تاريخ

” سلطان العلماء” بائع الملوك والأمراء.. العز بن عبد السلام

شيرين أبوخيشه |  المنيا _ مصر

” يا بني. . . . إني استحضرت هيبة اللَّه عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط! ” العز بن عبد السلام)
الإسلام دين يبعث بالعزة والسؤدد في قلب كل إنسانٍ يتمسك به، فلا يعود الإنسان بعدها يأبه بأي شخصٍ أمامه حتى ولو كان ملكًا من الملوك ولقد رأينا كيف وصف الجنرال الإيطالي (غراتسياني) المجاهدَ الليبي (عمرَ المختار) بأن له هالة من نور تحيط به والحقيقة أن ذلك الجنرال الإيطالي كان صادقا في وصفه لتلك الهالة النورانية ولكن المسكين لم يستطع إدراك إنها هالة العزة التي تحيط بالمسلم الذي يتمسك بالكتاب والسنة فتجعل منه إمبراطورًا أمام ملوك الأرض جميعًا. وعظيمنا الحالي يعتبر خيرَ مثالٍ لتلك العزة الإسلامية سلطان العلماء وبائع الأمراء إنه المجاهد الهمام الفصيح الكلام رمز العزة ورمز السلام: الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام.
عظماء أمة الإسلام خصائصًا ثلاث لا يقاسمهافيها أحدٌ من البشر ألا وهي: (تنوع العنصر، ووحدانية العقيدة، وسمو الهدف)والعز بن عبد السلام يجمع في شخصه تلك الخصائص الثلاث فهو مغربي الأصل شامي المولد مصري الممات فعائلة الشيخ هاجرت من المغرب إلى أرض الشام ليولد الشيخ في بيتٍ من بيوت دمشق حاضرة الأمويين، حيث نشأ نشأة عادية للغاية بين أقرانه والمفارقة العجيبة أن هذا الشيخ العظيم لم يطلب العلم إلا متأخرًا كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيراً جداً ولم يشتغل إلا على كِبَر (أي في العلم) وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلّاسة (وهي الزاوية والبناء والمدرسة عند الباب الشمالي للجامع الأموي) من جامع دمشق فبات بها ليلة ذات برد شديد، فاحتلم فقام مسرعاً ونزل في بِركة الكلّاسة، فحصل له ألم شديد من البرد وعاد فنام، فاحتلم ثانياً، فعاد إلى البِركة؛ لأن أبوابَ الجامع مُغلقةٌ، وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأُغمي عليه من شدة البرد»، ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: «يا ابنَ عبدِ السلام، أتريد العلمَ أم العمل؟» فقال الشيخ عز الدين: «العلم؛ لأنه يهدي إلى العمل»، فأصبح، وأخذ “التنببه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم، فكان أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله تعالى.
وتوجه العز إلى طلب العلم بجد واجتهاد وهمة عالية؛ ليُعَوِّض ما فاته في المدة السابقة من طفولته وصباه، فقصد العلماء وجلس في حلقاتهم، ينهل من علومهم، ويكب على الدراسة والحفظ، والفهم والاستيعاب، حتى حفظ «التنبيه» في فينة قصيرة، واجتاز العلوم بمدة يسيرة، وهو ما تحدث به عن نفسه فقال: «ما احتجتُ في عِلم العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنتُ أقرأ عليهم إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيتَ عني فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرحُ حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه في ذلك العلم» وكان يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حتى أُمِرَّ أبوابَ الأحكام على خاطري.
وجمع العز في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية، فدرس التفسير وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه، واللغة والتصوف، والنحو والبلاغة،ولم يكتف العز بدراسة هذه العلوم، ولكنه تفوق في معرفتها
قضى العز معظم حياته في دمشق، وكان أكثر تحصيله وطلبه للعلم على علمائها
سيرته تمثل خير مثالي لأولئك الشباب الذين يتحججون بأن قطار العلم قد فاتهم، فبالرغم من بدايته المتأخرة جدًا ظل الشيخ يثني الركب في مجالس العلماء حتى بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، فأصبح إمام الجامع الأموي في دمشق، وكان هذا أعلى منصب يمكن للعالم أن يناله في بلاد الشام. في ذلك الوقت أقدم أمير دمشق (الصالح إسماعيل) إلى موالات الصليبين، فأعطاهم حصن “الصفد” و”الثقيف” وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزوّد بالطعام. فاستنكر العزّ بن عبد السلام ذلك وصعد المنبر الأموي وخطب في الناس خطبة عصماء أفتى فيها بحُرمة بيع السلاح للفرنجة وبحُرمة الصلح معهم وقال في آخر خطبته “اللهم أبرم أمرَ رشدٍ لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك ويذلّ فيه أهل معصيتك” ثم نزل من على المنبر دون الدّعاء للحاكم الصالح إسماعيل فاعتبِر الملك ذلك عصيانا لولي الأمر وشقًا لعصا طاعته فغضب على العزّ وسجنه بخيمة بجانب خيمته وبينما هو في سهرةٍ مع حلفائه الفرنجة، سمع الصليبيون صوت الشيخ وهو يقرأ القرآن في منتصف الليل، فقال الصالح إسماعيل للصليبيين وهو يبتسم ابتسامة الذليل ليقول لهم: إنه سجن هذا الرجل من أجلهم فنظر الصليبيون إلى حليفهم السلطان إسماعيل بكل احتقارٍ وقالوا له: “إن هذا الرجل لو كان قسيسًا لدينا لغسلنا قدميه بأيدينا وشربنا الماء الذي يقطر من قدميه
وبعد ذلك هاجر الشيخ ابن عبد السلام بدينه إلى مصر ليكرمه السلطان (نجم الدين أيوب) ويجعله إمام جامع (عمرو بن العاص) في القاهرة ولكن الشيخ رغم ذلك أبي على نفسه أن يكون عالمًا للسلطان بل اختار الشيخ العز بن عبد السلام أن يكون سلطانًا للعلماء فرغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر التزم العز بن عبد السلام بقول كلمة الحق ومجاهرة الحكام بها في القاهرة فلم يكن العز يكتمها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات.

ففي أحد الأيام تيقن الشيخ ابن عبد السلام من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ورأى ما فيه السلطان من الأبهة في يوم العيد، وقد خرج على قومه في أبهى زينته، فأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه بصوتٍ مرتفع: “يا أيوب! ما حجتك عند اللَّه إذا قال لك: ألم أبوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ ” فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، فقال السلطان للشيخ: يا سيدي، هذا ما عملته أنا، هذا من زمن أبي! فقال الشيخ: أأنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ عندها رسم السلطان بإبطال تلك الحانة. وعندما عاد الشيخ إلى تلاميذه سأله أحد التلاميذ: يا سيدي كيف استطعت أن تقف أمام السلطان العظيم وتصرخ به أمام أمرائه وتناديه باسمه مجردًا فقال الشيخ: يا بني رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه فقال التلميذ يا سيدي أما خفتَه فابتسم الشيخ ابن عبد السلام في وجه تلميذه وقال: “واللَّه يا بني إني كلما استحضرتُ هيبة اللَّه تعالى صار السلطان أمامي كالقط
وعندما تولى السلطان قطز مقاليد الحكم في مصر أراد أن يجمع المال من الشعب لتجهيز الجيش فطلب الفتوى من الشيخ العز بن عبد السلام فرفض الشيخ أن يحابي السلطان في دين اللَّه وقال له إنه يجب عليه أولًا أن يجمع الذهب والمجوهرات الموجودة عند أمراء المماليك لكي لا يبقى معهم إلا أسلحتهم وخيولهم التي سيحاربون بها، وعندها يصبح الأمراء في نفس مستوى عامة الشعب، وقتها فقط يمكن له أن يأخذ تلك الفتوى! وفعلًا نفذ السلطان المظفر سيف الدين قطز ما قاله شيخه، وتم تجهيز كل الجيش بالأموال التي حصل عليها من بيع مجوهرات الأمراء بل إن المال زاد عن الحاجةعندها وقف الشيخ البطل العز بن عبد السلام في جوامع مصر المحروسة يحرض الناس على الجهاد ويذكرهم بقصص الصحابة والسلف الصالح، فاستطاع الشيخ ابن عبد السلام زرع روح النصر من جديد في نفوس المصريين وخرج الشيخ بنفسه إلى ساحة الجهاد لينال شرف دحر التتار عن أمة الإسلام لينتصر المسلمون في معركة “عين جالوت” الخالدة بفضل رجالٍ من أمثاله ليظل الشيخ يجاهد في سبيل اللَّه ويدعو للَّه حتى بلغ الثالثة والثمانين من عمره، ليتوفى رحمه اللَّه سنة ٦٦٠ هـ، ليصلي عليه جميع أهل مصر وهم يبكون على خسارة أعظم علمائهم، وظن الناس أن زمن العلماء انتهى بموت هذا العالم العظيم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى