شجرة الذكريات

عبد الرحمن إمنيصير | ليبيا

 

على مفترق العمر تنتصب شجرة الذكريات، تطرح ما حملته خلال سنين العمر هنا ابتسامات وهناك دمعات، وأيام تليها أيام والعمر يمر بسرعة عجيبةٍ وما عاد في الأغصان أكثر من نثرات ترامت على قارعة الطرق مدى هذه الحياة.

متى ينتهي الطريق؟! متى تُكتب النهايات؟

قد تبحث عنها في كلّ دغلٍ وكلِّ فلاة وفي مُدلهِمّ الدياجيرِ والظلُمات وفي طرقٍ بعُدت عن ضياءِ الشعور وبين القُبور فتنبش دهاليزها المردومةً بغبار الزمانِ وحين النعاسُ يغزوكَ يأتينك مع الحُلمِ يتساقطن حزناً على الوَجنات.

في لحظةٍ ما، قد يقف العقل عند لحظةٍ لا تأفل نجومه عن المغيب، فتضيء لنا الحياة؛ رغمّ جماليتها وخلودها في أعماقنا.

فتلك الذكريات تأخذنا إلى عوالمِنا التي انطفأت برحيلنا، إلى الطفولة التي كانت تأبى أنْ يقاسمها الزمان بخيباته، كانت تلتصق بكلِ لحظةٍ خوفا من تطّايرها؛ فالبراءة آنذاك كانت المحطة التي لا تتوقف عن المسير، تستمدّ قوتها من عمق الأرض المباركة التي لونتها أيدي أجدادنا.

لكلّ مكانٍ بصمةٌ ما، أحلامٌ معلقة وإن لم تتحقق، تبقى صامدة على الجدران، ككلماتٍ وأشعار، رسوم، عبارات أبت أن تسمح للزمان مسح أثارها، التصقت بتلك الأمكنة، التي قد غادرها أصحابها، حينما نكتب كلّ الذكريات بمخطوطاتٍ تحتضن عمق مشاعرنا، وترتعش بها أجسادنا حين تذكّرها.

عندما يغفو العقل بعيدا عن الواقع، يعاود رسمها بفرشاةٍ سحريةٍ غالبا ما تختفي؛ فيغادر على عجلٍ ويقاطعنا صوت الكون الواقعيّ! رغمّ الألم الذي يعتصر قلوبنا ويرتطّم، يضجّ بماضٍ أليمٍ وروح فارغة، يحاول الالتصاق بالأحلام المقتولة على ضاحياتِ الزمن المرّ، هذا الإعصار الهائج أحيانا يُفقدنا السيطرة على أعماقنا، ويشلُّ أحيانا أخرى حركتنا الطبيعيّة؛ لنجد أننّا نفقد الحياة الحاضرة ولا نجيد التأقلم مع أحداثِها، ونبقى غائبين في زمنٍ قد انتهى، لكنّ طياته كانت بالنسبة لنا الأمل والجمال والحياة التي بنتها طفولتنـا.

العيون الجميلة لا ترى إلا الجمال، والخلود لا يمكث إلا في القلوبِ الرقيقة، والحبُّ لا يعبث في الأوراق البيضاء، والحنينُ كالدمِ لا يتوقف عن النبضِ في أوردتِنا كما الحياة فذكرياتنا الجميلة لا تموت تلك التي تمس القلب والأعماق وتترك به جراحًــــا لا تندمل؛ بل تنبضُ بأرواحِنـا!

كُنتُ أتخبَّطُ فِي قبرِ ذاتِي ناحِبةً، وكانت أنَّاتِي تعزِفُ سمفونيّةً بلحنِ عَويلي، أقعُ في ذاكَ القبرِ بهاويةِ بؤسي،  ساخرةً من حلاوةِ التّحليقِ، متلذِّذًةٍ بالوقوعِ !.. و لِشدّةِ يأسِي، و قِلّةِ حيلتِي؛ اتَّخذتُ القـاعَ موئلاً.

فبعض الندبات لا يمحوها الزمن، بل تظل عالقة بأرواحنـا حتى نرتدي ثوبنـا الأبيض، كنتُ أغطُّ في نومٍ عميقٍ مُتعبةً خائرة القوى، ومرهقةً من يومِ أمسٍ فقد انتقلتُ مع أمّي لمنزلنـا الجديدِ بعد طلاقها من أبي؛ لأنها لم تتمكن من احتماله أكثر فكان عصبيًا جدًّا ومدمنًا للمُخدّراتِ بلا عملٍ، فاليوم الذي يعود فيه للبيت غير ثملٍ بكاملِ قواه العقلية يُعتبر معجزةً وشيئًا مُستحيلًا ولا يمكن تصوّره، بينما أمي كانت تعملُ موظفة في إحدى الشركات الكبيرة تتأخّرُ بصورة دائمة في العودة للمنزلِ فلا نتحدث كثيرًا، كانا يتشاجران دوًما في كلّ وقتٍ يرانِ بعضهُما، أبي لم يُعرني اهتمَامًا قط فكان يُعاملني كدميةً لا تشعر ولا تحسّ وينعتني بالبلهاء والسّاذجة وعديمة النّفع، حتّى أنه كان يريد التّخلّص مني عندما نشب شجار حادّ مع أمي آنذاك كنتُ لا أزال في السّادسة قائلًا:

– تلكَ الملعونةُ الطفيلية هي سبب شجارنا الدائم وسبب تعاستنـا لنتخلّص منها أماليا ونعش بسعادةٍ سويًّا.

 افترس أمي غضب عارم وزمجرت في وجهه:

 ‏- ماذا تقول أيُّها الثمِلُ اللعين؟ إياك حتى التفكير في ذلك فسببُ سعادتي هي لُجَيْن لا غير.

كانت لأمي بشرة بيضاء كالثلج ووجه منير وعينان بنيتان كاللوز وشعر أسود كالليل منسدل ملتمع وفم رقيق بابتسامتها تظهر أسنانها البيضاء حباها اللـه بجمالٍ وحسنٍ زائدٍ، فكانت مسرة للعيون ومبعث إعجاب لكل من يراها، بينما كان لأبي جفون ذابلة من فرط الشرب والإنهاك، وعينان غائرتان، وشعر أشعث غير مرتب، وجسم هزيل، وأنف معقوف، ووجه نحيفٌ وشفتان غليظتان، لم يرتدِ يومًا ثيابًا مرتّبة بل كان كالمُتشرّدِ بثيابه البالية المُرَقّعة التي غشتها رائحة العرق والتبغ، تحجّرت دموعي في مقلتي وانكفأت إلى الدّاخل، كان الحزن يمتصّ قلبي امتصاصًا فيسلبني قوتي ويقضي عليّ شيئا فشيئًا، كم أتمنّى أن أبكي لعلّي أجد في البكاء بعض الرّاحة لكني واصلتُ تمثيلَ دورِ الطفّلة ذات القلب القوي بينما كان قلبي هشًّا، الطفلة ذات الابتسامة الدائمة، بينما لطالما دفعتُ وجاهدتُ لرفعِ وجنتي والابتسام، الطفلة التي لا تهتمُّ إن قيل لها أنتِ بشعة، بينما كنتُ مرهفةً المشاعرِ إلى حدّ غير معقولٍ!، كنتُ أنزوي وحيدةً في غُرفتي أبكي حتّى تتورّمَ عينايَ فاستيقظُ في اليوم التّالي وكأنّ شيئًا لم يَحدث.

ثم عندما بغلتُ التّاسعة كنت كباقي الأطفال أردس بالصف الثالث الابتدائي حينما أتى ذاك اليوم الذي أخبرتنـا فيه المعلمة بأن يوم غدٍ يومُ اجتماع أولياءِ الأمورِ وعلى أبائكم الحضور، أخبرتُ أمّي بالأمرِ فلم يكن لي حديثٌ مع أبي من الأساسِ فأخبرتني وتربت على رأسي:

– آهٍ يا عزيزتي كم أتمنى أن الحضور ولكني لا أستطيع فغدًا سأعرضُ مشروعي على مُدير الشركة ليس بمقدوري التغيب، سأخبر والدكِ وسأجعله يحضر بثيابٍ مُخترمة وآمره بالتصرف بلباقة لذا لا تقلقي.

طمأنت هذه الكلماتُ قلبي واستطعتُ النّومَ، ما إن داعبت أشعة الشمس الأولى جفوني كنتُ أسمعُ شجار والديَّ كالعادة.. كنتُ أسمع أمي تقول:

– أرجوك غادي لا تفسد الأمر والتزم بما اتفقنـا.

– ‏حسنًا حسنًا رويدك يا امرأة!

– ‏إذًا كما أخبرتك ودَاعًا.

وحينها سمعتُ صوت إقفال الباب، نهضتُ من الفراش فغسلتُ وجهي ثم جهّزتُ نفسي، وذهبتُ لأبي؛ لإخباره أني جاهزةٌ فوجدته بثيابه الطمرة فسألته في حيرة:

– ألم تخبرك أمي؟

– ‏بلى يا صغيرة لنذهب

لم يكتسِ قميصًا أنيقًا أو سروالًا يسترُ ما ظهر من قدميه القذرة، ماسكًا قنينة النبيذ يعبق منه أريجُ مقيتٌ من بُعد أمتارٍ فكيف حالي أنا المُلتصقةِ به؟!

أمسك بيدي وعندما أفلتها صاح كأنه هدير النّهرِ في فيضانه:

– إن لم ترغبِي بكسر يدكِ فلا تفلتيني مُجدّدًا

أحسست بالخجلِ واشتهيتُ الاختفاء من هذا العالم البائس الجمـيع يظنُّ أنَّ الطَّيرَ المسجونَ يُغرِّد، وحدي من سمعتُ بُكاءه وشاطرتهُ إيّاه، ما كدت أفتح فمي حتّى أومأ إليّ بيده أن أسكت واضعا سبّابته على فمهِ.

أدركنـا المدرسة وكلّ الفتيـاتِ يَنظرنَ إليّ بتمعّنٍ واحتقار، بينما كان أبي غارقًا في القهقة ومُغازلةِ فتياتِ الثانوية وبعضِ المُعلماتِ، شعرتُ بالعارِ والخزي الشديدين، إنه أسوء شعور وحوله أحزاني تدورُ.. دخلتُ الفصل وكافةُ الطلّاب يرقبونني بنظرةِ إذلالٍ وازدراءٍ كمن ارتكب رذيلة أو فضيحة جلستُ على المقعد بجانب صديقتي صفاء فنهضت بحجة أنها لا ترى من هذا الكُرسِيِّ، علمتُ أنها تكذب لم أرد إجبارها على شيءٍ فصيحَ انتهاء الحصص الأولى وبدأ الاستراحةِ كنتُ أتبعُ صديقاتي فينفرن منّي ثم صارحتني هنادي قائلةً باستعلاءٍ:

– ذاك والدكِ صحيح؟

– ‏نعم لماذا؟

– ‏اسمعي لجين انتهت صداقتنـا لا يشرفنا أمر كهذا إلى اللقاءِ.

تسمرتُ مكاني مصدومةً مُتفاجئةً دون أن أنبسَ بحرفٍ كجمادٍ ثم لاحَ لي من بعيدٍ شخصٌ يعصره الغضب والغيظ أيقنتُه أبي، اقترب شيئًا فشيئًا حتّى جزمت أنه هو أخذ بيدي يجرني جرًّا عنيفًا، فأخبرته:

– على رسلكَ يا أبي ماذا هُناكَ؟

– ‏هيا أيتها العاهرة فقد طردونـا من هذي المدرسة المرجومة.

– ‏لكن حقيبتي لا زالت في الداخل ولم ينتهي اليوم الدراسي بعد!.

– ‏ألا تفهمين يا غبية لقد فصلوكِ!

تتوالى الأخبار السيئة وتأبى التوقف، كان هذا النبأ كالمطرقة تطرق مسامعي لم أعد أفهم ما يحصل فالدنيا عافت الوقوف معي، امتنعت أن تزملني، احتجت أن تضم جروحها في قلبي، أطفأت نور دربي، تجرعتُ كأس الغم والقنوط خلف الستّار، ناديتُ الهمّ راجيةً أن يأتي للنضارِ، تقتُ ابتسامة لكنها احتجبت، أريد أن أواصل لكن قواي وهنتْ، رجعتُ للمنزل وأغلقتُ عليّ باب الغرفة، ازدادت حالتي تأزّمًا وانتابتني وحدةٌ وكآبةٌ، سيطرت عليّ رغبة عارمة في الانزواء والهروب من أعماقي المتمزّقة وكلّما أوغلت في وحدتي أحسست بألمٍ مريعٍ، يتمشى في قلبي حزنٌ عتيق بين آمالٍ مُهشمةٍ، بدت لي الغرفة ضيّقة، موحشة، وانكمشت بصورة مضحكة داخل فراشي، بين أربعة جدران، وأظلّ السّاعات الطّويلة شاردة الذّهن، لا أكاد أستقرّ على حالٍ حتّى رجعت أمي ليلًا.. عندما علمت بما حصل، وانطلقت الألسنة تقذف السّباب والشّتائم بشتّى أنواعها، باشرت تتعالى الصّيحات والهمهمات والتّهديدات المختلفة من كلّ جانب عقب كل ذلك طلبت أمي الطلاق ورفض أبي ناهيًا لكن أمي أصرت وألحت قائلة:

– لا أستطيع التحمل أكثر من هذا علينـا الطلاق انتهى الحديث.

 دفن أبي غضبه في أعماق نفسه، وارتدد إلى طبيعته الأولى خلدت أمي للنومِ حينما تلصصَ أبي فتلقّف السّكين وأخذ يقترب من غرفتي مرّت بي أشباح فاهتززت سمعتُ صوتًا يجيءُ من بعيدٍ يخلج الصّدر، ‏ازداد الصّوت حدّة وشدّة، فأحسست نهايتي قد اقتربت بغتةً وعلى حينِ غرةٍ يضرِبُ الباب بقوةٍ، توالت الضرباتُ وكأنه يضرب كيس ملاكمةٍ إلى أن تخلخلَ القفلُ وفُتِح الباب، سرت في جسمي من قمّة رأسي إلى أخمص قدميّ رعدة كانت أعنف ما يمكن لأوصالي ينظر إليّ بقساوةٍ وهو مشبع بالغضب والحقدِ، استيقظت أمي أثر الضربات العنيفة على الباب وأقبلت راكضة فزعة اختلط عليها المرُّ فلم تدرك ما تفعلهُ، كانت تمسكهُ محاولةً جرّه خارجَ الغرفةِ دون طائلٍ وهي تصرخ:

– ‏اركضِ صغيرتي بسرعةٍ

لا أعلم ما حصل حينها لكن الأدرينالين تدفق في عروقي ورحتُ أجري كلاعبِ أولومبياد، دفع والدي بأمي على الحائطِ بينما كنتُ أحاول عبثًا فتح باب المنزل والهروب، لم أكن أعرفُ المفتاح الصحيح جرّبتُ جميع المفاتيح ولم يتبقى سوى واحدٍ في تلك اللحظة كنتُ أراهُ يهرولُ معجلًا إليّ، أمسكني وجلس على معدتي، قبض على يدي بركبتيهِ وكشف عن سكينه فبصقتُ في وجهه فضربني كفًّا جعل أطراف أصابعه تترك أثرًا في وجهي ثم قال:

– أتساءل بماذا أشرع في تشريحكِ …

رسمَ ندبةً في خدّي بينما كنتُ أصرخ ألمًا بأعلى صوتٍ أمكنني فإذ بأمي تداهمهُ وتأخذ كُرسيًّا فتكسره على ظهرهِ تعلّقت بيدي وهربنـا من هذا البيت الرجيم.

رُغمَ قيامَ أبي بكلّ هذه المساء إلا أن أمي لم ترفع عليه أي قضية واكتفت بالطّلاقِ، سُوّيَ الأمرُ وانتقلنـا لشقةٍ جديدة ولم يكن ذلك جديدًا فقد اعتدنـا على التنقل بسبب عملِ أمي كما أعدتُّ الترحال بين المدراس.

تسربت سنواتٌ من بينِ يدي مسافرةً على جناح الحلمِ لكني لم أخطو خطوة واحدة لتحقيق حلمي، أنا الآن في السّادسة عشر، أبت أن تترَك أمي ترتيب الأغراض والحاجيات ليومِ الغد لكونه اليوم الأوّل في المدرسةِ حينما أتت لتوقظني فقد تأخّر الوقتُ وعليّ تجهيز نفسي وتناول الفطورِ سريعًا.

كانت السماء متلبدة بالغيوم ونزلت الأمطار كأفواه القرب، تبدو كأنها سحبٌ عابرة لكنها لم تنقشع ولم تزدد الأمطار إلا شدة ولم يزدد الرعد إلا قعقعة وقصفًا لكأنّ الدّنيا مجنونة ومولولة، تصرخ وتقفز وتمزق ثوبها بيدها وتشق حنجرتها بصراخها، ازداد الرّعد قرقعة وألهب البرق واستشرى، وأغدقت السماء وجادت، فعصفت الريحُ وثارت وتدفّق السّيلُ.

لم أستطع إقناع أمّي أنه من الاستحالة الدّراسةُ في هذا اليوم كانت عنيدة بشكلٍ لا يوصف!، عندما وصلنـا المدرسة كانت مغلقةً كما توقّعتُ ولكننـا وجدنـا فتاةً تقفُ أمام بابها تنتظرُ، فتحتُ الشبَاك فسألتها أمي:

– لمَا تقفين وحدكِ في هذا الصّقيع؟ اركبِ سنوصلكِ إلى بيتكِ.

كانت فتاة باهرة الجمال وحسنة الخصال والأخلاق عيناها زرقاوان بلونِ السّماء وفمهَا دقيقٌ كأنه البدرُ، اسمها ناهد كأنها طفلةٌ، لهجتُها في الحديثِ، اشراقةُ وجهها بتلكَ البراءة والسذاجة نقيدي تمامًا فقد كُنتُ كنجمةٍ مُطفأة في سماءٍ مظلمةٍ بليلةٍ تبرقُ بالسواد القاتمِ كانت خفيفةَ الحركة كأنها ظبي بينما كانت حركتي مُتثاقلةً وكأن قدميّ سلسلةً حديدية تربطهما، ثمَّة طريقة واحدة لتجنُّب الشعور بالحزن، و هي أن تشغل نفسك لدرجة ألا يكون لديك وقت فراغ لتسأل فيه نفسك عمَّا إذا كنت سعيداً أم لا! وهذا ما كنتُ أفعله رغم اعتقادي أن عدد النسَاءِ اللاتي قتلهن الحزنُ أكثر من عدد الرجال الذين ماتوا في الحروب

فلا أحَدَ يَتَغَيّرُ فَجْأةً مِنَ النّفْس للنّفْس، كَلّ مَا فِي الأمْرْ أنّنَا فِي لَحْظَةٍ مَا نُغْلِقُ عَيْنَ القَلْبِ وَنَفْتَحُ عَيْنَ العَقْلِ فَنَرَى بعُقُولِنَا حَقَائِقَ لَم نَكُن نَرَاهَا بقُلُوبنَا، فِي الحَيَاة ما يَسْتَحِقُ الدُمُوْع، الابْتِسَامة، البُكَاء، الضحِك، التضْحِية، التنازل لَكِن لَيْسَ فِي الحَياة ما يَسْتَحَقَ الذُل!، فقَد نَهربُ لِلنَوم رَغبَة أنْ نَخْرُجَ مِنْ جَسَدِنَا لِنَعِيشَ عَالَمَ الأحلام لِنُصبحَ بثُقلِ الهَواءِ بلاَ وَزِن وَلكِن مَا أصْعَبَ الاستِيقَاظْ عَلىَ واقِعَ تَعيس وَ مٌرّ وما أصعبَ على الجناحِ أن ينسى كيفَ يطيرُ وما أقسى على السّماء أن تبعد ذراعيها، فلا بأس إن جفت سواقي الأرض عن تلك الزّنابق وانحنت ظمأ لموردها الرقيق، أو إن تجعدت الضفاف الخضر كالجذع العتيق، لا بأس فحتما يوما سوف تغتسلُ المروج بحلمها المخضر، تزدهر الدروب وينطفئ سرج المتاعب، ثم تعلو ككراتِ نور في فجر أنيق وتتلو على المضعفين حكايا السماء.

مكثنَا في المنزل قرابة ثلاث أيام حتى انجلت الغيوم وبزغت الشمس ترحبُّ بنـا ترجلتُ خارج المنزل مُنصرفةً للمدرسةِ فالنهار يخيط لي بدلة الأحزان لأرتديها في الليل وعلى موسيقى البؤس نرقص أنا ووحدتي، ‏إنني أتساءل باستمرار عن معنى حياتي؟ عن معنى هذه المشاعر والأفكار، عن معنى الأيام العادية التي تلتصق بي، عن الصديق الذي لم يعد موجودًا، عن الأحلام التي تختبئ تحت وسادتي، عن النظرات التي في وجوه الغرباء، عن الطريق الطويل الذي ما زال ينتظرني عن الكثير من الأشياء العالقة في داخلي، كالعادة لم يكن هناك شيءٌ جديدٌ في المدرسة، كنتُ مع ناهد في فصلٍ واحدٍ نقعدُ بنفسِ المقعدِ.. كانت تُحدّثني عن هوايتها وشغفها في القراءة وحبها لروايات “أجاثا كريستي” وحلمها في أن تُصبحَ كاتبةً، كانت مميزةً في حصّةِ اللغة العربية تجيبُ على جميعِ الأسئلة وتُغششني في بعضها لأجيبَ أيضًا..

مع مرور الأيّامِ كُنّا أعز صديقتين أحببتها من قلبي كانت مرحةً وبشوشةً تتميز بروح الدعابةِ حلوة الكلام، لطيفة العشرة، طيبة القلب، نقية السريرة، مخلصةً وفية لا تفارق الابتسامة ثغرها وتزرعها أينما حلت، أظنها أزالت عنّي كآبتي وأزاحت الغشاوة على عينيّ، طمست إنزوائي كالقوقعة بعيدًا عن الناس، علمتني كيف أعيشُ بسعادةٍ وأتغاضى عن كل ماهو كريهٌ، ثم ذات يوم أثناء عودتنـا من المدرسة أفزعتني حين سحبت يدي وظلت تجرني خلفها بسرعةٍ حتّى سقطتُ:

– على مهلك!، ماذا هناك؟

– ‏هيّا بسرعة سأريكِ شيئًا جميلًا ..

استمرت في جري بينما نقطع الطُّرقات حتى وصلنا المكان المنشود، كانت شجرة عملاقة يظهر في هذه الشجرة عبق الطبيعة، وتاريخ قديم، تحمله جذورها المغروسة في أعماق الأرض هي شجرة كبيرة جدًّا، ويحتلُّ جذعها مساحةً واسعةٍ لها ظل واسعٌ تمتد إلى أعالي السماء في شموخٍ وبهاءٍ وكأنها تتحدّى تلكَ الرياح التي تراقصها فتتمايل تارةً شمالا وأخرى يمينًا، تتفاخر بجمالها وينوعتها وصلابتها، إنها شجرة ليست كأي شجرة مميزة عن نضيراتها، يجذبك فيها لونها الاخضر الممزوج مع الفستقي واللذان بدورهما يتناسقان مع اللون الاصفر الباهت ليضفي عليها رونقًا وجمالا كبيرينِ متربعة على حلة خضراء.

– أتعلمين يا لجين، كنتُ آتي إلى هنا مع أمي ونستمتعُ سويًا..

– ‏ولما لا تفعلان ذلك الآن؟

– ‏توفت أمي عندما كنتُ في التاسعة بسببِ سرطان الرئة وأنا الآن أعيشُ مع خالتي.

– ‏وماذا عن والدكِ؟

– ‏اه والدي لم أره في حياتي فقد توفّى بحادثِ سيرٍ قبل ولادتي

– ‏كم هذا مؤسف!

– ‏رغم ذلك لستُ حزينة فخالتي تحبني وتمنحني الحنان الكافي فسنّةُ الحياة هي أن تمنحكِ شيءً وفي المقابل تسلبكِ شيءً أكثر أهمية.

أحيَانًا آتي إلى هنا وأسمّيها شجرة الذكريات أيعجبك الاسم؟

ابتسمتُ وأجبتُ:

– بالتأكيد.

كنتُ أرى دفء الرؤى في عينيها، نبضٌ رقيقٌ عازفٌ، حينها قالت:

– ما رأيك أن نتعاهدَ هنَا على صداقتنا؟

ارتسمت الحيرة على محياي وعقدتُ حواجبي مستغربةً وسألتها:

– عهد صداقة؟؟؟؟!

أردفت ضاحكةً:

– نعم، هاتِ اصبعك الخنصر

فشبكت أصابعنا وقالت مبتسمةً:

– أتعاهد أن أكون صديقتك للأبد.

فراق هنيهةً سألتها:

– ناهد فقدت والديْكِ ورغم ذلك لا تنفكين تبتسمين! من أين لك كلّ هذه القوة؟

تنهدت قليلًا ثم قالت:

– وعدت أمي حتى عند فراقها سأبتسم ولن أدع الحياة تحطّمني أو تُعيقني دقيقة واحدةً.

– بالمناسبة لم أسألك عن تلك الندبة في جبينك ..!

– ‏آه هذه لا أحب تذكرها لكن سببها أبي

– ‏هكذا إذًا

ثم أرتني دفترها وقالت أنها تحلمُ بأن يكون هذا الدفتر كتابًا مطبوعًا ذات يومٍ.

ثم تحدثت قائلة:

– إلى حلمي المحلق في الأفق الرّحبَ عهدًا مني يا عظيمُ سنلتقي.

فراق ذلك ذهبنا إلى السينما لمشاهدة فِلْمٍ زعمت أنه مرعب، كانت القاعة آية من آياتِ الجَمَالِ جُدرانها تزينها نقوش فنية بديعة أما أرضيتها فهي مغطاة بأجمل وأرقى السجادات، فهذه الأعمدة الفخمة ذوات النقوش المذهبة وسقفها ذو القبة العالية بالأضواء المختلفة ومقاعدها الواسعة المُريحة انطفأت الأنوار وعم السكون وأشعت العيون فصيح انتهاء الفيلم عادت كل منا إلى منزلها.

أَفِلت أشهرٌ كانت في غاية السّعادة، مساءَ يوم الأربعاءِ كان هاتفي يرن وعندما رأيتُ المتصل وجدته “ناهد” لسببٍ ما لم أرد فبعثت برسالةٍ فحواها:

عزيزتي أريدك في أمرٍ ضروري عندما تتفرغي عاود الاتصال بي.

صباح يوم الخميس كنتُ أتصل بِها مرَارًا وتكرَارًا دون جدوى فهي لم ترد على أي مكالمة وهذا ليس من خصالها كانت ترد على الفور!، عندما تصفحتُ صفحتها شاهدت إحدى صديقاتها نشرت”آه يا ناهد كم إن الموت غدّار فهو يفترسنا دون تنبيه من كان يعلم أنك ستفارقيننا في هذا العمرِ رحمك اللهُ عزيزتي، دهستها سيارةٌ شاردة تقود ليلًا دون أضواء لم تبصرها فقطعت الطريق وكانت النهاية.  كنتُ أرى التعليقات:

ارقدِ بسلامٍ، اشتقتُ إليكِ، كم إن الفراق صعبٌ، رحمك اللـه صديقتي.

أحسستُ أن المكان لم يعد يسعني، شعرتُ بضيقٍ رهيبٍ، فأدركت حينها أن هذه الوحشةُ التي وُضِعت بِي أكبر من أن يتسللها الإطمئنان، أرسلتُ دموعًا في صمتٍ عميقٍ لم أكن أستوعب ما يحصل، عدتُّ لما كنت عليه في السّابق انعزلتُ في غُرفتي وأغلقتُ الباب، حضرت أمي وطرقت حتّى كلّ متنها ثم قالت:

– عزيزتي إن ما تفعلينه غير صحيح، أخبريني بسرعة ماذا أصابك؟

– ‏صديقتي ناهد توفيت ليلة أمسٍ، صُعقت أمي من الخبر وتحدثت بلهجة حزينة:

– ‏أتعتقدين أن ما تفعلينه سيُفرحها؟ لا أستطيع المكوث أكثر فقد تأخرتُ عن العملِ، لكن فكّري بما أخبرتك.

لم أفهم ما قالتهُ، وشعرتُ بالندم والذنب لعدم الرّد عليها ماذا أرادت إخباري يا تُرى لو أني ردت عليها ورفضت خروجها تلك الليلة لما حدث ما حدث عضضتُ أناملي وضربةُ كفي ندمًا على ما فعلت، واحتقرتُ ضميري وفي حلقي غصةٌ ومرارة وفي نفسي عذابٌ جارحٌ وألمٌ مبرحٌ أشعر أنّني كلمات بدون أحرف وذكريات بدون ماضي.. أشعر أنّ وحدتي ستقتل إحساسي بهذه الحياه فأنا اعتدها تخالج مشاعري بل تتملكني،  كل ما بداخلي تحطم وتبعثر أصبحت اشلا تناثرت فوق صفحات البحر.. ربما الخوف من المجهول يسكنني وتلك الدمعات تأسرني ولكنّي فقدت إحساسي بالأمان وثقتي بالأزمان.

الفراق حزن كلهيب الشمس يبخر الذكريات من القلب ليسمو بها إلى عليائها فتجيبه العيون بنثر مائها لتطفئ لهيبها، الفراق نار ليس للهبه حدود لا يحسه إلّا من اكتوى بناره لسانه الدموع وحديثه الصمت ونظره يجوب السماء

هو القاتل الصامت والقاهر الميت والجرح الذي لا يبرأ والداء الحامل لدوائه كالعين الجارية التي بعد ما أخضر محيطها نضبت، غريبة هِي الأيام عندما نملك السعادة لانشعر بها ونعتقد أنّنا من التعساء ولكن ما أن تغادرنا تلك السعادة التي لم نقدرها حق قدرها احتجاجًا ربما علينا حتى تعلن التعاسة عن وجودها الفعلي فنعلم أنّ الألم هو القاعدة وماعداها هو الشذوذ عن القاعدة ونندم ساعة لايفيد الندم على ما أضعنا وما فقدنا.

نهضتُ ذاهبةً إلى شجرة الذكريات، أبصرتُ على حسونًا ذهبيًا يتحرك برشاقة فيهتز ذنبه المخطط بالأصفر والأبيض والرمادي أو ينكت صدره بنمقاره الدقيق ويشدو بصوتٍ حزين، لا تقلق فحزننا واحد، استلقيت هناك

فرغتُ كل ما في جعبتي من كلامٍ وهمومٍ كأنما الشجر بشرية تسمع وتفهم ما يقال لها تارةً أغضب من سكونها وتارةً أخرى أضمها من الألم أتساءل ترى ما يكون شعورها ترى ماذا لو كانت تتكلم..؟!

كنت حزينةً جدًّا، وفجأةً أحسست بشعور غريب بدأت أوراق الشجرة تتساقط فوق وجهي، ظننتُ ذلك من فعل الرياح وبعد برهة اتضح لي أنها ليست الرياح إنما كانت دموع الشجر التي كانت تبكي، تغاضيت عن سقوط الأوراق وباشرت أكلم نفس إلى إن تردت إلى مسامعي أنات من الحزن فراودتني مخيلتي أنها أنات قلبي من الحزن فزحفت بجسدي إلى الأعلى مستندةً إلى جذع الشجرة لعل الصوت يختفي ولكن دون جدوى وكان الصوت يقترب شيء فشيء حتى بت أسمعه من خلفي وارتأت عيناي أن ترى إلى الخلف ظن إن تكون هذه الأصوات تحمل ما لا أريد سماعه، ودونما شعور أدرت وجهي لأرى فلم أجد شيء ولكن الصوت لازال يترنم في مسامعي أمعقول هذا أن تبكي الشجرة أيعقل ذلك؟

تنهدتُ بصوت حزين وشعرتُ كأنها تريد تذكيري أو إخباري بشيءٍ، تجمدت كصخرة تصفعني الريح لتقوضني هلمي وتمايلي معي نرقص ونمرح، ولكن ألم الفرلق يبس أطرافي النضرة وبعد رحيل الريح أتتني تلك السحابة ساخرة مني تقول لي:

– هيّا أين صديقتك التي كانت تحضر المظلة فتحميك من قطراتي؟، انزعي عنك ثوب النضارة والبسي صفرة حزن لمن رحل قبل إن يلبسك صديقي البرق ثوب السواد، كأني بت في صحراء قد سقطت بعد عناء، في تلك اللحظة استذكرتُ ما وعدتُّ به ناهد آنذاك، استجمعتُ قوّتي وابتسمت وقطعتُ عهدًا على نفسي أني سأحقق حلمها مهما كلفني الثمن، شكرتُ الشجرة وقبل مغادرتي حركت أغصانها كأنها تودعني.

عملتُ جاهدةً طول سنتين حتى جمّعتُ المبلغ لطباعة كتابها وعندما خرج للنور، لاقَ رواجًا واستحسانًا مذهلين تنم عن موهبة فذة رغم صغر سنها، سطع نجمها بشدة وخلدته بين الكُتّاب الذين ترفع لهم القبعة على الرغم من إصدارها لكتاب واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى