الصورة ومسؤولية الخطاب البصري
د. الغزيوي بو علي | فاس – المغرب
إن التفكير البصري هو محاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة كما قال “أرنهايم” في كتابه “التفكير البصري” 1969 uisual thinking، وقد ميز أرنهايم في هذا الكتاب بين نوعين من المعرفة هما: المعرفة الحدسية Intuitive cognition والمعرفة الذهنية أو العقلية ntellectuel cognition. وتكون المعرفة قدسية في رأيه في المجال الإدراكي، الذي تتفاعل فيه القوى بشكل يتسم بالحرية، ومن ذلك ما يحدث مثلا عندما يحاول شخص ما إدراك لوحة تشكيلية، إنه يحيط بصريا بالمنطقة التي يشتمل عليها إطار اللوحة، ويدرك المكونات المختلفة لهذه اللوحة من أشكال وألوان وعلاقات مختلفة.
وتمارس هذه المكونات تأثيراتها الإدراكية بعضها في بعض حيث تحمل المتلقي ليستقبل الشكل الكلي، باعتباره نتيجة للتفاعل بين المستمع أو المشاهد، ويؤكد أن هذا التفاعل هو تفاعل شديد التركيب. وأن جانبا كبيرا منه يحدث تحت أو أدنى مستوى الشعور، وأن الناتج النهائي لهذا التفاعل يصبح مشهورا به أو مدركا عند وصولنا إلى تكوين مدرك كلي للوحة أو المقطوعة الموسيقية أو العمل الأدبي، ويتم تنظيم هذا المدرك بطريقة مرهفة، كما تحدد طبيعة مكوناته الخاصة من خلال موضعها أو وظيفتها في العمل ككل، ويشير أرنهايم إلى أن جانبا كبيرا من تفكيرنا ومن سلوك جل المشكلات لدينا ينشط من خلال هذه المعرفة الحدسية.
أما فيما يتعلق بالنوع الثاني من المعرفة، وهي المعرفة العقلية ففيها يضطلع الشخص – بذلا من امتصاص الصورة الكلية أو العمل الإبداعي باعتباره كلا متكاملا – بتحديد المكونات والعلاقات المختلفة التي يتكون منها العمل، إنه يصف كل شكل وكل نغمة وكل جملة… ويعد بعض القوائم الخاصة بهذه العناصر، ثم يتقدم نحو فحص العلاقات الموجودة بين هذه العناصر الفردية، ثم يحاول بعد ذلك أن يقوم بالدمج أو التركيب بين هذه العناصر، وهنا يؤكد أرنهايم أنه ليس هناك صراع ضروري بين المعرفة الحدسية والمعرفة العقلية، فالتفكير الإبداعي وعمليات التذوق الفني في الفنون وفي العلوم أيضا، إنما يتميزان بذلك الامتزاج الخاص بين التفاعل الحر اللغوي داخل المجال، وبين الوحدات أو القوى الأكثر امتزاجا وتحديدا التي تظل ثابتة داخل السياق المتغير. لأن المعرفة الحدسية (الكلية التركيبية) والمعرفة العقلية (الجزئية التحليلية) ضروريتان بشكل خاص خلال عمليات الإدراك.
– إيكولوجيا الإدراك البصري:
خلال الحرب العالمية الثانية كان جيمس جبيسون ضابطا في سلاح الطيران الأمريكي، وكان من حاجياته أن يطور أفلاما تدريبية لحل بعض المشكلات الخاصة بإقلاع الطيارين وتحليتهم وهبوطهم، وأدرك سريعا أن ما كان معروفا عن هذه الأمور لم يكن كافيا بالنسبة إليه عن الأغراض التدريبية. فقام بفحص طبيعة المعلومات المتاحة لقائد الطائرة، وخلال ذلك طور رؤيته الخاصة حول الإدراك البصري، التي تقوم في جوهرها على دراسة الخصائص المتغيرة والثابتة في عملية الإدراك البصري، وعلى الخصائص التي أطلق عليها اسم: أنماط التدفق البصري Optimal hop parents، وقد اعتبر هذه الأنماط ذات أهمية كبيرة في تزويد الطيارين بمعلومات هادية حول اتجاهاتهم ومراعاتهم وارتفاعاتهم، وتتعامل النظرية خلال ذلك مع التصميم أو التخطيط Layout الخاص بالمكان المدرك، وهي ليست نظرية عن إدراك المكان في ذاته، ولكنها نظرية عن كيفية تنظيم الضوء وانعكاساته المختلفة على السطوح والموضوعات المختلفة على الأرض. وقد أدخل جيسون تطويرات عديدة على نظريته فقدم ما يسمى بالمنحى الآيكولوجي في الإدراك البصري ECological approche perception عام 1979، وقد استخدم كلية إيكولوجية لتأكيد التفاعلات بين الكائنات الحية والبيئة في محاولة لحل الثنائية الشائعة في كثير من النظريات الامبريقية، فمثلا تؤكد أهمية البيئة الخارجية في تحديد السلوك وارتقاء الطفل في حين تؤكد البنيوية (معرفية بياجي مثلا) دور العمليات العقلية الداخلية.
– الصورة العقلية واللغة ونظرية الترميز:
قدم “آلان باينيو” وهو عالم نفس من جامعة تونتو بكندا ما سمي بنظرية الترميز الثنائي (أو المزدوج) Douai Coing المعلومات وأشار من خلال هذه النظرية إلى أن المعلومات، يجري تمثلها في الذاكرة من خلال نسقين أو نظامين منفصلين لكنهما مترابطان تماما، هما نظام التفكير بالصور العقلية والنظام اللفظي، وتقول هذه النظرية كذلك إن نظام الصور يتعلق بالموضوعات والوقائع العيانية (المحسوسة الملموسة) المكانية والمتصورة.
أما النظام اللغوي فيتعلق بالتعامل مع الوحدات والبنى اللغوية المجردة، وعندما يزداد تمثل المعلومة المدخلة إلى الذاكرة لهذين النظامين (الخاص بالصور اللغوية) يزداد وجودها داخل العقل بطريقة مناسبة، وفيما يلي مثال لاستخدام هذه النظرية مع المواد اللفظية والصور.
نلاحظ أن كلمات مثل “تفاحة” “سهم” “جبل” من ناحية ثم كلمات مثل: “طاعة، شجاعة، سعادة” من ناحية أخرى كلها كلمات مألوفة، لكن المجموعة الأولى من هذه الكلمات تتكون من كلمات عيانية وقادرة على إثارة صورة حيوية داخلية خاصة بالشيء الذي يشير إليه. أما المجموعة الثانية من الكلمات فهي أقل في قدرتها على إثارة الصور من المجموعة الأولى، وتشير الدراسات التي قامت على فروض هذه النظرية، إلى أن الكلمات العيانية التي تستشير الصور العقلية الداخلية تكون أسهل في تعلمها من الكلمات التي لا تفعل ذلك، وتفسر النظرية في التعلم بهذه السهولة بافتراضها أن الكلمة العيانية تمثيلها من خلال الصور والمعاني اللفظية.
– نظرية التفكير بالصورة:
إذا انطلقنا من السؤال ما الصورة العقلية؟ هل هي صور أو لقطات داخلية للأشياء الموجودة في العالم الخارجي؟ هل الصور العقلية هي مجرد صور محاكية أو تمثلات للأشياء التي نراها ونسمعها أو نعايشها؟ هل الصور العقلية ذات طبيعة مجردة عادة، أو ذات طبيعة عيانية مجسدة؟ فهذه وغيرها هي الأسئلة التي حاول علماء النفس الإجابة عنها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وما بعدهما حين ظهر ما بدا أنه ثورة في الدراسات النفسية للصور العقلية. هكذا بدا بعض العلماء يطرحون أنظمة أو نماذج نظرية تقول، إن الصورة هي نمط تصويري أو تمثيلي عقلي داخلي للمدركات الخارجية، وأحيانا ما كان يشار إلى هذا النمط من خلال مصطلحات مثل: الصورة المناظرة و”العقلية” و”الكلية” وتسمى النظريات التي تندرج تحت هذا الاتجاه باسم: نظريات الصورة الواقعية Posture théories.
أما نظرية الصورة الواقعية فيرجع تاريخها إلى أفلاطون وأرسطو قديما، كما أنها لاقت قبولا في الآونة الأخيرة، وتؤكد هذه النظرية أن التصور المرئي يتضمن وجود كيانات في العقل أو الرأس أو تقوم بعمل الصورة العقلية، وتتكون هذه الصورة من نسخ أو بقايا انطباعات حسية وأحاسيس مرئية كانت فيما مضى تشبه الصورة، ومن ثم فهي لا تتناسب إلا مع النسخ في حالة التصور البصري.
وقام كوسلين Kosslyne ومساعدوه بسلسلة من التجارب بهدف دراسة عمليات التفكير بالصورة من خلال خصائصها المكانية، وقد أوضحت تلك الدراسات بأن الصور العقلية مشابهة لعملية الإدراك لشيئين واقعي أو حقيقي، وقد اعتمدت معظم تجارب فحصها، لأننا نحتاج إلى وقت أطول لفحص المسافات المكانية الأبعد مقارنة بالمسافات الأقرب.
– المنحى المعرفي في دراسة الصورة:
وفقا لما يقوله أصحاب المنحى المعرفي، فإن المشاهد لا يقوم ببساطة بمشاهدة موضوع قد قام الضوء بتشكيله، كما كان جيبسون يقول، لكن يقوم بالوصول الفعال إلى استنتاج معين حول الإدراك، وذلك من خلال العمليات العقلية الفعالة.
وقد حدد “كارولين بلومر” أنشطة معرفية عديدة يمكنها أن تؤثر في إدراكنا البصري، وهي الذاكرة Memory والإسقاط Projection والتوقع Expectation والانتقائية Sélectivité والنقود Habitation والبروز أو السيادة Salience والتنافر Dissonance والثقافة Culture والكلمات Word وبيانها على النحو التالي للأمثلة المقدمة.
1) الذاكرة: وهي أكثر الأنشطة العقلية كثافة وأهمية في الإدراك البصري الدقيق وهي الصلة التي تربطنا بكل الصور التي رأيناها من قبل. قد استخدم الناس الصور منذ زمن بعيد كمعينات للذاكرة أو كوسائل لتقويتها، ومساعدتهم على تذكر أحداث معينة أو مقاطع لفظية طويلة.
2) الإسقاط: يرى كثير من المبدعين أشكالا تتكون من رؤيتهم للحقول والسحب والأشجار وتشكيلات الصخور، وقد كان “ليوناردو دافيتشي” ينصح الفنانين المبتدئين بالنظر إلى السحب والجدران والصخور، حيث سنرد إلى أذهانهم صور وأخيلة كثيرة تفيدهم في رسومهم.
3) التوقع: عندما نتحرك داخل غرفة معيشة معينة، قد نتوقع أن نرى أريكة وصورا على الجدران لكننا لا نتوقع وجود آلة كاتبة في مثل هذه الغرفة، وقد لا نهتم بالنظر إليها عندما تكون موجودة. إن وجود التوقعات لدينا حول مشاهد معينة وأحداث، يؤدي بنا إلى إدراكات بصرية زائفة أو مضالة أحيانا، وتعمل الفنون البصرية في أحوال كثيرة على عمليات تكوين التوقعات هذه.
4) الانتقائية: كثير من عمليات الإدراك البصري تكون عمليات غير ……. أي ليست متعمدة، أي تلقائية تدخل من خلالها أعداد كبيرة من الصور وقد لا تترك آثارا تذكر بعد ذلك لدينا.
5) التعود: يعمل العقل البشري بطرائق عدة كي يحمي نفسه من التنشيط الزائد ومن الصور غير الضرورية ومن بين هذه الطرائق ما تحدثنا عنه من قبل وهو: الانتقائية، ويرتبط بها ميل هذا العقل إلى إهمال أو تجاوز المثيرات البصرية التي تشكل جانبا من الأنشطة المعتادة اليومية للفرد.
6) البروزة: إذا كان للمثير البصري معنى بالنسبة إلى الفرد، فإنه سنلاحظه بسهولة، فأطعمة معينة قد تذكرنا بخبرات سابقة معينة في أماكن معينة، ومشاهد معينة قد تجعلنا نظن أننا شاهدناها من قبل أو مرورا بخبرات خاصة مع أفراد موجودين فيها، وهنا تبدوا خبرة سبق أن خبرناها، حيث نفتقد أحيانا خلال مشاهدتنا لأحداث معينة أننا قد مررنا بهذه الأحداث من قبل ولهذه الظاهرة أسباب متنوعة نبضها سيكولوجي والآخر فسيولوجي.
7) التنافر: إن محاولة القراءة أثناء مشاهدة التلفزيون أو الاستماع لأغنية مرتفعة الصوت، هو أمر صعب لأن العقل يفضل لأن يركز على شيء واحد في الآن نفسه إن الكتاب الذي تقرأه ينبغي أن ينحى جانبا حتى نستمتع بالبرنامج التلفزيوني أو الأخبار التي ترد منه.
لعلنا نلاحظ صعوبة متابعة الأخبار وهناك عناوين مكتوبة تمر سريعا أسفل الشاشة، لأن العين تذهب إلى أسفل مرة وإلى أعلى مرة أخرى، لأن هذه الأشكال من الدمج بين الكلمات المنطوقة والمكتوبة والصور المتعددة والموسيقى والاتصالات تعمل على خلق رسائل بصرية لا يمكن المشاهد أن يفهمها أو يتعامل معها بطريقة مناسبة، حيث يتجاذب كل منها عين المشاهد وأذانه وعقله واهتمامه خلال الآن نفسه. إذن لابد أن نرى أن الثقافة تقوم بدور مهم بوصفها تجليا للطريقة التي يتحدث بها الناس ويسلكون ويليسون ويشربون ويتصرفون اجتماعيا ويمارسون معتقداتهم الدينية، هكذا يكون للثقافة تأثيرها الكبير في الصور. إذن كيف هو التواصل عند هذه المدرسة؟
التواصل عند مدرسة فرانكفورات
تعتبر مدرسة فرانكفورات من أهن المدارس التي جاءت باتجاهات فلسفية واجتماعية مختلفة، مما جعلني أختارها كموضوع لعرضي كتاب أرجوك لغرضي لهذا المؤلف لأنه بعد من أكثر الكتب براعة في التفكير، وأرضية قابلة للمساءلة، لأن الكاتب ليول لوران أسون قد قامت بالتحقيق فيه وترجمته الدكتورة سعاد حرب وتكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يسعى إلى الإجابة على السؤال “ما هي مدرسة فرانكفورات” رغم أنه يعتبر متجاوزا في بعض الكتب الأخرى التي عرفت هاته المدرسة وحددت خصائصها ونظرياتها مسبقا، إلا أن التساؤل حول هوية مدرسة فرانكفورات في هذا الكتاب يعتبره المؤلف تساؤل حول الأشكال الموقعية للموضوعية التي ترفعها هاته المدرسة كظاهرة تاريخية. وإذا أردنا تقديم نبذة تمهد لنا الطريق لمعرفة مدرسة فرانكفورات أكثر، سوف نقول أنها حركة فلسفية نشأت بمدينة فرانكفورات، بقرار من وزارة التربية بتاريخ 3 فبراير 1923 وقد بدأت هذه الحركة في معهد الأبحاث الاجتماعية بالمدينة وجمعت فلاسفة مثل ماكس هوركهايمر، والتربنجامين، وهربت ماركيون ويوركن هابرمس وهو الممثل الأكثر شهرة للجيل الثاني للمدرسة، وإيريك فروم ثم تيودر أدرنو وغيرهم…
ويقسم الكتاب الذي بين أيدينا إلى ثلاثة أقسام كل واحد منه يحتوى بدوره على عدة فصول.
فالقسم الأول وهر مدخل الدراسة يتمتع بطابع فلسفي، حيث تكمن خاصية هذه الفلسفة التطبيقية في كونها تصب في نقد السيطرة، يشكل مساهمة المدرسة السياسية ويتكون هذا القسم من فصلين الأول وهو عبارة عن نقد مغالطة الهوية، إذ يقوم الكاتب بنقد العقل الهيجلي لكون الدعوى الفلسفية الأساسية للنظرية النقدية هي دحض نظرية الهوية التي أعطاها هيجل شكلها المكتمل. كما أن النظرية النقدية تعتبر أن الهوية ليس سوى فعل إيمان ويجب على الأقل تعدد الهوية… وقد قدم الكاتب خططا لنقد الهوية معتبرا إياه معيار الانتماء لهذه النظرية النقدية ومشبعا بآراء متضاربة للعديد من الفلاسفة في هذا الموضوع مثل ماركيوز الذي يشدد أكثر على دور النفي في الجدل الهيغلي، وعلى عكس هذا الأخير فإن أدرنو Advenir أقل من يتألف مع الهوية ويعتبر أن محاولة قلب التفكير الفلسفي نحو اللاهوي، بدلا من الهوية لهو ضرب من العبث، فهو يعارض الكلية بلا هويتها مع نفسها.
كما قام الكاتب في النقطة الثالثة من هذا الفصل بصياغة حل مخالطة الهوية الخاطئة وذلك ينقد اللاعقلانية والوضعية باعتبار أن قضيتها الأولى والكبرى هي أن التفكير يقتل الموضوع بشكل يكون العقل معه قاتلا للحياة، لذلك يجب التضحية بالعقل الذي يقتل الحياة باسم الحياة نفسها. أما الوضعية والبرغماتية الحديثة فيمكن تقويمها حسب الكاتب على أنهما أقصى عبارة لهذا الطلاق بين التطلب العلمي والبحث الميتافيزيقي عن الحقيقة، وبهذا تكون هذه النقطة الرابعة في هذا الفصل.
وقد استمر الفصل الثاني من القسم الأول في نفس سيرورة الأول إذ أنه تطرق للنظرية النقدية وأزمة الهوية وقام بإعطاء شرح للنظرية في مفهومها التقليدي بقوله، أنها مجموعة قضايا تتعلق بمجال معرفي محدد، ويضمن تماسكها أنه من بعض قضاياها يتم استنتاج القضايا الأخرى كلها منطقيا. كما عرف النظرية النقدية بوصفها المادة التي بها حلقة التطابق فهي شهادة سيادة حقة تندفع بها الفلسفة في التاريخ، فيشرع النقد لنفسه كما عند ماركس الشعب، بكشفه التطابق الخادع فارضا بذلك ضرورة تحويل العالم التاريخي.
وقد شهدت النظرية النقدية في العقدين الأخيرين إصلاحا داخليا مع هابرماس وكان بمثابة تطور يقوم على أنساق تمام النظرية النقدية.
وإذا مررنا في عجالة إلى القسم الثاني فسنجده لا يقل عن الأول لا من حيث الكم ولا المضمون وهو عبور من فلسفة المدرسة إلى مساهمتها في العلم الاجتماعي، وذلك برؤية كيفية تطور مفهوم Sozicl for schung (أو الأبحاث الاجتماعية) كمنهجية نقدية. وكذا إعطاء تعريف للسلطة باعتبارها ترجع إلى عمق سيرورة كليانية اجتماعية مدركة من خلال ما يسمى “السلطة بالتحديد”. ومحدد الشخصية المتسلطة من خلال الدراسة حول المعاداة للسامية مرورا إلى التواصل كونه عامل اجتماعي نقدي.
وقد انتقل الكاتب في الفصل الرابع إلى الماركسية والنظرية النقدية باعتبارها أكبر مرجع نظري مشرع للنظرية النقدية فحركة مدرسك فرانكفورت كانت مندمجة في حركة تاريخية تضع الماركسية في المستوى الأول من الممارسة التاريخية وقد أعطى الكاتب عدة تقاسيم للماركسية تتجلى في ماركسية جديدة نقدية وتحتوي على عدة فروع ثم ماركسية مفارقة. وكأنما الماركسية موضوع انتقامي (نظري) انتخبته النظرية النقدية الساعية إلى تجريب اضطراب الانتماء المادي وإلى تجاوزه بجهد بناء نظري، ويمكن بتحولنا إلى حجر الزاوية الآخر أن نحدد موقع الماركسية في وسط المدرسة.
أما الفصل الخامس فقد اهتم فيه الكاتب بالتحليل النفسي والنظرية النقدية بصفته بدخل فيها كأداة عليها أن تستعملها في لحظة معطاة ومن ثم فمن المهم فهم استعمالات التحليل النفسي المتتالية التي قامت بها المدرسة إذ إنه أفضل كاشف لأشكال الصلات النظري بين العقلين التحليلية والنقدية. بدأ بالتحليل النفساني في خدمة الأبعاد الاجتماعية ثم تحدث عن فرويد بوصفه حليف النظرية النقدية وصراع الأيروس والتناتوس الذي صار تقريبا عبارة لمأساة ما وراء نفسانية تغذي الجدال الاجتماعي التاريخي.
نستطيع القول أن القسم الثاني من وراء هذه الدراسة ذو طابع منطقي لا يمكنه أن يخفي أن الإلزام الاجتماعي السياسي هو إلزام يستتبع أيضا فلسفة. وهذا ما يجعل من هذه الفلسفية نتيجة من نتائج السياسة، والذي يتحقق منها في المستوى المجتمعي. ومن هنا التقاؤها جبهتي الماركسية والتحليل النفسي. وقد فرض ذلك على الباحث العودة إلى المخطط الذي تندرج فيه فلسفة المدرسة، كما يندرج فيه علم الاجتماع النقدي الذي يثبتها، أي نظرية في التاريخ. وشكل هذا القسم الثالث في هذه الدراسة وهي أيضا نظريك في الثقافة (الحضارة) رهانها التدخل في مجرسة الممارسة.
فقد خصص الباحث القصد السادس في هذا القسم لنقد العقل التاريخي أي فلسفة مدرسة فرانكفورت في التاريخ مرورا بعدة نقط أساسية من العقل الأداتي إلى ما هو أبعد من فلسفة التاريخ وذلك ناتج عن التطور الجدري والذي يكمن في الطموح لعلم نقدي للمجتمع، ولبنية تواصلية بالأخص التي تؤسس فيما بعد معرفة تطورية للتاريخ.
أما الفصل السابع والأخير فقد كرسه الباحث لدراسة الجمالية النقدية، ونقد الثقافة وقد شرح ذلك في 3 نقط أساسية، الأولى وهي علم الموسيقى النقدي، فقد خصص آدرنو جزءا مهما من تأمل الموسيقى ودراسة “حول الجاز” إلى فلسفة الموسيقى الحديدة… والنقطة الثانية تتجلى في الفن والإنتاج الاجتماعي، إذ يكشف بنيامين هنا ظاهرة تجميل الحياة السياسية المدهشة. وأنه لا دلالة رمزية أن يكرس “ماركيو” واحدا من نصوصه الأخيرة يشدد على مساهمته الفن التي لا يمكن تقليصها كقوة محركة للصراع لتغير العالم، ضد جمالية ماركسية للحتمية الميكانيكية.
أما النقطة الثالثة فتكمن في المخيلة الجدلية والسياسية المجازية وسيتضح هنا موقف بنيامين الشعاري بشكل خاص ففي اللحظة التي أخذت تتشكل فيها النظرية النقدية، اقترح هذه الصلة بين الفن والسياسة في أطروحة حول أصل المأساة الباروكية الألمانية (1928).
وعند قراءة كتاب مدرسة فرانكفورت يصبح باستطاعتنا أن نخرج بمجموعة من الاستنتاجات عن هاته المدرسة ونظريتها النقدية حيث يمكننا القول بأن مدرسة فرانكفورت قدمت نظرية نقدية تناولت مختلف نماذج الوعي النظري والعلمي وبالأخص الإديولوجية الكونية (الشمولية)، وقد جمعت في آرائها بين الهيغيلية والماركسية ومدارس علم الاجتماع والنفس، بالشكل الذي جرى توظيفه في نقد نمطية الوعي والعقائد الجامدة. من هنا جاء انتقادها للماركسية الرسمية التي جرى تحويلها إلى نصوص مقدسة، من هنا أن محاولتها هي تجديدها لتلازم متطلبات العصر وتجاوز الماركسية الكلاسيكية.
نلاحظ مما سبق ذكره أن النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت اتخذت في مسارها الطويل اتجاهات مختلفة، بسبب الخلفيات الاجتماعية لروادها من جهة واهتماماتهم المختلفة التي ارتبطت بأفكار عصر التنوير، من مثالية كانت وهيغل إلى تأويلية “ماكس فيبر” وفينونينولوجية “هوسرل”.
ومع ذلك فإن هناك ما يجمع بين روادها مع اختلاف اتجاهاتهم وهو نقدهم للمجتمع الصناعي الشمولي وما يفرزه من تناقضات وبخاصة في ثقافة البرجوازية. لذا أصبح مفهوم التواصل عند هذه المدرسة أرضية مفتوحة قابلة للنقاش والتوضيح وهذا ما سنراه.
إن التواصل هو الحياة، ولا يمكن أن يوجد حي من دون تواصل فالإنسان يتواصل منذ أن يكون جنينا في بطن أمه، مع الأصوات التي يسمعها من الخارج وخصوصا صوت أبيه وأمه، وهو في الأصل ثمرة يتواصل والديه (جسديا عاطفيا ولغويا) وكل لحظات الحياة تقوم على تواصلات لا متناهية.
فالقدرة على التواصل أو الاتصال متعدد المعاني والأبعاد والمستويات هي سمة ينفرد بها الإنسان وحده استثناء عن بقية الكائنات الأخرى، لكنها لم تعرف تطورا في أشكال تواصلها منذ بدء الخليقة لدى تلك الكائنات كالنحل – رقصة النحلة – أو النمل وسواها من الكائنات الأخرى. بخلاف الإنسان فلم يكن لديه نمط واحد غير قابل للتغيير، بل كان لديه استعدادا وملكة فطرية للاتصال تمثل إطارا قابلا للملء بمحتوى قابل للتطوير والتجديد.
التواصل قبل اكتشاف اللغة
لقد اعتمد البشر وسائل الاتصال بهدف تقريب المسافات مهما كانت عملية التواصل المعنوي الذي انبثق من الحاجة الأولى للاتصال، مكيفين الزمان والمكان ومستفيدين من الطبيعة ما أمكن لتلبية هذه الحاجة الإنسانية، فكانت الأصوات في دائرة الأمواج الصوتية التي تمكن الآذان التقاطها وسيلة من وسائل الاتصال، ومنها رمي الحجارة والأعواد إلى الجهة الأخرى أو تثبيتها في محلات بارزة من الطرف، أو على الأشجار والمرتفعات وحتى هذه الوسيلة البدائية تكيفت فأصبحت تحتوي على خطوط أو رموز تشير بالتعبير المرئي للغرض ومشاعل النار.
هكذا استغل الإنسان مساقط المياه ومجاريها والحيوانات والطيور وقرع الطبول ولكن ذلك الاستعداد الفطري ما لبث أن ساعده بالتدريج على التطور حتى تبنى وطور أشكالا أرقى وأكثر تطورا وثراءا تجاوزت تلك الأنماط البدائية الغريزية التي ظلت كما هي لدى الكائنات الأخرى.
التواصل اللغوية
أول وسيلة اتصال طورها الإنسان هي اللغة التي بمثابة ترميز أو تشفير للأفكار وترجمتها إما على شكل أصوات ذات دلالات ومعان في حالة الكلام المشاقة، أو على شكل رسوم مخطوطة في حالة الكتابة أو الكلام المدون… وكما في الكتب والنقوش والألواح القديمة تدرجا حتى أعقد أشكال الكتابة وأكثرها سرعة وتطورا من أبسط أشكال الآلة الكاتبة وصولا للكتابة الكهربائية بطريقة الحاسوب واستمر الإنسان في تطوير وسائل التواصل من استخدام النار والمنارات والحمام الزاجل إلى أن اهتدى لكشف عظيم هو الكهرباء فكانت ثورة في عالم متعدد الإمكانيات وفتحت أمامه آفاقا واسعة وهائلة جدا الاتصال وفق نقل المعلومة. بدأت بهاتف بسيط يربط بين شخصين فقط في نفس الوقت وتدرجت حتى الشبكات الذكية والعملاقة التي تربط العالم كله وصولا إلى الشبكات الافتراضية والتي تتسم بالمرونة وسرعة التدفق المعطيات والمعلومات بأحجام هائلة وغاية في الدقة والكفاءة والسرعة. فغدا جهاز الاتصال العادي وسيلة بدائية متجاوزة بالنسبة لعالم جديد من التقنية، فتحرر جهاز الاتصال العادي الشخصي من الخيوط الكهربائية وغدا أداة متنقلة mobile يحملها الإنسان في جيبه ليبقى في اتصال دائم ومباشر مع كل العالم.
نلاحظ في الأجيال الجديدة من التقنيات لم يعد الهاتف مجرد وسيلة الاتصال بل توفرت وأصبح أداة متعددة الأغراض والإمكانيات حيث الاتصال الصوتي أبسطها… حتى غدا محطة اتصال ومعلوماتية متكاملة توفر عقد الندوات والمؤشرات عن بعد وإجراء الصفقات التجارية ومتابعة القنوات الإعلامية المرئية.
وقد ساعد هذا وجعله ممكنا اختراع آخر ترافق معه دخول خط الاتصال الهاتفي والكهربائي وحقل الكمبيوتر والبرمجيات، ومن ثم معه الشبكة العنكبوتية. حيث يغدو جهاز الحاسوب بمثابة وحدة وجهاز اتصال حي، لكن هنا بإمكانيات هائلة تفوق كثيرا إمكانيات الهاتف العادي ومن تم تناقل تلك الإمكانيات بالتدريج وتبادلها بين تقنيتي الاتصال الهاتفي والحاسوب. فصار الهاتف حاسوبا متنقلا حيث غدا الحاسوب أداة ذكية للاتصال تمكنه من التواصل والتفاعل المتعدد الأبعاد والمساحات والأهداف… وحيث أن الاتصال ممكن على طبقات ومستويات متعددة بدءا من الاتصال الفردي البسيط أشكال الاتصال الجماهيري.
الصورة هي التمثيل والتصور، يكون عبر الوعي والشعور، لأنها جزء من الذات والمجتمع، فهي الكشف وإظهار، والتأسيس والبرهان، فهي إنجاز وفعل، وأصالة، فالصورة إذن هي قضية اندماج بين التنبؤات في العالم، وتأريخحية توفر الشروط الضرورية التي تجعل الصراعات العصبية والتصورية، والفكرية، تنتهي إلى تقدم إلى ظهور الجديد من جوف الذات، فهي حداثة لا تستطيع الولوج في التاريخ، بل حوار يحرك فيها الحركة من داخلها، إنها تجعل الصورة رد الفعل الحتمي الذي هو الانغلاق والنكوص، إذن فالمسيرة التصورية هي شعار التآخي بين الذات والموضوع، وبين الفكر والواقع، والتلاؤم بين عوالم كاملة في الروح.
إن التفكير مستحيل بدون صورة كما يقول أرسطو، ولقد صدرت الحقيقية الغير القابلة للتمييز عن الأفلام، لذى يرى دولوز بأن الصور لا ينبغي أن ترتبط بالعمق، بل لابد لها من سطح كما يقول في كتابه “منطق المعني”، فالصور تختلف من فنان إلى فنان، ومن إنسان إلى إنسان، إنه عالم افتراضي أو ممكنات العالم، لأن عالم الصور تحتك بعالم اللغة، مما يولد لدينا عالما متلاطما الأمواج، فدور الوعي هو اقتناص الصور أو الشكل، لأن العالم وفق النهج الدلوزي مجموعة من الصور تترابط فيما بينها دون انقطاع، إذن العقل يقوم بمحو نتاج لهذه الصورة المرتبطة بالوعي، أما الحركة ترتبط بالبعد المادي الخارجي أو بالفضاء وبين العالمين الكيفي والمادي (الكمي)، فالشعور هو حزمة ضوئية تنتزع الأشياء من ظلمتها الطبيعية لتكون ممكن الوجود، وليس واجب الوجود.
فالأشياء هي التي تجذب الشعور، ولا وجود لشعور خالص، بل يرتبط بالمادة، لذا فالصورة هي المادة، والصورة حسب دولوز ما قبل الإنساني والإدراك الحسي، وصورة الفعل.
فالذاكرة هي إدراك لما هو سابق وما هو لاحق، إنها صور متلاحقة ليست بينها فواصل، فصناعة الغرب للصور هي صناعة فكرية بواسطة الوعي، فنحن نتحرك في ذاكرة الغرب، أي وجود ذاكرة عالم يعمل على تخليص الإنسان من تزييف الذات المؤولة في المطايات الاستحواذية وتلخيص الصور من القبليات والفرضيات المسبقة، والموجهات الإيديولوجية.
فجاك ديريدا يلح على الفكر المختلف لكي يواجه المعرفة في إطار اللاعقل، والعقل وفي إطار الخرافة المبدعة من الآخر المهيمن.
لذا يترتب عن هذا الفهم في إطار الاختلاف، هو إقصاء التمركز ليكون للصور عمقا، وإحاطة تساؤلات تاريخية، لأن طغيان العقل هو إفساد لمفهوم التأويل والتفسير في تاريخ الفكر الغربي، حيث يؤسس نظرية تفكيكية تتجاوز تلك التي كانت تعني في المقام الأول بالتمركز، من أجل تكوين أطر نقدية لتفاسير الصور الأنتروبولوجية وشروحاتها الفيلولوجية، وكذا معرفة التفاسير المؤسسية من طرف العقلانيين، هكذا صاغ ديريدا هذه القاعدة بطريقة قطعية لكي يعترف بقبول الآخر المقصي بطريقة تعسفية، ولإظهار الأوهام والخرافات التي تخدم توجهات الإنسان الغربي.
إن جاك ديريدا في نقده هذا يفتح لنا أفقا غير استحواذي لهذه الصور الما قبل، والما بعد، من أجل التمكن من تحويل صورة المقصي من التاريخ والفكر، واعتباره إنسانا غير عقلاني وبدائي، ومهمش، وكل الصور الغائبة والحاضرة الرابطة في أعماقه، فهذه المقاومة هو إضعاف كل التأويلات المتعالية والمعيقة لتطور المهمش، إذن هل يمكن للغربي أن يعيش وحيدا؟ وهل وجود الآخر ضروري أم حتمي أم طبعي؟ وهل التفاهم مع الآخر مستحيل كما يقول غاستون بيرجي؟ وكيف استطاع أن يؤسس لنفسه لوغوسا في غياب الآخر؟ وهل العرب الآخر قادرون على تجاوز أنفسهم لفهم الآخر المهيمن؟
أسئلة كثيرة ومتعددة تساهم في المادة النظر في الصور، والرموز المجسدة عن المقصي، لأن الكتابة إذن هي الواسطة بين الحداثي وما بعد الحداثي، وما بين العقلاني وما بعد العقلاني، والمتقدم وما بعد المتقدم وما بين الإيديولوجي والتأويلي، لذلك يمكن تفسير هذه الثنائيات على أنها هدف ومسعى لتكوين معايير، غير عقلانية وغير مهيمنة، تجعلنا نفسر التاريخ، والكون والمعرفة والقيم إنها مفتوحة لا تنتمي لقارة دون قارة أخرى، فهي غير متواترة، تعمل باستمرار على تطوير المفاهيم والمصطلحات لكي يوجد المهمش في المركز كما يقول إدوار سعيد، وهو مي بابا – إن ديريدا في كتابه يريد قلب كل المعايير المعرفية رأسا على عقب كما فعل ميشل فوكو في كتاباته “اركيولوجية المعرفة، وتاريخ الجفون، ونظام الخطاب، وأيضا بييربورديو وغيرهم، فالصور المستخدمة من طرف الرجل الأبيض هي صور الإقصاء، والمهيمنة، والخضوع والانصياع، والاستضمار، متعقدا أنه هو السيد، والمهمش هو العبد، وهذه الرؤية تجعلنا نستشف أن الفكر الأنتروبولوجي الاستعماري كما حدده العديد من الباحثين أمثال شارل دوفوكو، لم يعد يساير التطور الحضاري والثقافي والعلمي، فالإنسان المهمش قادر أن يبدع ويصنع تاريخه وحضارته وماضيه وحاضره، إذن فالرؤية الإقصائية لازالت سارية المفعول في أوساط المفكرين الغربيين وعند المفكرين المتفرنسسين (الفرانكوفونيين والأنكلوساكسونيين لأنهم يعيشون بين – بين لا هو عربي، ولا هو غربي، وهذا ما سماه هو مي يا بابا البينينة، إذن يبقى فكره فكرا ثنائيا مما يجعله يسقط في الهيمنة والإيديولوجية الغالية، إذن أين نحن العرب من كل هذا وذاك؟ فالمطالبة إذن ببناء هوية معرفية، وعقلانية لا تقف عند المراسي، ولا عند العصبية بالمفهوم الخلدوني بل أن نكون منفتحين على كل القارات.
إذن فالانفتاح يقع في صلب الإشكالية المركزية من أجل فهم هذه الذات، لكن هذه الأخيرة عرفت زعزعة من طرف قانون، وفلاسفة وفرويد، فهؤلاء رفضوا الهوية،واليقين لهذا الإنسان كمقولة كليانية وعالمية[1].
فهذا الرفض هو اختلاف في المضامين وفي المنطق الذي يرتبط بالسائل والسؤال، إن هذا التفكير خارج المركز هو إعادة النظر أيضا في البديهيات وكل المناحي التقنوية التي تؤدلج المجتمعات وتمحو كل الأجوبة الجاهزة التي يمليها الماضي والحاضر، فهذه المفاهيم الموظفة ينبغي أن ينظر إليها على أنها مواقع مرتبطة بالوعي، وبالإدراك، والفهم، لأنها لها مكونات ترسم لنا معالم خاصة بالذات المتنوعة.
فلا يمكن النظر إلى هذه الذات إلا كصيرورة تاريخية تخص علاقتها بالمفاهيم الداخلية، إنها عبارة عن دول مركزية ترتبط بالنسب وباللغة، وبالدم، فهي دائرة التي تمنح للمعنى الحقيقي للظواهر الاجتماعية، ولا يوجه الأحداث توجيها دلاليا ويقول عمر مصباح “إن ما يؤثر في التاريخ هو التفاعل الواعي في صيغة الأحداث والتأثير فيها بدلا من تراكمها”[2] فلا تأتي أهمية هذا التصور المنهجي إلا من الوقوف على وظيفة المؤسسات الغربية بصفتها آلية لإعادة بناء الذات كنقطة بداية للمركزية، تكمن في كونها تبدع وتنتج نموذجا جديدا في التفكير، وهي غيرت معه من مجراها تغييرا كليا، وانتقلت انتقالا أساسيا من النزعة الموضوعية إلى النزعة الذاتية المتعالية”[3] إن لحظة الفكر الغربي الكوجيطي هو نتاج وضع معرفي وذاتي، وبنيوي، حيث يفتقد للوحدة العضوية والموضوعية بعد خروج انجلترا من هذه الكتلة، وبات الشك واللأدرية هي المضادات المنهجية التي افتقدت إلى أسس يقينية، ويرى هوسرل “أن كثرة الفلسفات ونظريات المعرفة وافتقدت إلى مجال روحي يجمعها ويوحدها”[4].
فمسألة التفكير هي مسألة إيجاد قاعدة برهانية لا تنكر الآخر المقصي والمختلف حيث أن التفكير كما قلت لا يؤسس ماهيته إلا انطلاقا من نظرية في الوجود أن يمكن أن يؤسس فكرا ابستيمولوجيا على البعد الوجودي، لكي نعرف أن الغربي ليس هو المبدع والتخالق والواهب، وإنما هو إنسان يشارك في المعرفة مع الآخرين وهذا جوهر الثورة الغاليلية، لأنها تعيد للإنسان ما بعد الحداثة، جذريته وفكره كمعنى، وكذات، وكوعي، حيث أصبح الفلسطيني، والليبي، واليمني يستوعب هذه التحولات البنيوية، بالإضافة إلى النتائج التي أسفرت عنها الثورات العالمية في بناء ديمقراطية كمشروع عقلاني، وكفلسفة اجتماعية تجعل الإنسان هو مقياس كل شيء في الوجود، إنه حقيقة برهانية لا تنكر وجودية الإنسان العربي، حيث يتمتع بالعقل الجدلي[5] فهو القادر على صناعة الوعي النقدي، وإسقاط كل الأنظمة الأليغارشية، والفاسدة وهذا ما رأيناه في العراق، وفي اليمن وفي ليبيا، وتونس وغيرها من الدول العربية والأسيوية، لذا أصبح العقل العربي ينطلق من الأنا (أفكر البرهاني)، كنقطة بداية العقل في اتجاه انخراطه في العالم من جديد كما يقول الجابري في كتابه “تكوين العقل العربي” ص: 23، لقد الجابري، والحبابي، والعروي، وبرهان غليون، وجورج طرابيشي، ومحمود أمين العالم، وأدونيس، وإدوارد سعيد، والمصباحي، وغيرهم الذين حاولوا طرح موضوع الغرب “……………… تشكيكية، وكموقف نقدي غير متعالي، ليظهر في كونه يستطيع أن يجعل من الكوجيطي العربي كمقدمة للمعرفة، وكمجالا وموضوعا لهذا الانتماء التاريخي، والأنتروبولوجي.
فالتأويل جوهر كيف يفكر الأوروبي هو إعادة طرح هذا الاكتشاف الغربي في الإنساني والإنساني المقصي في الغربي، وكذا استثمار تلك الإمكانات التي يحتويها الفكر العربي، والكشف عن مضامين الوعي بما هي بنيات قصدية كما يقول هوسرل في كتابه “فينومينولوجيا ديكارت” ص: 40 لأن مسألة إقامة فكر عربي حقيقي إنما يفرض علينا مسبقا البحث عن الأسس اليقينية التي تستمد منها تساؤلات جديدة، كحضور بذاته في الوعي النقدي، إنها تضايف القصد لأفعال التفكير المخالف والممنوع، فالمبدأ الجوهري هو وسيلة وغاية مرتبطة بالتعرف على الحقائق الأولى في ذاتها، ذلك أن مسألة الاختلاف، والحضور المؤجل هو إدراك لهذا الفكر في ذاته، فهو الذي يحدد الأشياء كنمط الوجود، وككائن من الكائنات الحاضرة، وكعتبة الأرض الجديدة للتفكير الغير المتعالي، فالعربي ليس له وجود يقيني، بل وجود برهاني.
فالذات العربية تبقى سابقة على كل وجود، لأن المفكر العربي المعاصر يعطي لنا فيها العالم من خلال التجربة العامة، وليس من التجربة الخاصة لا السياسي كما يقول عبد الله العروي، ليس هو الذي يبنى العقل العلي كمقدمة وكإفراز لمنعطف تاريخ حاسم ينقلنا الفكر من الماضوي إلى المعاصر، حيث يتضمن هذا الانتقال من انقلابات وثورات في أساليب التفكير وأنماط الوعي الوجودي، وأيضا الشعور الإنساني، لأن التفكير خارج الغرب هو نتاج منعطف للتحولات التي بدأت تطرأ على نظريات المعرفة الكلاسيكية والواقعية، والرومانسية، وهذا هو الأساس الذي أدى إلى بروز مرجعيات جديدة في المواجهة، والمراجعة، وفي هذا السياق توجهت الاهتمامات إلى الوقائع والأحداث العربية وأيضا في المجال السياسي، وكذا الحكم والقانون، وحقوق الإنسان، فهي كلها ظواهر، ومفاهيم ترتبط بالإنسان ومؤسساته وتقنياته والعودة إلى الذات، كلها تقنيات سلوكية ومعرفية التي ينبغي أن تتوفر في الإنسان العربي.
إن قراءة الغرب هي قراءة ثانية التي تصدر عنها، وبالمقابل يمكن القول إن الحقائق المبنية على الأسس المنهجية والنقدية ينبغي أن تكون موضع تساؤل إن كانت أكثر صلابة، لأن المعرفة الغربية لابد أن لا تكون مطلقة، بل هي نسبية لأنها لا يمكن أن تؤسس نفسها بنفسها، بل إن هذه المعرفة هي التي تجعل الآخر المهمش والمقصي يعي تاريخه بذاته وقدراته وممكناته، لذا فالمعرفة هي كونية فهي تبقى أساسية وحاسمة رغم الأطروحات التي تقول بتفوقها وعدم محدوديتها ومقاربة نقدية، ووعي مرتبط بالإدراك حداثي، ويقول أحد الباحثين “إن مثل الإنسان المحور الإبداعي المركزي الذي تمحورت حوله قصص العيادي ورواياته، ويتمتع في هذا المجال بأسلوبية تعبير سردي خاصة ذات نكهة مغايرة”[6]. فالإنسان الغربي لا يتعامل مع الحقيقة إلا انطلاقا من ذاته، وأي مشكلة تواجهه سواء في بعدها الوجودي أو القيمي إلا انطلاقا من المنطقية التي وضعها، لذا لا يقيم أي وزن للحقيقة الخارجية، لأن الحقيقة متعددة ومحكومة بالسياق ومع ذلك فالآخر قادر على تفكيك كل الأطاريح بالحجج المبدعة والفاعلة،وهذا يكون برؤية عقلانية وبمرجعيات منتورة ويقول كارل ياسبرز “لهذا الأسباب لا توجد حقيقة واحدة في صورة وجهة نظر أو نسق محدد، ولا يمكن أن تدعي الحقيقة أنها هي الحصيلة النهائية للمعرفة الراهنة، وأن كل معرفة يجب أن ترتب على أساسها، بحيث تكون مجرد إعداد وتمهيد لها[7].
إن قراءة الغرب للعرب في الأفلام والروايات لا تكون أبدا بل ترى فيه الإنسان المتوحش والبدائي، والرمزي، والأسطوري، فلا وجود له، ولا يعرف الحقيقة، ولا يعرف أيضا استخدام العقل في بناء العوالم الممكنة، فهذا التوتر الظاهرتي دلالة الصور، تجعلنا نستشف أن القراءة التأويلية تبقى ذات سياقات ودلالات مختلفة ومقصية للآخر، لذا تبقى الصور هي احتكار للحقيقة الأولى وانعزال للأنا، فهذه الأطروحة كما ذكرت لا تسكن الغير كبعد استبطاني داخلي، لكن بدونه لا يمكن للوعي الإنساني أن يحضر كفعل رمزي وعقلي، إذن كيف نقرأ ذواتنا في غياب الغرب؟ وهو الصور المقدمة إليه عبر وسائل الإعلام قادرة على تفكيك مركزية الغربي؟ وهل العرب قادرون على إنشاء وسائل بديلة عن الغرب؟
[1] – سيمون مالباس، ما بعد الحداثة، تر: باسل المسالمة، ط 1، 2012، دمشق، ص: 110.
[2] – مصباح عمر، علم الانثروبولوجيا، دار الكتاب الحديث، ط: 1، ص: 2013، ص: 156.
[3] – تأملات ديكارتية، تر: تيسير شيخ، ص: 48.
[4] – نفس المرجع، ص: 50.
[5] – أصل الفلسفة الماركسية.
[6] – محمد صابر عبيد، اللغة الناقدة، ط: 1، 2011، ص: 134.
[7] – كارل ياسبرز، تاريخ الفلسفة، ص: 84.