أصحاب النفوس الكبيرة
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
جلس حكيم على شاطئ البحر متأملاً جمال الطبيعة، وتدفق الأمواج وسرعتها، وفجأة يلمح عقرباً يحاول الفرار من الماء الذي كاد يُغرقه، أسرع الحكيم لينقذ العقرب، مد إليه يده لينجيه؛ فإذا بالعقرب يباغته بلسعة في يده، سحب الحكيم يده صارخاً من شدة الألم، ولم تمض لحظات حتى مد يده ثانية لينقذ العقرب، ويلسعه العقرب ثانية، ويسحب الحكيم يده مغالباً ألمه، ولحظات أخرى ويمد يده محاولاً إنقاذ العقرب من الماء!.. وعلى مقربة منهما جلس رجل مندهشاً من موقف الحكيم، فقال له: أيها الرجل، ألم تتعظ من المرة الأولى؟ ومن المرة الثانية، وها أنت تحاول الثالثة! لم يلتفت الحكيم للرجل، وحاول الثالثة فنجح في إنقاذ العقرب.
توجه الحكيم للرجل وقال له: يا بني من طبع العقرب أن يلسع، ومن طبعي أن أحب وأعطف، فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يغالب طبعي؟!
عجيب أمر هؤلاء البشر الذين يوصفون بأصحاب النفوس الكبيرة، إنهم يعيشون خلف أسوار عالية من الفضائل التي تجعلهم يقدمون الإحسان مقابل الإساءة، رغم شعورهم بوخز الألم ممن أساء إليهم، فهم لم يبرأوا من إيذاء الكارهين ومقتهم وخديعتهم، ولكنهم يوقنون أن الإهانات وشتائم المعتدين تسقط على قاذفيها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، وقد تطيش سهام راميها فترتد إليهم خيبة وحسرة وندامة. إنها رجولات لا تهزها إساءة، ولا تستفزها جهالة، لأن لغو السفهاء يتلاشى في رحابة نفوس الرجال كما يتلاشى الزبد على وجه البحر المحيط.
يُذكر أن المسيح مر يوماً بقوم؛ فقالوا له شراً، وقال لهم خيراً، فقيل له: إنهم يقولون شراً وتقول خيراً؟! فقال عليه السلام: “كل واحد ينفق مما عنده”، ويقول المسيح في سياق آخر: “أحبوا أعداءكم”، وقد توقفتُ كثيراً عند هذه المقولة، ولعلها تعني إيثار العفو عنهم، وتنقية القلب من كراهيتهم، وترك الانشغال بالانتقام منهم، فهو انشغال لا ثمرة منه إلا تواصل الأحزان، وطول الشكايات. إن نصائح المسيح ليست تقويماً أخلاقياً فحسب؛ وإنما تقويم للنفوس والأبدان كما يشير علم النفس الحديث.
إن أصحاب القلوب الكبيرة لا تُنبت قلوبهم في تربة حشوها غِل، إنه عنصر غريب عليهم، وما مرَّ بهم طائف من حقد إلا تقلص وزال، فقد صرفوا قلوبهم عن الخصومات، لأنها ديدن من لا عمل له ممن يؤثرون اللجاجة والنزاع، فقد عدموا رسالة يحيون لها وينشغلون بها.
أما أصحاب الطباع العلّية فقد نمت بذور الرقي في شمائلهم صغاراً، ثم قَوت مع اشتداد عودهم، حتى صارت سمتاً يُعرفون به، تحركهم نحو العلا والقمم الشماء، وسيظلون نوراً يومض بالنبل والفضل والعلياء.