قراءة انطباعية في مجموعة ( رهان الغيم ) للأديب السوري: أيمن ناصر

حسن قنطار | شاعر وناقد سوري | تركيا

 

مع (رهان الغيم) يحق للأدب أن يراهن واثقاً، ولك أن تستجم دهراً تحت ظلالها الوارفة دونما ملالة تعتريك، أو شرود يعبث بعكازة التركيز ولو للحظة عابرة.

  • من (رائحة الخبز):

                    أخذ يبتسم لزرازيرَ تهاجرُ في عينيها.

                    ومن وقتها عرفت أن روح الكائنات ليست في ذكريات الأماكن فحسب؛ بل في رائحتها.

  • من (رهان الغيم):

                  تلك الغيمة ستسقط، من يراهن؟ لم يراهنه أحد؛ فالغيم لا يسقط وحده.

وعقرب الساعات كان يزحف قريباً من وحل الثانية بعد منتصف النهار.

  • من (الندبة):

           الأخطاء التي تقترف بوعي ليست أخطاء، بل خيانة.

           وسؤال أزاح الرماد عن جمر ليلةٍ ماطرة في ذاكرة الأستاذ زاهي.

  • من (عناقيد خوف وغضب):

            في اللحظة ذاتها كانت أصابع نورهان تتهادى على كتف زوجها النائم؛ توقظه لصلاة الفجر حين انسلت نصلة ضوء على وجهه عبر شق في ردفة النافذة خالها نصلة سكين، فانشقت عيناه عن رعبٍ أصفرَ فظيع.

  • من (الصعود إلى القمة):

                  لم يستطع النزول من شجرةٍ جعله شخصٌ آخر يصعد إليها، لم أجبه .. تلعثمت.. لكنني بعد يومين كنت أصعد وحدي على الشجرة ذاتها، كان الأمر صعباً لكنني صعدت.

  • من (السقطة الأولى):

            مدت يدها تطلب أجرها، خجلتُ من نفسي وأنا أسقط بضع ليرات معدنية واحدة تلو الأخرى في باطن كفّها … كفّ أول امرأة اقتحمت عذريتي.

  • من (الرجال يبكون أيضاً):

                         وانهارت على صدره مثل غيمة أثقلها وجعُ الماء.

                        لا يا أبي، الرجال تدمع عيونهم، لكنهم لا يبكون، ثم احتضنته وبكيت.

  • من (وجع النوارس):

                لكنني وبآخر رمق لي في الحياة شققت سطح الماء وظهرت لآلاف العيون مارداً يسبح بذراع واحدة، وبالأخرى يجرّ زورقاً من لحم ودم.

من قراءتي المتواضعة حقاً لهذه السعة الرحيبة لغةً وتصويراً وبلوغاً، أقف لتنحني يراعي بملء حيائها بين ذراعي (رهان الغيم).

لعلي على عجالة أنبس بتمتمات خجولة تشي للقارئ عن سحائب سخية نستقي منها إلى حاجاتنا العطشى.

في رهان الغيم:

  • أقرأ اللغة من غير أن أتكئ على عصيّ من الكلمات الصلبة، ولا إغماضات المجاز المحيرة، لكنها العذوبة التصويرية التي تجعلك في سباحة ماتعة تتقلب من فسحة إلى فسحة ومن فطنة إلى حكمة دون أن تملّ أو أن تتعثر في وعرٍ أو قفر.

” لم يردّ، كانت شفتاه يابستين مضطربتين. تابعت كلامها بخوف وضيق:

ما الذي أفزع طيور قلبك؟ كأنما كنت تصارع كابوساً مخيفاً، ثم أرخت يدها على كتفه مثل زنبقة “

  • المخزون الثقافي الحاضر في كل قصة: استقراء ضمني أو سردي لتاريخ ما أو فكرة ما أو ملحمة ما … الأمر الذي يرسم في مخيلتك أن الكاتب مكتبة ملأى بتنوع عجيب؛ تعطيك كلما قرأت، وتراهن على سعة إدراكك كلما نهلت.

” إلى أن نظرت امرأة الكونتوار السمراء إلى عصام وقالت”

“أحسست أني ثور إسباني مترع بمتعة مشعة يرهز بحافره قبل الانقضاض على راية خصمه الحمراء”

” لا يغيب عن بالي ما فعلته القوات البولونية من تدمير المتبقي من بابل التي اتخذتها مقراً لها “

  • اللغة الأخاذة التي اصطادها الكاتب تأخذك إلى عالم من الانزياح المريح والمفرح والمذهل في آنٍ واحد؛ ما يجعلك تضحك حيناً وأنت لا تقاوم انفراج عينيك إذا أردت أن تغمضهما تواضعاً.

” يلوكه وحش الندامة لهشاشة جسده الآبق”

” يحطب الغفران من أرصفتها”

” ثمة غيمة شهقت في سماء المدينة”

” كذّبته عصافير الشمس فأغمض عينيه على حريق شب منهما”

” عقرب الساعات كان يزحف قريباً من وحل الثانية”

  • الحس اللصيق بأنس الواقع من غير مواربة إلى التعسف والتكلف في الخيال، ولهجة السوق يداعبها قلم الكاتب، وأحياناً يهزج بأسماءٍ بسيطة ليجعل منها أيقونات حياة مكتظّة.

” ملعون أبو القرحة”

” شمس العصاري”

” دكان أبو عايش العكاوي”

” قهوة يا يمّه”

  • حياكة التفافٍ بديعة بين حكايا الماضي ورصدها في الواقع المكتوب على شكل انتقال سينمائيّ من الحدث إلى مخيلة كاتبه أو إلى شاشة الحاسب (الخطف) ثم استنطاق شخصيات القصة على كرسيّ حكواتيّ أمامك.

” ما إن انتهى الحاج خلف من سرد حكايته وتلاشت صورته عن شاشة الكمبيوتر حتى أتيت على كوب الشاي البارد وانتبهت إلى أنني لم أكتب كلمة مما قال … “

  • المرأة الحاضرة في غالب قصص رهان الغيم، والأجدى بنا أن تشير إلى تنوع المرأة في نظر الكاتب بين امرأة لا تزال تصنع القرار في أسرة ألقت بأعفارها عليها، وأخرى ملهمة لذلك العاشق الذي لا تغادره أطيافها، وثالثة يتوقّد جسدها ليثير أرض الناظر إليها فتحيل قفرها إلى عطاء.

وللكاتب رخصته الخاصة في أن يسوّق ما تكنزه مخيلته من مقاطع قد يخرج البعض منها بلغة جامحة قليلاً مع مزيج من الرهافة واللطافة العذرية الذكية؛ ما يجعل القارئ مشتعلاً إلى آخر القصة دونما أي انطفاء

  • الحنكة الروائية تتمطى في غالب القصص بنفس عميق ومليء كما هي عادة الكاتب فيما أعرف عنه، هذا ما ألزمني أن أسم أكثرها على أنها بداية لرواية جديدة.

أخيراً:

كانت تلك قراءةً انطباعية ترسخت في ذاكرتي لمروري الأول، على أنني لن أعذر نفسي إذا ما أوغلت يوماً ما في أعماق رهان الغيم لأستكشف الأكثر والأجمل فيما تكنزه من حلي ربما تكون مرصودة في أودية هنا، وشعاب هناك.

هنيئاً لنا بهذا العطاء أستاذ أيمن ناصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى