الفنان العربي نصرالدين بوشقيف وتجربة الإنتاج الإبداعي المتعدد
الدكتور محمد المعزوز | كاتب وروائي وباحث من المغرب
بتأمل مختلف المواقع التي يمثلها المثقف العربي في المهجر نلحظ انها متنوعة ومتبعثرة إلى حد التناقض إذ هناك المواقع الممتصة لهذا المثقف بفعل سقوط الاغتراب والاصابة بفقده التثبت من الهوية والوقوع في الاضطراب والتذبذب السيكولوجي الموصل الى تطبيع استقرار الأنا وفقدان الثقة بالنفس وهناك المواقع المناقضة لهذه الحالة وذلك بتحويل نفسية الاغتراب الى طاقة إنتاجية مغنية للرصيد الثقفي للذات المنتجة قبل خوضها تجربة الاغتراب.
والثابت ان هذه الحالة الأخيرة قد افرزت ثلة المثقفين والمبدعين العرب الذين بلغوا درجة العالمية بتقديمهم انتاجات محترمة بفعل تعامل محلي وغير محلي في سياق انتاجي خاص أساسه تلك النفسية المركبة والمشكلة في معاناة التجربة وتفاصيلها لا يحس بها الا المغترب نفسه
ومن بين الذين رسخوا اقدامهم في هذا الموقع الثاني الفنان والشاعر نصرالدين بوشقيف الذي انتقل من موقع المحلي وهو متفرغ الى التمثيل المسرحي والغناء والرقص في نطاق المسرح العمالي بوجدة الى غير المحلي وهو يستثمر اغترابه فيه ايجابيا ليتم دراسته الاكاديمية وينخرط في رحاب الابداع الفني غير المحصور في المسرح فقط وانما ليعانق السينما والفلسفة والشعر والفنون التشكيلية
وبإقرار من نصرالدين بوشقيف نفسه فهو يرفض ان يموضع في شكل فني واحد مغلوق انه بتعبيره متعدد يبغي التعدد لأنه يحس في كل لحظة انه موزع في اليوم الواحد بين التمثيل والإخراج والتأليف والتشكيل والغناء والرقص، وهذه العوالم متداخلة هي التي تشكل معنى وجوده واحساسه بالوجود ذاته
لان الوجود بوصفه متعدد المكونات فيزيقية كانت ام غير فيزيقية والكائن الإنساني يكون دالا على هذا التعدد باعتباره الملخص الروحي لهذا الوجود فانه معبر بكليته الوجودية عن هذا الوجود المتداخل الدلالات والاشكال، وحيث ان الفنان مستمد من هذا الوجود المركب وانه يمتاز عن جنسه بخاصية الفن نفسه كان من الضروري ان يكون غير محصور في الواحد او محبوس في المتخصص للقصي للتعدد لذا كان الفنان حسب تصور نصرالدين بوشقيف كلية إنتاجية معبرة عن كلية الوجود بحسب تصريحاته فالفنان الأصيل هو الفنان الشامل او بتعبيره هو الفنان المتعدد المنتج للتعدد
صحيح إن التشكيلي مثلا قد لا ينتج الا اللوحة التشكيلية لكن الذي يجعل اللوحة متعدد هو ما تنطوي عليه من تداخل كثير من الفنون التعبيرية اذ يمكن لنا ان نقرا فيها قصيدة او نرى فيها مشهدا مسرحيا او سينمائيا وهكذا فان العلاقات التي تقتنصها اللوحة هي التي تجعل منها متعددة وتم تكن اللوحات الخالدة الا كذلك هذا من جهة ومن جهة أخرى قد يكون للتعدد الإنتاجي معنى مباشر وذلك بإنتاج اللوحة التشكيلية وبإنتاج المشهد المسرحي وبإنتاج الكتابة والرقص وهكذا والفنان نصرالدين بوشقيف ميال الى هذا الشكل الثاني باعتباره حسب تصريحه يمكنه من الحرية الحقيقية ويجنبه الوقوع في روتينية نفس الممارسات وايقاعات الأداء.
الإنتاج المتعدد من داخل الواحد -المسرح-
بتتبع مختلف الاعمال المسرحية التي قدمها الفنان نصرالدين بوشقيف خاصة بيت الجنون لتوفيق فياض والكولاج المسرحي لنصوص المرحوم محمد مسكين والتي قدمها في مختلف بلاد العرب ابتداء من المغرب الى الأردن الى فلسطين مرورا بتونس وباريز يتوضح انه لا ينتج عرضا مسرحيا محصورا في علاماته واطره المميزة له من حيث هو كائن جمالي يحمل تسمية المسرح وانما جعل من هذا الإنتاج الواحد لحظة تفجير خصوصية كثير من الفنون التي يعتقد انها لا تستقيم في شكلها المحدد لها الا في مجالها الخاص
فالغناء بالشكل الذي ينجزه بوشقيف في بيت الجنون يشعرنا انه يمكن تأديته خارج المسرحية داخل أوركسترا قائدة لإيقاعاته كما يمكن تأديته في كليب حركي أساسه الايماءة والتعبير كما يشعرنا الجسد المستعمل في هذا الإنتاج انه لوحة تشكيلية تحكي عن شيء ما او مشهد كوبيغرافي فسي أساسه اللغة الراقصة الرامزة الى شيء قد نفهمه في مجمل نسق حركاته
ولعل هذا التعدد راجع الى شخصية الفنان نصرالدين بوشقيف الذي لا يمكن ان نحصر فيها جانبا واحدا نتعرف من خلاله عليه وانما هو زاخر بتعدد السلوكات المنسجمة في عطاء الفنان المبدع الذي يبحث عن التناسق والتناغم في كثير من العناصر التي قد تبدو للوهلة الأولى متناقضة ومتضاربة لكنها في عمقها متداخلة ومتماوجة في اتجاه تأسيس الغريب الذي تنعته بالجمال في نطاق هذا الغريب تشتد جاذبية الانبهار فيما يقوم به نصرالدين بوشقيف في إنجازاته التشكيلية
جنون الأوان وبهاء التشكيل
بتامل مختلف اللوحات التي زرت مواقعها في بيت الفنان بوشقيف وفي بيت غيره من أصدقائه في باريز ثبت انها جميعها لا تستقيم على التعدد فقط كما سبق ذكره وانما تنحمل على الغرابة والمغامرة، فالغرابة فعل مؤسس للفضاء التشكيلي لدى هذا الفنان لان طبيعة اختياره للألوان وابتكارها لا تستند الى الألوان المألوفة ومواضعتها الطبيعية في الواقع وانما تستند الى تشكيل الواني غير مؤلوف أساسه الإضاءة والعتمة المغرية حيث لا نجد فيها الظلام او السواد بوصفتها عتمة وانما فيها أيضا الضوء والانكشاف والاضاءة الألوانية نفسها لا تتأسس على الابانة والتفتح الكاشف.
وإنما في ابانتها وكشفها تصهر عتمة الألوانية دالة على عجائبية التشكيل المنتهي الى الجمال والبهاء وفق جدلية الإضاءة والعتمة تنبي الدلالة الألوانية لدى نصرالدين بوشقيف في مختلف مستوياتها وتصيغها التشكيلي، أما عن جانب المغامرة التي امتاز بها دون غيره فهي منحصرة في محاولة استعماله لبطاقات الهاتف المنتهة الاستعمال ليهيئ استعمالها من جديد بالتشغيل عليها وإعادة وظيفتها التي ظن مستعملها ان قد انتهت بمجرد انتهاء وحداتها الهاتفية
ان مغامرة استعمال هذه البطاقات وهي مغامرة بعث الحياة في الميت عن طريق التشكيل وهي أيضا مغامرة إعادة الاعتبار للمحجم او المقزم ومن هنا يراهن نصرالدين بوشقيف على تحقيق المجال لهذه الاحجام البطائية لتكون خطابا تشكيليا دالا على الحداثة التي ترمي الى الاقتصار والاختزال فاذا كان عالمنا المعاصر يسعى بتكنولوجيته الى تقليص المسافات واختصار الزمن فنصرالدين بوشقيف عبر مغامرته التشكيلية أيضا يدعونا الى اختزال مساحة اللوحة التشكيلية الطويلة والعريضة الى حجم مختصر جدا بحجم بطائق المكالمات الهاتفية
ولا اخفيكم اني وجدت فيما انجزه في هذه الاحجام الصغيرة شيئا عظيما لم اعهده رؤيته من قبل بهذا صح في هذا الفنان الشامل ان يكون بحق فنان التعدد وفنان الحداثة في ان وهذا ما جعله ناجحا في مختلف بلدان أوروبا خاصة في المانيا والسويد والدنمارك وباريز وغيرها فضلا عن توغله في العالم العربي بما هو مجبول عليه من المزج بين الاصالة والمعاصرة وفق تصور جمالي حداثي جد متماسك ومحكوم
Nasser-Edine Boucheqif : 50 peintures miniatures.
“Sans titre”, huile sur carte à puces, 8×5 cm, Paris 1990-1995