبة ( المذكر بالمؤنث)
وياء المتكلم في الجزء الاول بالغائب في الشطر الثاني،
كما أن معاني الافعال متقابلة تماما سواء من حيث دلالة الاختلاف او التضاد.
زد على ذلك تقابل في الأصوات والحروف
مما أحدث نغمة خاصة تنقلك من مشهد الى آخر بكل يسر دون لجوء الى تعقيد أو إطالة في الكلام ما دامت اختارت شاعرتنا عنصر التكثيف والتلميح.

………….

الامل

تجرحني النسمة خلسة .
تشوهني العتمة علنآ .
ابحث عن مصل يغزوني. .
يرديني
دون ذاكرة .
يبعثرني دون قرار .
يهدم شطآني .
يأسر كلماتي .
ينثر حروفي .
يسبي بنات افكاري .
يغوص هناك .
بين جدائل الصبايا
الحالمة .
تتطاير فراشات احلامي .
تشدو بقبس الحرية .
تناغم لمعة الضفاف .
تزهر شتاء وضح النهار .
وتطارد النجوم عابثة .
في رقصة برية .
ولحن يجتاز الاسوار .
وراء القصور .
وبين ثنايا الانهار الوارفة .
تعزف القبلات .
تتعامد .
تتعانق .
تتشاكس .
تتقاطع على جذع
نخلة برية .
تغازل الربيع بهمس وديع .
كي ينجبا نغمة سرمدية .
تنتشلني من الملل .
وترجع لي بعد الجفاف.
شيئا من الامل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى