الغرائبية وتداخل الأزمنة في رواية (الخلود) للروائي الفرنسي ميلان كونديرا

نادية الدليّميّ | ناقدة وكاتبة عراقية

ميلان كونديرا روائيٌّ وفيلسوفٌ وشاعرٌ فرنسيٌّ من أصولٍ تشيكيةٍ، تتصف رواياته غالباً بتداخل السرد الروائي فيها بأشكال أخرى كالمقال الفلسفي، والنظريات الاجتماعية والأسئلة الوجودية مما يجعلها بعيدةً عن منطقة التسلية، والإلهاء، فبالرغم من جماهيرية الفن الروائي الا أنَّه في كتابته لا يولي الأهمية لموضوع العمل، أو مضمونه بل ينصب اهتمامه على الأسلوب الذي قد لا يتناسب مع ذوق العامة من القراء فهو يرى أنَّ (الشيء الجوهري في الرواية هو ما لا يمكن قوله إلا في الرواية، وفي كل اقتباسٍ لا يبقى سوى الشيء غير الجوهري، وفي هذه الأيام على كل من يتوافر لديه القدر الكافي من الجنون لكي يستمر اليوم في كتابة الروايات أن يكتبها بطريقة يجعل اقتباسها متعذراً حماية لها وبعبارة أخرى، طريقة تجعلها غير قابلة لأن تروى) .


تنقسم رواية ( الخلود) لكونديرا التي ترجمها محمد التهامي العماري، وصدرت عن المركز الثقافي العربي بـ 400 صفحة من القطع المتوسط سنة 2014 م إلى سبعة أجزاء هي: الوجه، والخلود، والكفاح، والإنسان العاطفي، والصدفة، و المينا، والاحتفال، وقد تناول موضوعاتٍ مختلفةً متباينةً، ومترابطةً، متوافقةً ومتناقضةً، ولعلَّ ما يميزها هو ذلك التناغم الخفي بين تفاصيلها لدرجةٍ يصعب معها على القارىء تفكيكها، أو تلخيص موضوعها، فهي بناءٌ فنيٌّ شيده كونديرا بدقةٍ وذكاءٍ وعمقٍ موشّى بأفكار فلسفيةٍ تحث العقل، وقد تعمد معه الحفاظ على الحس التشويقي من خلال لمسه لخبايا النفس البشرية، والامعان في التفاصيل الحياتية التي قد تمر دون إثارةٍ ، والوقوف عند بعض اللقطات اليومية العابرة التي يستعصي على الذهن تفسيرها، فيعتادها على غموضها مثيراً الأمر بوضعه أمام القارىء، ويخلق له بيئةً فلسفيةً صالحةً لنمو الأسئلة، والتأمل فيستشعر ما كان من المفترض أن يشعر به وهو يمر بذات الأمر،يسترسل بالأحداث دون الاستناد على الدلالات المكانية والزمانية، ودون الإلتزام بالتدرج المتسلسل منطقياً وفق المعيار السببي للحدث؛ فكونديرا في روايته لا يعطي جواباً للقارىء، بل يثير في ذهنه الأسئلة ويخلص الى استجوابه باعتماده ركائز مبتكرة غير مألوفة في الفن الروائي الكلاسيكي فبدلاً من حكايةٍ واحدةٍ توجد عدة حكاياتٍ مستقلةٍ كلٌّ بذاتها كروافد معرفية لا تلبث أن تجتمع لتصب في مغزىً واحدٍ وهو ثيمة الرواية ،أما تداخلها فيأتي بطريقةٍ متقنةٍ موظفةٍ توظيفاً دقيقاً بشكلٍ يجعل منها عامل جذبٍ وإدهاشٍ للقارىء وقد ينفر منها بعضٌ ممن اعتادوا على الرواية التقليدية التي ترتكز على الحدث ونموه تحت سقف السبابة، والمنطقية فيبدأ الرواية بلقطة لإيماءةٍ عابرةٍ من امرأة مجهولة تثير في ذهنه كراوٍ وبطلٍ للرواية فكرة الاسترسال في تكوين حياة افتراضية لتلك المرأة التي لا تلبث أن تصبح شخصيةً محوريةً في حياة مقابلة ويتنحى هو الى دور الراوي العليم، ومن ثمَّ يعود في نهاية الأمر الى التماهي، والمزج بين الحياتين، وتداخل الأدوار دون أيّ إرباك للمشهد!
ويستمر كونديرا في غرائبيته حتى في شخصيات الرواية، فهو يستحضر شخصياتٍ تاريخيةً حقيقيةً خالدةً مثل ( نابليون ) والكاتب الأمريكي ( إرنست همنغواي ) و الأديب الألماني ( غوته)، والموسيقار (بتهوفن ) والكاتبة والفنانة الألمانية ( بيتينا فون أرنيم )، وكذلك اقتباس شخصياتٍ روائيةٍ مبتدعةٍ في أعمال روائية سابقة مثل شخصيتي (الأمير ميكشين)، و (هيبوليت) من رواية (الأخوة كرامازوف) لدوستوفيسكي ويدخل هذه الشخصيات في عالم الرواية حيناً ، وأحياناً في عالم آخر أو أخير يصنعه لأبطاله الذين لم يجمعهم الزمن ذاته في الواقع، ويُجري على ألسنتها حواراتٍ شائقةٍ وعميقةٍ واضعاً إياها في قالبٍ فنيٍّ مقنعٍ دون أن يشعر القارىء أنَّها دخيلةٍ على البنية الدرامية للرواية، ففي فصل الخلود نراه يجمع بين همنغواي، وغوته بلقاء
و حوار، ومن ثمَّ يعود ليستدرك بلسان الراوي بإجابةٍ لما يفترض أن يتبادر الى ذهن القارىء من سؤال : ( ولعلكم ستسألونني من أين جاءتني فكرة الجمع بين هذين الرجلين تحديداً.
أيُمكن تصور ثنائي أكثر اعتباطية منهما؟ لا شيء يجمع بينهما! وأي ضير في هذا! مع من يفضل غوته في نظركم تمضية وقته في الآخرة؟) ص96.
وفي وصفٍ له لمفهوم الرواية يقول كونديرا: (آسف أن تكون كل الروايات تقريباً التي كتبت حتى يومنا هذا خاضعة بشكل مفرط لقاعدة وحدة الحدث . إنَّ التوتر الدرامي هو اللعنة الحقيقية التي حلّت بالرواية لأنه يحوّل كل شيء بما في ذلك أبدع الصفحات ، وأكثر المشاهد والملاحظات إدهاشاً الى مجرد مرحلة تقود الى الحل النهائي الذي يتركز فيه معنى كل ما سبقه ).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى