قراءة في رواية ” خنادق الحب ” لـ أحمد أخميس
بقلم : حسن مصطفى
الخنادق التي لم أرغب بمغادرتها
عندما تشعر أنك —لا محالة— مقبل على هاوية فإن غريزة الحياة تدفعك أن تتجنبها، وإذا وقعت.. فأنت على استعداد لفعل المستحيل للخروج منها، لكنك إذا وقعت في “خنادق الحب” فإن شيئاً ما أقوى من غرائزك كلها يدفعك للتشبث طلباً للبقاء لا للخروج.
بهذه الكلمات قررت أن أبدأ حديثي عن هذه الرواية”، التي اختزلت بين سطورها حبّاً وحكمةً وفنّاً جميلاً صيغَ بالكلمات، حتى كأنك عندما تقرأ الرواية تشم وتسمع وترى بل تشعر كأنّك داخل كل شخصية من شخصياتها ولا تكاد تستطيع التخلص
منها حتى بعد إنهائك قراءتها.
سأحاول —ولا أدري— إن كنت أستطيع أن أكون موضوعياً في محاولتي استخلاص ملاحظاتي حول الرواية، وذلك لسببين:
– ذاتي، وهو أنني أحدى هذه الشخصيات بكل ما فيها من تفاصيل بمعاناتها وفكرها، وأحاسيسها، فربما كنت “حسّان” أو “عمر” أو “نبيل”.
– موضوعي، إذ لا يخفى على ذي عقل تلك المعاناة الرهيبة غير المسبوقة التي طبعت حياة السوريين وثورتهم المجيدة منذ انطلاقها، وتلك المجازر الرهيبة التي تتسرب بين الحين والآخر بقصد وبغير قصد لتخبر عن أفظع مأساة في التاريخ ليست بكثرة عدد الضحايا، ولكن بالطريقة التي بينت تجرد الكثير من إنسانيتهم بل من أبسط شعور حتى لدى بعض الحيوانات.
تبرز أول إشكاليات الرواية في العنوان، فمن المعلوم أن الخنادق عندما أُوجِدت لم تكن إلا للموت، بصرف النظر عن الطريقة أو الغاية أو من الفاعل والمفعول به، ولكن عندما أضافها إلى “الحب” بدأ أول تساؤل: كيف؟ كيف تكون خنادق الموت للحب؟
كتب “أحمد خميس” روايته وسار بذهن قارئه وإحاسيسه في ثلاث مسارات تكاد في البداية وفي لحظة ما— تشعر أن كل منها يسير منفصلاً عن الآخر لكنك تدرك في الوقت نفسه أنه لا بد من رابط يجمع كلّاً منها ويشدّه للآخر، وقد تعمد في لحظة ما جعل الأمر غامضاً بعض الشيء، فعلى سبيل المثال يجعلنا الكاتب في الفصل الأول نشك أن الذي التقته “سوزان” بعد التفجير هو “حسان” الحبيب الغائب الحاضر، ليبدو بعدها أنه صديقه ورفيق دربه وسلاحه “عمر”، لكنه في مواضع أُخرى أكثر وضوحً، عندما يشير إلى صورة “سوزان” التي خبأها “حسان” قريباً من قلبه تبث فيه الحياة وتدفعه للاستمرار في ما عزم عليه للوصول إلى الغاية الأسمى “الحرية”.
لكن تلك المسارات الثلاثة تقترب من بعضها شيئاً فشيئاً لتلتقي في “خنادق الحب” ذلك الاسم الذي اختارته سوزان للعملية التي انضم إليها “لؤي” بل و “منهل بيك” مدير السجن، الذي قلبت كلمات حسان كيانه رأساً على عقب، فأصبح في عذاب لا ينتهي، وهو يقارن سرّاً أحياناً وجهراً في أحايين أخرى بينهم وبين من كانوا في نظرهم حتى لحظة الحسم إرهابيين، وكيف أنهم كانوا مكشوفين واضحين أمام حسان ورفاقه ولم تنطلِ عليهم حيلة منهل بيك بأنهم مدنيون، ورغم ذلك ظلوا محافظين على عهدهم رغم كل الضغوط التي مارسها الكاتب بطريقة وصفه وإبرازه لذلك التناقض الرهيب في نفوس الثوار، فهم غِضابٌ بعد ما شاهدوا من هول التعذيب والطريقة البشعة التي اختيرت بها أجساد الشهداء للحياة الأخرى، وبين أخلاقهم وواجبهم بإنفاذ الوعد الذي قطعوه بعدم التعرض للقافلة حتى بعد كشفهم يقينا لا ظناً أن أولئك ليسوا مدنييين، وكأنما أراد الكاتب أن يوحي إلينا بطرف خفيٍّ ويبعد عنا صدمة المفاجأة بالتحول الذي طرأ على منهل بيك وإدارته قاطرة الأحداث في الاتجاه المعاكس تماماً لصيرورة الأحداث كما حاول القارئ أن يرسمها في سيره وتتبعه لمسارات الرواية التي تقدم الحديث عنها. إذا صحّ لنا أن نطلق على ما قام به الكاتب مجازاً فإننا نستطيع أن نطلق عليه “فانتازيا الواقع”.
وذلك أن العارف بمدينة الرقة الغافية على كتِف البادية يستأنس منظر الثلج الذي لم تألفه المدينة إلا نزراً، كما أننا نلحظ في شخصية “سوزان” الفتاة الرقية التي تحدت أمام حبها كل المحاذير، ونفضت في صدره وعند قدميه كل العادات
الموروثة والتقاليد المتجذرة عندما فتحت قلبها قبل بيتها، وصدرَها قبل سريرها من أجل ليلة كانت تعلم أن الموت أقل الأخطار التي تنتظرها مقابلها، إن لم يكن لأي شيء فيكفي رنة من يدٍ غريبة على جرس الباب أو طَرقة بقبضة لتنهي حبها وحياتها معاً.
يسميه البعض تناقضاً، وهو في الحقيقة تلازماً، إذ كيف يمكن للقارئ أن يتخيل ذلك الهول من انقلاب “منهل بيك” تماماً في الاتجاه المقابل كيف تأتى له كل ذلك في لحظة واحدة؟ ثم لماذا صمم على البقاء داخل السجن مع من بقي ولم يغادر؟ كيف استطاع ضميره وحِسّه الإنساني أن يتغلّبا على غريزة البقاء؟ كلها تساؤلات مشروعة -لا شك- تحتاج إجابات سوف يجدها القارئ المتذوق في ذهنه ووعيه.
ما يمكن قوله أن من وظائف الأدب التأريخ للأحداث والوقائع الإنسانية بأبعادها المختلفة، ولكن ما يختلف به الكاتب عن المؤرخ هو أن المؤرّخ يكتب الأشياء كما هي، بينما يصوغها الأديب كما يريد لها أن تكون.
من هنا: استطاع الكاتب أن يكون وفياً لما كتب، فقد وصل إلى هدفه المتمثل في إقناع المتلقي بفكرته وهدفه، ليس ذلك فحسب، بل حتى بالتغييرات التي افترضها وأسس لها في مجريات الأحداث، فعلى سبيل المثال: أجبرنا من خلال التصوير الدقيق واللغة العميقة أن نوقن أن الرقة تعتاد الثلوج وليس أمراً عارضاً.
ومن جهة أخرى كان وفياً لمصادره ومعارفه التي وظفها خير توظيف، فكانت كل صفحة تطالعنا بحواشٍ يذكر فيها الكاتب إحالات إلى الشعراء أو الكتاب أو الأساطير الخ. التي تناول شيئاً منها في المتن، فمن “شموع الخضر” إلى قصائد “لوركا” رحلة معرفية كبيرة تحصل عليها خلال حياته التي سبقت كتابة روايته، كما نلحظ أيضاً وفاءه لعمله، فإن التحليل النفسي للشخصيات يبدو واضحاً جلياً من خلال تتبع كل حركة وسكنة، حتى كأننا نشاهد فيلماً درامياً بمشاهده وتفاصيله لا روايةً مكتوبة قوامها اللغة والإحساس. “حتى لكأنني شرعت في إقامة علاقات حقيقية مع هذه الشخصيات الخيالية، الأمر الذي أحزنني حينما أرسلتها للنشر وكأنني أقوم بتوديعها.كنت وكأني أراهم يجرون حقائبهم ويصعدون متن الباخرة دون أن يرمقني أحدهم بنظرة وداع لو واحدة”.
بهذه الكلمات قدم “أحمد خميس” لروايته فهي البداية والنهاية، ولا لوم عليه في ما ذهب إليه، فإنني أوشكت أو غصت إلى حد لم أجد حتى لحظة أفكر بها كيف أخرج من “خنادق الحب” بل دفعني ذلك إلى عدم تجربة قراءتها من جديد خشيةً على نفسي ألم الفراق مرة أُخرى.