وحي المدن

د. علي زين العابدين الحسيني | مصر

تمنى الأستاذ زكي مبارك زيارة بلاد “الحجاز” ليكتب عن وطن الرسول كتاباً جامعاً كما صرّح بذلك على صفحات مجلة الرسالة سنة 1940م، وظلت هذه أمنيته لكنها لم تتحقق مع أنّه كتب في مقالاته الكثير عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما لو جُمع كان كتاباً حافلاً، وإنْ كان من أسف فأسفٌ على عدم زيارته أرض الحجاز، فقد حرمنا من كتابةٍ أدبيةٍ عميقة.

إنّ قضية زيارة بلدة ما للكتابة عنها كانت تشغل أذهان كثير من الأدباء، فهم يرون في زيارة المكان قوة الوصف وصدق الطرح، ثم إنّ أوصاف مَن رأي الشيء بعينه ستكون أدلّ في وصفها مِن الذي سمع بها فكتب عنها، فالأول جمع بين الرؤية والكتابة، والآخر اكتفى بالكتابة، وفي الأدب فن ذائع الصيت يعرف بأدب الرحلات.

قدّم زكي مبارك في وصف المدن بعض الكتابات المهمة، ومنها كتابه (ذكريات باريس) وهو كتاب مهم له قيمته الأدبية والاجتماعية، وحياة فكرية واسعة، وقد كان كتابه هذا طليعةَ كثيرٍ من المؤلفات التي نشرت فيما بعد عن باريس ولندن وبرلين، وكان زائرو باريس يصطحبون كتابه أثناء زيارتها، ويتتبعون الأماكن التي وصفها أو كتب عنها.

بعدها زار “زكي مبارك” بغداد ماكثاً فيها بضعة أشهر، فتبلورت أفكاره، وكثرت مقالاته، ورأى فيها ما لم يكن في غيرها، فأمسك قلمه بالكتابة عنها عرفاناً لفضلها عليه، وتحيةً لتلك المدينة التي اتصل بها نحو تسعة أشهر، قضاها في يقظة عقلية، وحياة أدبية، ونشوة علمية أوحت إلى قلمه كتابه “وحي بغداد”، فملأ صفحاته بكثير من الأخبار والأحداث.

ومن بغداد سنة 1938 أيضاً نشر عدة مقالات في مجلة “الرسالة” تحت عنوان “ليلى المريضة في العراق”، ثم صدرت هذه المقالات في كتاب سنة 1939 يحمل عنوانها السابق، وهو كتاب استحدث فيه فناً جديداً من فنون الأدب، فابتكر هذا الفن بأسلوبه الرشيق حينما نقل الغزل من الشعر إلى النثر.

وكان لكتابه هذا صدى عند أدباء عصره، وتلقاه الجميع بالقبول والترحيب، ولقوة أسلوبه صرّح الأستاذ علي الطنطاوي أنه قرأه خمس مرات، وأقرّ أن زكي مبارك يملك أجمل أسلوب في هذا العصر، وهو أكتب من الطنطاوي نفسه وأحلى أسلوباً، ولعل جمال كتاباته ترجع إلى أنه إذا أراد وصف شيء من الأحداث فإنه يصفها بأسلوب رشيق دون معرفة شيءٍ عن ملابسات هذه الأحداث.

لهذا تحيّر الأستاذ علي الطنطاوي نفسه من كتابه “ليلى المريضة في العراق”، فقال في ذكرياته 4/161: “قرأت كتابه (ليلى المريضة في العراق) خمس مرات، وما فهمت ما ليلى هذه؟ أهي حقيقة أم رمز، وهل يصف واقعاً أو يسرد خيالاً؟ ماذا يريد أن يقول، ما عرفت ولا وجدت من عرف، ولكنه على ذلك كلام جميل جميل، أُقرّ أنه يملك أجمل أسلوب في هذا العصر”.

أعود فأقول بأن زكي مبارك رجا أن يكون كتابه “وحي بغداد” دستوراً يهتدي به الآخرون، وسُنة حسنة يتبعها جموع المشتغلين بالأدب القاطنين العواصم العربية والإسلامية، عسى أن يلتفت الناشئة إلى بلادهم وما فيها مما لا يوجد في بلاد غيرهم، ولعلّ هذه السُنة الكتابية تحبب المسلمين في بلادهم بما يكتبونه من العبارات الرائقة والأوصاف الخلاّبة.

ما نتطلع إليه أن يكتب كلّ من يملك أدوات الكتابة وصفاً عاماً عن البلاد التي زارها أو سكن فيها، وقد ألهمني “وحي بغداد” لزكي مبارك فكرة كتابي “وحي كوالا لمبور”، فتحية مصحوبة بالعرفان بالجميل لهذه الظاهرة الأدبية الفريدة المتمثلة في شخصية الدكاترة “زكي مبارك”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى