منبرٌ يتناول الذات الحزينة.. دراسة نقدية لقصيدة ” الباب القديم ” للشاعر علي الحمداني
عبد الباري المالكي | شاعر وناقد – العراق
أولا – قصيدة: (الباب القديم)
أفـنـيـتَ عُـمـرَكَ حَـسـرةً وعَـذابـا
صــنـتَ الــوفـاءَ وخـلـتَـهُمْ أحبابا
///
فـمـتى تـصـدّقُ أنَّ مَـن تـحنو لـهمْ
لـن يـسـمـعوكَ وأصـبـحوا أغـرابـا
///
سـتـعـودُ لـلـبـابِ الـقـديـمِ تــدُّقُـهُ
أمـلاً تـــنــادي أهـلَــهُ الــغِـيّـابـا
///
وكـأنّـهُ بــابُ الـخَـلاصِ ولــمْ يـكنْ
جـرحـاً بـلـيـغـاً شَـــرَّخَ الأصـلابـا
///
لــو حَـرَّكَـتْهُ الـريـحُ جـئتَ مـهرولاً
ظَـــنّــاً بـــــأنَّ بَــعـيـدَهُ قــــد آبــــا
///
وتدورُ مِـنْ حولِ الـنوافذِ تـرتجي
قَبَـسـاً هــنـاكَ وهَـمـسـةً وجــوابـا
///
وهَــزَزْتَــهـا رِفـقــاً إلـيــكَ كـأنّـهـا
ضلـعٌ يمـيـسُ مُـحَـطَّـماً ومُـصـابا
///
وتـصـيحُ بـالأسـماءِ عـلَّ بـذِكْـرِها
أحــداً يَــمــدُّ بــصـوتِـهِ الـتـرحـابا
///
تـجري الى الأوهـامِ وهـي عـنيدةٌ
تـسـقـيـكَ غــيثـاً زائِــفــاً كَــذّابــا
///
تلـكَ الـديـارُ غـدتْ قِـفـاراً بـعـدَما
كـانـت جِــنـانـاً تُــسـحِـرُ الألـبـابـا
///
وقَفَـتْ عـليـكَ طـلـولُـها و كـأنّـها
صَـرحْ ، يُـعـانـقُهُ الأســى أحـقـابا
///
لا اليأسُ يكفي كـي تـعودَ مُـوَدِّعاً
وتـفــارقَ الـــجــدرانَ والأعــتـابـا
///
لا المـوتُ يـسقيكَ الـشَفاءَ بـكأسِهِ
لـتـغيبَ في إِثْــرِ الــذي قــد غـابا
///
مذْ دَسَّ كفُّكَ في الترابِ شُموسَهُمْ
أطـنـبتَ فـي هــذا الأسـى إطـنابا
///
وغـدَوتَ كـالـناعورِ يبـكي صـامتاً
والـدمـعُ يسـقـي حــولَـهُ الأعـنـابا
///
كم من فـقيدٍ فـي الـثرى أودَعـتَهُ
وغــدوتَ فـي جـيـكورهِ الـسَـيّابا
///
ونـــذًرتَ عـمـرَكَ لـلـدموعِ تـصُـبُّها
صَـــبّــاً عــلـيـهِ وزدتَــهــا إســهـابـا
///
قـلْ ليْ أهـذا الـحزنُ يوماً يـنتهي
وتُـــبَـــدِّلُ الآهــــاتِ والأثـــوابـــا
///
وتَـحـيدُ عــن دربِ الأنـيـنِ مُـفارِقاً
زمَــنــاً قـضـيـتَ فـصـولَـهُ مُـرتـابـا
///
بـل كـيفَ تُـطفئُ نـارَها لـو أرسَلَتْ
فـي ذُكــريــاتٍ جَـمـرَهـا اللهابـــا
///
يا سـيـدَ الـحزنِ الـكـبيرِ قَـضَـيْتَهُ
عـمراً تــطــاردُ كِــذبَــةً وســرابــا
ثانيا – الدراسة:
لم يكن بمقدورنا أن نعيَ يوماً أنّ للحسرة صوتاً هو من أشد الأصوات لذعاً عند النفوس الحائرة، ولم نكن لنفهمَ أبداً كيف للجرح أن يكون أبلغَ الأقلام وأجرأها في تصويرِ عذاباتِ النفس وفناء العمر عاماً بعد عام، حتى جاء شاعرنا الحمداني وقد جلّى لنا هذه الحقيقة بأوضحَ من شمسٍ في نهار .
فالباب القديم … هو ليس محضَ خشبةٍ عند الحمداني تأرضها دودة الأرض يوماً، وتحذفها الريح يوماً آخر، بل هو أثرٌ عميق ترك في نفسه حسرةً عن ماضٍ، وقلقاً في حاضر، وذعراً من مستقبل، وهو يرى من بين فجواتِ ذلك الباب الخشبي مظالم الأفول مع ما في نفسه الحانية من تطلّع ٍ الى نورٍ هادٍ، وألسنةِ لهبٍ ارتفعت شوقاً نحو أملٍ محروم .
والباب القديم لدى الحمداني هو ذلك المنبر الذي تناول ذاته ُ لينشئ منها قبساً يدور حوله مدار القطب من الرحى .
وهو باب الخلاص الذي يجده أكثر إشفاقاً منه على نفسه يحكم له بالبيّنة والقرينة، ولا تجدي معه الأقاويل والشائعات التي تنذر لشاعرنا بالقلق المريب، وهو الوحيد الذي يقطع الأفكار التي لاتكفّ عن اللغط الذي يعكّر صفوَ حياته وعمله .
والباب القديم عند شاعرنا … معاذير انتحلها لنفسه وتوسلات متكررة كي لا تتزعزع ثقته بنفسه، ولا تتداخله هواجسه من بين نوافذه مابين همسٍ ولمزٍ ، تلك الهواجس التي حطمت كبرياءه ووشت ْ لون روحه النقية الى لونٍ رماديّ .
وفي الباب القديم … لا خيار .
فالحمداني بين زمانينِ ، فُرِضا عليه شاء أم أبى ، وحين يزعم شاعرنا أنه قادر على الوقوف من هذا الصراع الزمني موقف الحياد ، فإن الحقيقة التي تنطوي عليها خشبات بابهِ القديم أنْ لا حياد ، وأن الصراع المتمثل ما بين أمسهِ ويومهِ مجرد صراع بائسٍ ، وما شاعرنا إلّا جزء من كلٍّ لهذين الزمنين ، يتمازج فيهما ويتفاعل معهما ، فلا مظهر له مستقلاً عنهما ، ولاميدان له يسابق الموت فيهما الّا كما يسابق الناعور مجرى النهر ، وقد أوشك الليل ان ينتصف ، فلا يطيب له في اوقات خلواته إلّا أن يحملَه جناح الزمن الى ماضيه ، ويفتحَ له كوّة ً في نفسه يطلّ منها الى عالمه اليائس ، يتجلبب ثوب الآهة تلو الأخرى ، و قد أضناه الطواف حول أنينه ، فبات يتساءل عن أيّ جوٍّ نفسيّ تملي عليه فصول أعوامه وهو يرى زهرة ذلك العمر تترنح تحت ريح الأسى العاصفة به.
والباب القديم … هو الصورة الوصفية للإطار النفسي الذي يعيشه الحمداني وإن حاول إخفاءها مدة من الزمن ، فهو في الوقت الذي يكون فيه فزَعاً من غربةٍ ، يكون فيه أملاً في بعيدٍ قد آب .
وهو بين ذينِ، رجلٌ آدميٌّ شَقيَ كل الشقاء .
فهو في الوقت الذي يخشى صرير ذلك الباب في ضلعٍ محطمٍ، فإنه يراه بوابةً لصدى قلبِه الناطق الذي مضى يبثّ الدهر شكايةً لتلك الديار التي غدت قفاراً ، وقد راح يرجو بابه القديم ألّا يطرده من جنّتهِ الساحرة بصوتٍ طغى أساه على رجاه .
وخلف ذلكم الباب القديم ثمّةَ أجواء شاعرية ألهمَت شاعرنا وألْهبَته ُ ، إذ لاذت روحه بكل جانب من جوانب ذلك الباب ، فقد استسقاه مطراً ظهر له فيما بعد أنه غيث زائف ، فشكاه الى دنياه ، وفرّ منه الى طلولٍ خالَها جنةَ عدنٍ ، وتمرّد على خيبتهِ جهلاً منه بفَضلةِ كأسِه ، وغدا ناعوراً دامعاً بصمتٍ ، ظناً منه أنه سيّابُ جيكوره ، ونذرَ نفسه لأنينِه رغبةً في أن يزهده حزنه يوماً ما ، ومضى في جادة ذكرياته يجلوها بنواعس الأجفان طلباً في إطفاء جمرتهِ ، وهو بين تَينِ وذَينِ يطارد سراباً تراءت له منه واحة ُ غديرٍ وأعنابٍ .
كل ذلك التوزيع الفني كان له الكلمة الفصل عند بابه القديم ، وكأنها رقصةُ حالمٍ أو خمرةُ عاشقٍ يضطرم فيها نداؤه الأبديّ .
والحمداني لايفضّل الألغازَ والأحاجيَ حين يُجري حواراً بينه وبين بابهِ القديم ، وهو أشبه ُ مايكون الى تضرعٍ واسترحامٍ ، لأن ذلك الحوار صحوةُ قلبٍ مكلومٍ ، وتشبث ٌ برجاءٍ موهومٍ ، حتى إذا تكسرت كل أسلحتهِ بين يديه صحا على وخزِ الجراحِ ومرارة الغياب ، وراح ينأى بنفسهِ في البحث عن عقارٍ يتجرّعه يفضي به بعيداً عن الآلام والأوجاع ، حتى لو استلزم الأمر ُ أن يُخدّرَ إحساسَه ويخدعَ رؤيتَه بصبابةِ خمرٍ أملاً في أن يذهلَ عن حقيقتِه ، ويغفلَ عن وجودِه .
وثَمّةَ أمر آخر لم يعرض البابُ القديم عن الإطناب فيه، فهناك خلف ألواحهِ المتهرئةِ تكمن شواهد ُ متعددة لأرضٍ خلَت من أي سميرٍ، ولِسكونٍ مملٍّ ضَلّت فيه كل أمانيهِ الخاوية بين متاهاتِ ذلك الفراغ المقيت .
إنّ الحمداني يعيش حالة نفسيةً من الصراع الداخلي يتأرجح بين الامتعاض الذي يخلُفُ الرضا، وبين التمرّد الذي يعقُبُ الانقياد، وقد استيقظ من سبات نومهِ الذي تعرضَ فيه لخوادع الأحلام وزيف الآمال .
والحمداني … رغم هذا وذاك، فإنه لا يسأم أبداً من أن يطرق بابه القديم كل مرة ليدفع عن نفسه طارقَ الأشباحِ التي نتجت ْ عن حبٍ قديمٍ ، وطيفٍ عابرٍ.
إنها بلا شكٍّ وفود الذكريات التي أقبلت ْ تطرق بابَه دون سابقِ إنذار، وقد أقفرَ الروض واصفرّ الجناب وجفّ النبع، وهو يستعطفها أن تتركه وقد نامت بين أحضان الخريف لياليهِ، ونأت عن الربيع أحلامه، يستمهلها فَينةً من الزمن ليتفحص مرآتَهُ ما بها من ظنون .
وعند عتبة بابه القديم تمثلُ ذكرياته التي هي كل ثماره وقد تهدلت بها أعواد سنيّهِ، إذ لم يكن مقدَّراً له ان يملأ صدره بحسنها حتى تجيش عروقه كمنظر الكمائم وهي تتفتح عن أوراق الزهر وعبقِ الريحان، دون أن تلقي به يد القدر العابثة في ركنٍ خرِبٍ وموجٍ لايكاد يُقبِلُ حتى يدبر، ولم يكن مقدّراً له أن يرسم شموسه في صفحة سمائه بأبهى صورها، تخطو ريشته خطواتها الألف بحرارة الاندفاع وشعلة الأمل.
وليس سراً أبداً إن أخبرَنا الحمداني أنه يخشى الغياب الأبديّ ، فالجميع يخشاه دون استثناء ، والكل ينتظر دوره في دولاب الموت ، وكأنّ سرباً من العذارى تزاحمنَ على ورود ماء مدينَ بأثوابهن البيضاء ، غيرَ أن شاعرنا يتساءل كثيراً وبجديةٍ عن مدى صحة الخبر القائل أن للحزن نهايةً ينتهي بها بعد أن أشقاه وأتعبه ، وصار لاينقذه شيء مما هو فيه من صنوف الإحباط والهزيمة ، وقد رأى بأمّ عينيهِ كيف أن الأكفّ أهالت عليه طبقات التراب فألقيَ بين أنقاض حياتهِ ميتاً ، تلطمه ُ الريح وتدحرجه ُ في أغوار البحر ، وترميه في طيّ غياهبها ، وهو أخرس لا يكاد يبين .
لقد قضى الحمداني شطراً من عمره وهو يظن أنه ملهبُ الموجِ بسياطهِ، وهو ممّن يبعث في الأرض اخضرارَها ، شجرةً شجرة ، وغصناً غصناً ، حتى اذا دلَف قاصداً بابَه القديم ، وراح يمشي نحوه جيئةً وذهاباً ، عانقَ الأسى ، وبدا له صرحه ُ الموحش ، وظهرت له الأسبابُ التي تجعل في أعتابهِ وداعاً لا مناص َ له منه .