فكر

الشاعر الفرنسي جول سوبرفيال صانع العالم الشعري

1884 - 1960 Jules Supervie عالم المماثلة والمشابهة والتطابق

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

ما عرفتُ قلباً شبع من الحب، ولا عرفتُ عقلاً شبع من المعرفة.فالشبع غير التخمة .وقلما تََوجْدنَ كالرومانسيين، وقلما تَعقْلَنَ كالبرناسيين، وهو الذي كان له من يُتْمِهِ قدرةٌ كونيةٌ على الحُبِّ تتسعُ للكبير وللصغير. بل إنه كان وصَّافةً على غير إسفاف إلى مستوى النثر، وكان روايةً لما أسَرَّ الكون به إليه، لا تبح حنجرته الغنائية ولا ينْضُبُ معينه الصافي. وكأنه أراد أن يرفعها علماً وهرماُ للمعرفة المتجذرة الدفوقة النسغ التي لم تباعد بين الأراغوي بلده الأصلي وفرنسا أي لم تباعد بينه وبين حياة الإنسان، ولم تقتصر على طرفٍ تحتشد عنده جيوش الصور والاستعارات والتشابه، ويعبئها فرساناً وعبيداً وجنوداً مغمورين ،وسادة ً ورعاعاً.
إنه الشاعر الفرنسي الكبير جول سوبرفيال الذي وُلِدَ في(مونتيبيديو- الأرغواي) عام 1884 ومات في باريس عام 1960. وهو الذي فَقَدَ والده وهو لما يزل في العش ولم تقوى أجنحته بَعْدُ على الطيرانِ،درس في بداية حياته في باريس، وتوزعت حياته بين الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب فرنسا ،نال جائزة الأدب الكبرى من الأكاديمية الفرنسية، وانتُخِبَ أميراً للشعراء بعد وفاة بول فور . فهو من عرف اليُتمَ، وأضيف أنه عرف الُّلطم كذلك ، كما عرف الهجرة والمَدَوات البعيدة ، وعرف المحيط وما وراءه، بل عرف في صدره قلباً واهياً، يخفق ويتوقف، فتتوقف على خفقانه حياة شاعرنا ومسامعه الداخلية في إنصات طويل ، عميق، فهل نرد جميع عوالم سوبرفيال الشعرية إلى هذا الداء الذي يضع له قلبه على كفِّه، فما من خفقةٍ إلا وتُحصى . مما دفع الشاعر هنري ميشو أن يقول عنه: (إنَّ جول سوبرفيال يذهب في بحثه إلى أبعد – أي إلى أبعد من المسافات التي يقيمها الاغتراب وتمدها السماء – كأنما يحدوه حنين إلى المسافة، هذه المسافة التي تمدد أشعاره وتتخطاها، فهو يبحث عن غياب جوهري يتوقعه بحدسه، غيابٍ يلفُّ الحضور فيتحدان). وهكذا نجده يبحث عن تكوين جديد يستخدم فيه الأساطير ويستند على الأسطارات، حتى تكلم بلسانه تعالى، وأنشد تكوين العالم في قصيدته الرائعه (تكوين) التي يقول فيها :
كان لا يزال راشحاً بالنهار الذي نفض يديه من بَرْئِهِ
كذلك الذي لأوّل مرّةٍ ينيره ضياء ليس من ضمنهِ،
إنه اللهُ ،كان يجوب العالم بخطاه الآمرة ،
تتبعه على مسافة من الاحترام ، شمسٌ تتألَّقُ امتناناً
وكانت الشمس تتأمَّلُ باليدين أطلقتاها من الظِّلِّ ،
فتراهما كمثل ما ترغب .
** **
وكان فَرَحُ المبروءاتِ يرنُّ نسيقاً
حتى ليُقالُ إنَّ كلِّ كائنٍ قد استنبط ألوانه الخاصة
وكان العشبُ أخضرَ ، والسماءُ زرقاءَ ، والغيومُ بيضاءَ وقاتمةً ،
وقوسُ قزح كانت تتلمع بألوانها كلِّها في آنٍ واحدٍ
وكلُّ كائنٍ ، عبرَ الأجيالِ ، كانَ عليهِ أنْ يحتفظَ بالثوبِ الجديدِ الذي كان له في اليوم الأول .

لقد عاش جول سوبرفيال حياة اليتم القاسية التي انعكست على نفسيته ومن ثم على شعره، فاليُتْمُ والمَدَوات والغربة والفؤاد المريض، إنما بالنسبة إلى جول سوبرفيال دلالة على غياب يتطلَّبُ حضوراً ، أي على روحٍ تبحث عن جسد، أو عن شمعةٍ تنير له الدرب دون أن تحترق يداه ، يقول في قصيدة( الشمعة ):
كل حياته أحبَّ أن يقرأ في ضوء شمعة
وغالباً ما كان يمرُّ بيده على شعلتها
ليتأكَّد من أنه كان يعيش منذ وفاته
يضع قربَهُ شمعةً مضاءةً
لكنه يحتفظ بيديه مخبأتين .

لقد كان الجسد محورٌ أكيدٌ في شعر سوبرفيال، متشابهاً في روح نصوصه مع الشاعر بول فاليري، وهو الذي يشدّه إلى الواقع وإلى التجربة التي تُعاش، من هنا يصبح العالم الشعري عالم مماثلة، ومشابهة وتطابق، لا عالماً يغيب في الرموز والأساطير ، ذلك دون أن تخشن القصيدة وتتخلى عن إثيريتها الناعمة . فهو يرى الجسد محورٌ وليس إطاراً . إنه وحده الأساس . وإنَّ تجويفه الجهوم فؤاداً، وإنَّ لسوبرفيال أكثر من أُذن تقف لخفقات الفؤاد بالمرصاد، حتى ليندر أن نقرأ له قصيدة دون أن نقع فيها على ذِكر الفؤاد، على فؤادٍ أو مفؤود !!!! يقول في قصيدته ( القلب والعذاب):
راجفاً كان ذا الجنان ليدري أهو منها أم منكَ أنتَ جنانُ
قد أغذَّ الفرارَ واحتبس النُّطقَ فلم يبقَ للجواب لسان ُ
لا تسائلنهُ أنتَ دعْهُ وحيداً يحتويه من الظلالِ مكانُ
وتظاهر بأنَّ عينك لا تلحظ ُ ما فيه من غرامٍ يَبانُ
هاكه كيف يستميتُ شَغولاً تحت عينين منهما الألوانُ
تتوالى ، وهناك في بيتهِ اللحميّ كيف استحثَّه خفقانُ
إنما بيته النوافذُ فيهِ موصداتٌ ، ليلاً نهاراً تُصانُ
فيخالُ السماء تؤأمَ نجمٍ هي والبحرُ ، فالزمانُ أوانُ

نعم هو يريد القصيدة أثيرية دون أن تكون هوائيةً أو عفويةً . فالسرُّ الذي يجلببها هو سِرُّ الإنسان ، لذلك كانت ملامستها حرارة الحياة لا صقيع الممات. ولذلك أيضاً كانت تنشرح لنا على عمقٍ وكثافة ورجحان . وهي ليست ملغّزَةً لأجلِ الإلغاز. فقد قال جول سوبرفيال: (يجب ألا تكون القصيدة أحجية . ليكُن السرُّ عبيرها ومكافأتها . أما أنا فقد رفضتُ دائماً أن أكتبَ الشعرَ للذينَ يتخصصون بالأسرار) .الواضح هنا أنَّ الشاعر الفرنسي جول سوبرفيال لا يلتصق بالواقع الذي عاشه بمراراته وقسوته وحرمانه ويتمه واغترابه ، يقول في ذلك : ( كل ما يمتنع عن الشاعر محرَّماً في الحياة ، يسهل عليه في شعرٍ شفاف. وبينما تحتاج الجنية إلى عصاً سحرية ، ويحتاج الساحر إلى أداة مسحورة، يكتفي الشاعر بما في رأسه من كلمات لكي يهب نفسه ما هو بحاجة إليه . أيعوزه الماس ؟؟؟ إنه يأخذ منه الأجمل…. أتعوزه العاصفة ؟؟؟؟ يتناول أكثرها توهجاً . بساطاً طائراً يريد؟ يصبح هو طائراً . فالشعر بالنسبة إلى الشاعر ، إنما هو الفن الذي معه لا ينقصنا شيئ مما نريد) . يقول في قصيدةٍ جميلةٍ له :
أيها البابُ ، أيها البابُ ، ماذا تريد ؟؟
هل هي ميتةٌ صغيرةْ
تختفي ثمة وراءَكْ؟
لا ، إنها حيةٌ ، تضجُّ حياةً ، ها هي الآن تضحك فتضمحلُّ المخاوفْ
وجهٌ يلوحُ ما بينَ بينْ ،
وجهٌ يلوحُ ما بين دربينْ ،
إنه، فوق ما يؤمَّلهُ المرءُ ، وقد فرَّ هارباً من غيبوبةْ .

يعتمد الشاعر جول سوبرفيال في نتاجه الأدبي على كتابة النثر الجميل الهادف ، حيث تتدفق روح مشبعة بالصور المتلاحقة والإيقاع الرتيب ، والموسيقا الحزينة تارةً، والفَرِحة تارةً أخرى، فهو المالك لأدواته الشعرية وإنْ كتبَ نثراً ، كما أنَّ لغته الفيّاضة ومراجعاته اللفظية القابعة وراء الماضي والحاضر تفتح البوابات الروحية أمام سرير النهر الشعري لتتدفّقَ كلماته وألفاظه وإيقاعاته المتتالية، يذكِّرنا بشعر الشاعر الفرنسي الكبير شارل بيغي ،والشاعر فرنسيس جام على بساطة وصفا طوية لا تنطوي إلا على السائغ الناعم الذي يهمس ولا يجهر . وهو – أي جول سوبرفيال– من أكثر الشعراء الذين تمرسوا بمغامرات شعرية جديدة كانت تدور في الأعم الأغلب، حول طاقة الكلمة المتفجّرة وشحنتها الحرارية، فمنذ أن نضج شاعرنا وانتفض ضد اليتم والغربة والاغتراب بدأ صوته يترقرق ناعماً طرياً على منحدرات الشعر الفرنسي التي تتآكل بالحرِّ واللهب، فهو صوتٌ قادمٌ من البعيد البعيد، مثير ، شجيِّ ، مرح ٌ ،تتهادى كلماته في صلاة للمجهول منطلقاً من بساطة الإنجيل في تحدثهِ عن العَشَّار في قصيدته: (صلاة للمجهول) يقول فيها :
ها إنني أُفاجئُ ذاتي متحدّثاً إليكَ،
يا إلهي ، أنا الذي لا أزال اجهل هل أنتَ موجود،
ولا أفهم لغة كنائسكَ الهامسة ،
أنظُرُ إلى المذابح والى قبة بيتكَ
كمن يقول ببساطة: (هذا هو خَشَبٌ، وهذه حجارة ، وهذه أعمدة رومانية ، وهذا قدّيس ينقصه الأنف، وفي الداخل كما في الخارج يتربَّعُ شقاُ البشر) .

    إذا كان المِرانُ والدرايةُ وسلطنةُ العقلِ والاحساسِ هي التي ترشد الشعراء الآخرين إلى مواطن الإبداع الشعري، فإنَّ جول سوبرفيال مدين بذلك جميعه إلى ماويَّةٍ مقحامة، كما يقول غايتان بيكون، لقد حصل على تفويضٍ من هذه السلطة التي تخلق وتقيم العوالم. آثاره أوسع من زمانه وهو يُنشِدُ الحُبَّ بكلماتٍ من حُبٍ، حيثُ يقول في قصيدةٍ بعنوان (حُب) :
هذا اللون كان لون عينيك ِ
وهذا النسيمُ العليلُ كان نسيمكِ أيضاً
لكنَّ الطرقات التي تمضي من الأمس إلى اليوم
تطئينها دائماً بأحصنتكِ الفتية
التي عادت لا تنتهي من جريٍّ
يكاد باستمرار
أنْ يَمُرَّ عليَّ

نبرة ناعمة على شجن ، رومانسية الأداء والعاطفة تردنا أعواماً إلى الوراء ، وهل الشعر في الجدة أكثر منه في الغوص إلى أعماق الذات حيث تلتقي عواطف الطبيعة البشرية بالحب، حيث تخطر رومانسية الحب وتنتقل وتتمايل في الشعر الفرنسي كعروسة الشعر الدائمة التي إنما هي الحب. الحب الذي يتجلى في ثنايا قصيدة جول سوبرفيال وفي قصيدته الرائعة:(أبيات ترتعد من رؤية النهار)؛فالشاعرية هي الدهشة أمام معطيات الوجود والوجدان، أو إنها ردُّ الكثير من المعطيات البدئية قبل أن يتناولها العقل المحلل الواعي ، من طريق الكم والكيف ، لتبقى الزهرة على أنها نزهةٌ للنظر والشم ولمس الأصابع ، وتبقى لنا كلٌ دندنة حيِيّةٍ منغومة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى