وثائق تخطئتي للسيَاب ونازك الملائكة، من كتاب (قضايا الشعر المعاصر )

ثناء حاج صالح | سورية _ ألمانيا

أنشر هنا بعض الوثائق التي اعتمدت عليها في تخطئتي لبدر شاكر السيَاب في استخدامه ( فعَل) كجواز لمستفعلن في أخر الشطر في بعض قصائده.
في الصفحة 63 و64 توضّح نازك عدم جواز الخروج على تفعيلات الشعر الخليلي . وتسمي الشطر الذي ينتهي بتفعيلة خارجة على قواعد الخليل بأنه شطر ناشز ومغلوط . وهذا يعني أنه إذا كانت (فعل) لا تنتمي لجوازات الرجز فاستخدامها خطأ . والشطر الذي ينتهي بها هو شطر ناشز مغلوط حسب تعبير نازك نفسها .
في الصفحة 140تقول نازك : إن مستفعلن طرأ عليها زحاف فتحولت إلى فعَل.
وهذا الكلام غير صحيح .
لأن مستفعلن لا تتحول بالزحاف إلى فعل .
لكن اعتقادها الخاطئ هذا هو ما جعلها تسكت على استخدام (فعَل) في قصيدة أنشودة المطر وغيرها عند السيّاب.
وهي تسمي الخروج عن التفعيلة بالغلط ، والخطأ، والنشوز ، والاختلال في الوزن . وتعيبه على الشعراء جميعا بأسلوب تهكمي.
شعر التفعيلة يلتزم بجميع قوانين العروض الخليلي، فيما يتعلق بالزحافات، وأنواعها، والاحتفاظ بمواضعها، في الشطر، مسحوبة إلى السطر. وقد شدّدت نازك الملائكة جدا على أهمية التقيُّد بالتشكيلات التفعيلية المستخدمة في العروض التقليدي الخليلي، وعدم مفارقتها، أو الخروج عليها، نهائيا. وحددت فرقا واحدا فقط ، بين كتابة الشعر العمودي، والتفعيلي الحر ، هو : حرية تكرار التفعيلة المعتمَدة، في الحشو، دون التقيد بعدد محدد للتفعيلات فقط. وهذا يتعلق فقط بالبحور ذات التفعيلة المتماثلة ،كالرجز والكامل، مثلا. في حين أنها منعت تكرار التفعيلة، التي تأتي مختلفة، في الضرب أو العروض، مثل فعولن في الوافر. وألزمت الشاعر بأن يتقيَد باستخدامها، مرة واحدة فقط، في آخر السطر؛ كي لا يخرج عن قواعد الخليل، في استخدامها. وليس هذا موضع الاستدلال. ولكن القصد من ذكر هذا، هو: إيضاح صرامة التقيد بكل قواعد العروض الخليلي، في الشعر التفعيلي. وخاصة، في ما يتعلق بمسألة الجوازات، التي نالت الحظ الأوفر من التشديد عليها، من قبل نازك الملائكة، في كتابها (قضايا الشعر المعاصر )، والذي بيَنت فيه ،كل هذه التفاصيل، بدقة لا تقبل ادعاء الغموض، أو اللبس فيها.
وقد عابت نازك خروج الشعراء عن جوازات التفعيلة المستخدمة، وانتقدته. واعتبرت ذلك كلّه، من الأخطاء العروضية، المرتكبة في الشعر الحر، نتيجة عدم معرفة الشاعر، وجهله بالعَروض. ولم يقتصر انتقادها على الشعراء الناشئين فقط ، بل شملت بهذا الانتقاد بعض الراسخين، في الشعر الحر، وقالت لإيضاح مسألة التقيّد بجميع قوانين العروض التقليدي، في شأن الزحافات، ومواضع استخدامها،حرفيا:
” فإذا كتبنا قصيدة حرة على وزن الرجز، فمن المنطقي أن نتقيد بقوانين العروض الخاصة ببحر الرجز، جميعا ما عدا التقيّد بعدد معين من التفعيلات، في كل شطر ” (1)
ولننظر الآن إلى ما فعله بدر شاكر السياب، في قصيدة أنشودة المطر، عندما استخدم ( فعولْ وفعلْ) في أواخر بعض سطورها. ولنسـأل : هل تقيَّد السيّاب بقوانين الرجز ؟ وهل وجود ( فعولْ وفعلْ) في أنشودة المطر جائز وصحيح، وفقاً لقوانين الشعر التفعيلي الحر، أو الشعر العمودي التقليدي؟
الجواب : لا .السيَّاب خالف قوانين الرجز ، وخرج على قواعد الشعر التفعيلي ، وما فعله غير صحيح.
فعولن في ضرب الرجز هي متفعلن ، التي تم قطع الوتد فيها، فأصبحت متفعلْ، ثم نُقِلَتْ إلى فعولن، وهي تصح في آخر السطر فقط؛ لعلّة القَطع. أما ( فعولْ وفعلْ ) فلا يصحّان على الإطلاق، كجواز لمستفعلن. ووجودهما في الشعر التفعيلي والعمودي يُعدّ خطأ عروضيا واضحا. ولا مجال للقبول بالخطأ، ولا للاستسلام له، أيّا كان الشاعر الذي ارتكبه. ومهما كان مستوى شاعريته، وحجم مكانته، ومحبته في قلوب الجماهير. وحتى لو كان هذا الشاعر هو بدر شاكر السياب نفسه، أو نازك الملائكة التي وضعت قواعد شعر التفعيلة. طالما أن هذه القواعد تمنع استخدام تفعيلة شاذة ، لا تنتمي للجوازات المعروفة، في القواعد الخليلية . وطالما أن الاستثناء في تسويغ ارتكاب الخطأ العروضي غير وارد، على الإطلاق، وفقا لكلام نازك الملائكة نفسها.
لذلك، يمكننا الحكم بكل وضوح وصراحة، على بدر شاكر السياب، الذي أورد (فَعُل وفعولْ) في قصيدته أنشودة المطر، بأنه: ارتكب خطأ عروضيا غير جائز على الإطلاق .
ولقد توهَمت نازك الملائكة مخطئة، بأن (فعلْ) التي استخدمها السياب، ما هي إلا جواز صحيح لمستفعلن؛ فلذلك لم تنتقد السيّاب على استخدامه لها. وهي التي انتقدته، في مواضع كثيرة ،في شؤون شعرية أخرى. وقد كانت تكثر من نقدها لشعراء كبار، مشهود لهم برهافة الشاعرية في عصرهم، مثل نزار قباني، وصلاح عبد الصبور، وفدوى طوقان، وعلي الحيدري ، وغيرهم كثر من الشعراء المرموقين.
ومثال على ذلك النقد: أنها عابت استخدام نزار قباني وفدوى طوقان (مستفعلان ومفاعلان) في آخر السطر، في القصيدة القائمة على تفعيلة الرجز؛ لكون هذين الجوازين غير مستخدمين، في العروض التقليدي . وكانت لهجتها الحادة في انتقاد نزار قباني لاذعة وساخرة، وكأنها تؤنّبه، عندما قالت : ” حتى أنه ( تقصد :نزار قباني ) نسيَ أذنه الموسيقية وتحرّر منها، فنسمعه يقول :
أكتب للصغار
للعرب الصغار حين يوجدون ( مفاعلان ) أكتب للذين سوف يولدون (مفاعلان ) “
وعابت الخطأ نفسه، عند فدوى طوقان، وقالت متهكّمة: “إن هذا شنيع. وأنا على يقين من أن نزار وفدوى سوف يلاحظان معنى ما أقول، ويقرَّان أنه ناشز ، وإنما يقعان فيه على ما أظن، وهما يشعران بنفور منه ، غير أن دوّار الحرية قد أصابهما، فجعلهما يسكتان صوت فطرتهما الشعرية “.(7) .
فانظر إلى سخطها عليهما، وهي تتحدث عن إصابتهما بدوّار الحريّة، الذي أسكت فطرتهما الشعرية؛ فقط لأنهما استخدما جوازيَن لمستفعلن، في موضع لا يستخدمهما فيه العروض التقليدي .
ونازك التي وصفت ( فعولْ ) التي جاءت في أواخر السطور، في قصيدة (تاريخ الكلمة ) لفدوى طوقان على الرجز بأنها تفعيلة (شاذة ). وصفت أيضا الخلط في استخدام التشكيلات (فعولْ ومستفعلان وفعل) غير الجائزة، الذي مارسته فدوى طوقان في قصيدتها ، ساخطة وساخرة بقولها :”إن أبيات فدوى طوقان تبدو مصابة باختلال فظيع يصكُ السمع العربي، ويعذِّب حس الموسيقى، لدى أي إنسان مرهف السمع” (1).
مع أنَّ ( فعلْ ) التي استخدمتها فدوى، هي نفسها التي استخدمها بدر شاكر السياب، في قصيدته أنشودة المطر، في كلمة (مطر) التي تكررت كثيرا في القصيدة، وغيرها من الكلمات .
فلا شك أن الخطأ العروضي، الذي ارتكبه بدر شاكر السياب، بإيراده الوتد المفرد( فعل / مطر) لا يمكن أن يتحوَّل إلى قاعدة تحتذى، أو يُتَخذ مصدرا للتشريع، بحجة أنَّ من ارتكبه هو بدر شاكر السياب، الشاعر الكبير الشهير المشهود له بالشاعرية، وبكونه من مؤسسي الشعر الحر. فهو إن كان كذلك، فالخطأ الذي ارتكبه يؤخذ عليه، بتحامل أكبر؛ لأن خطأه يتحوّل من خطإ عادي يمكن أن يرتكبه أي شاعر، إلى خطأ منهجي خطير؛ لأن من قام به إنَما هو مؤسّس للشعر الحرّ، يُخشى أن يُقتدى بأخطائه ، وليس مجرد شاعر عادي .
لكن ما السبب الذي منع نازك من نقد بدر شاكر السياب، عندما استخدم الوتد الفردي (فعل //0) في أنشودة المطر المبنية على مستفعلن ؟
الجواب: يبدو لي جليَّا : أن نازك نفسها، في تلك الفترة، كانت تظن مخطئة: أن (فعلْ) هذه هي من جوازات مستفعلن، عندما يطالها الزحاف. ويؤكد هذا الاحتمال موقفُها من (فعلْ)، ووصفها لها، في تعقيبها على قصيدة أخرى لبدر شاكر السياب، بعنوان ( النهر والموت ) إذ قالت:” إن الوزن في هذه القصيدة جاري على العروض العربي تمام الجريان، فهو من بحر الرجز، وقد أصاب التفعيلة الأخيرة الزحاف، فتحولَت مستفعلن إلى فعل ” .فهذا بمثابة إقرار واضح من نازك بمجانبتها للصواب إذ توهَّمت أن (فعل) من جوازات مستفعلن، وهي في الحقيقة ليست كذلك. ولا شكّ أن نازك غير معصومة عن الخطأ، مثلها مثل بدر شاكر السياب، في تصورهما الخاطئ : أن زحافا ما قد يطال مستفعلن، فيحولها إلى فعل. لكن كان على نازك أن تدقق معلوماتها، وتتحقق منها، قبل أن تنشر كلامها بخصوص الزحاف، الذي طال مستفعلن فحوَّلها إلى فعل . وهي التي تعيب على الشعراء الراسخين، قلّة خبرتهم بالعروض، وارتكابهم الأخطاء العروضية، وخلطهم في الشكيلات بين التفعيلات الشاذة، وغير المنتمية إلى القواعد الخليلية. لكن ربما غرَتها ثقتها ببدر شاكر السياب، وبأنه من غير المعقول أن يستخدم (فعل) في قصيدته، مع كل ذلك الإلحاح، وهو غير متأكد، من حقيقة كونها إحدى جوازات مستفعلن، أو لا. فاعتمادها عليه، وثقتها به جعلها تتقاعس، عن التحقق من المعلومة فيما يبدو. ومن المؤكد أنهما كلاهما مخطئان، ولم يكونا دقيقين في السكوت على(فعلْ ) هذه وتمريرها..

(1) – الملائكة نازك، قضايا الشعر المعاصر – الطبعة الأولى –1962 – دار التضامن – بيروت لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى