فلاسفة وعلماء يناقشون كتاب ” أنثروبولوجيا الحج الإسلامي” لعبد الرحيم العطري
متابعة: محمد قنفودي
استضاف فضاء الوساطة يوم الأربعاء 21 أبريل 2021 ضمن صالونه الأكاديمي، على تطبيق زوم، ثلة من الباحثين والأكاديميين وجمهور المتابعين والذي خُصص لتقديم كتاب “أنثروبولوجيا الحج الإسلامي: من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح” للأستاذ عبد الرحيم العطري والصادر عن منشورات باب الحكمة. وهو كتاب من القطع المتوسط. وهو كتاب يتناول فيه الباحث عبد الرحيم تجربته الحية انطلاقا مما راكمه من ملاحظات وتجارب ومعطيات في مراحل مختلفة خلال عمراته وحجه بدءا من الاستعداد ومرورا بأداء المناسك وحتى عودته كمعتمر أو كحاج.
وقد عرفت هذه الجلسة الافتراضية الأولى ضمن فعاليات الصالون الأكاديمي التي أطلقها فضاء الوساطة كأحد مكونات برنامجه العام والسنوي لسنة 2021، مشاركة لكل من الأستاذة الباحثة كنزة القاسمي رئيسة شعبة السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة لبن زهر بأكَادير)، إلى جانب الأستاذ الباحث عمر بنعياش من شعبة السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة محمد الخامس بالرباط). كما قام بتنشيط هذه الجلسة الأستاذ الباحث عبد الفتاح الزين من المعهد الجامعي للبحث العلمي ورئيس فضاء الوساطة؛ حيث عرفت الجلسة نقاشا عميقا وغنيا لمضامين هذا الكتاب بأبعاده النظرية والمنهجية والتأويلية سواء من طرف الأساتذة الباحثين أو من طرف الجمهور المتابع أساتذة باحثة وطلبة من بين الباحثين الشباب).
وافتُتح النشاط بكلمة ترحيبية للأستاذ عبد الفتاح الزين رئيس فضاء الوساطة بالأساتذة الضيوف وعموم الحاضرين، اغتنم فيها الفرصة للتعريف بأهداف وأنشطة فضاء الوساطة وخصوصية الانتماء إليها باعتبار أنأعضائها من بين الطلبة الباحثين الشباب من مستوى الماستر والدكتوراه وهو ما جعل الفضاء إطار للتكوين بالبحث والاشتغال بقضايا البحث في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل تطوعي يساعد المنخرط في صقل مواهبه وتنمية قدراته وتطوير كفاءاته عبر الاحتكاك بزملائه والانخراط في مشاريع ذاتية مختارة بعيدا عن الإكراهات المؤسسية التي خبرها ويعيشها خلال تكوينه وإعداد للشهادات وذل بما يغني تجربته التكوينية وفي علاقة معها.
بعد ذلك، أكد الأستاذ عبد الفتاح الزين على أهمية هذا المؤلف ضمن الحقل الأنثروبولوجي، باعتباره يحكي تجربة حجية تنقلنا من كتابات الرحلات الحجازية أو الحجية كما تناولها المؤرخون والتي وصلتنا متونها على شكل وثائق ومخطوطات، إلى تجربة جديدة يجمع فيها الكاتب بين الحاج والباحث الممارس لطقوس العمرة والحج. وهي كتابات بدأت تشكل موضوعا ضمن الحقل السوسيولوجي والأنثربولوجي على كتابات مغاربة من قبيل الأستاذ عبد الله حمودي وغيرهم. وأشار إلى أن هذه البرمجة للكتاب تأتي من حيث مساءلته لنا :
سواء على مستوى منهجية البحث المعتمدة وكيفية تدبيرها من جهة، وانتقاء تقنيات جمع المعطيات والمعلومات وكيفية التعامل معها من جهة أخرى، ناهيك عن المقاربات المعتمدة في تحليل المدونات سواء ما تم انتقاؤه في الميدان أو من خلال الوثائق والمصادر …
وكذا على مستوى الكتابة عبر نحت المفاهيم واستخلاصها من اللغة العامة، إلى جانب أحرأتها في بناء المعنى الذي يريد الباحث أن يكشفه لنا كنتيجة لهذا البحث سواء كغوص في التجربة الشخصية أو كملاحظة بالمشاركة من بين الملاحظات الأخرى التي قام الباحث بتوليفها لتقديم “رواية علمية” كفيلة بجعل القارئ سواء كمختص أو مهتم ملتقطا للأفكار التي تؤثث النص الذي سهر الأستاذ عبد الرحيم علي هندسة معماره.
وعند نهاية إثارته لهذه القضايا، أعطى الكلمة لكل من الأستاذة كنزة القاسمي والأستاذ عمر بنعياش، واللذين كانت قراءتهما التقديمية لمضامين الكتاب وتأويل تجربة الأستاذ العطري الحجية والتي سعى من خلالها العبور من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح كالتالي :
المداخلة الأولى : الأستاذة كنزة القاسمي
في بداية مداخلتها، اعتبرت الأستاذة أن كتاب “أنثروبولوجيا الحج الإسلامي”يقدم عملا بحثيا يعتمد على تقنتي الملاحظة بالمشاركة والمقابلة، حيث عمد الباحث لتسجيل عدد من المقابلات مع الحجاج والمعتمرين، بغية توفير معطيات ميدانية وتحقيق معرفة قابلة للتأويل، مضيفة، بأن المؤلف قد أكد على صعوبة الفصل بين الباحث والمبحوث في الكثير من مواطن الكتاب، خاصة وأنه بدأ كتابه بمفهوم اللابداية وختمه بمفهوم اللانهاية، وهو ما يشير إلى الحاجة على الانفتاح نحو مسارات منهجية ومعرفية جديدة تعيد التفكير في الدين والتدين، إضافة لما تشكله سجالات الدين وطرح السؤال حوله طقوسه التدينية من مراقبة مجتمعية، تظل محفوفة بكثير من المزالق كالتبديع والتكفير وإهدار الدم، خاصة في مجتمع يؤمن بالمطلق.
كما لاحظت الأستاذة القاسمي بأن الكتاب يضم ثلاثة عتبات : الأولى هي التفكير في الحج، والثانية تأويل التجربة الحجية، والثالتة جوارات الحج بالإضافة وما تضمنها من حديث الكاتب عن قلق العبور، وتساؤلاته حول دلالات الطواف وطقوس الحج، وضرورة قراءة الظاهرة بامتزاج الطقس الديني والروحي مع سوق الحج واللباس والمحلات والتسوّق إلى جانب ما شهدته تحولات الطقس الحجي من بعده الديني والروحي إلى الاهتمام بالمرور لمجموعة من النتائج الاجتماعية التي تترتب عنه وتحمل دلالات لها علاقة بالتراتبية والتنافسية؛ حيث يحضر اللقب الاجتماعي “الحاج” بما له من حمولة رمزية سواء على المستوى العقدي كاكتمال لأركان الإسلام الخمس أو كمكانة اجتماعية تترتب عنها عدد من الامتيازات. كما أن الأستاذة القاسمي طرحت إشكالية ثنائية الباحث-المبحوث واجتماعهما في شخص الكاتب، وإمكانية ممارسة الفعل (طقس الحج كشعيرة) والتفكير فيالإشكالية (ممارسة الشعيرة وما يحيط بها من تمثلات وممارسات سوسيوثقافية) في نفس الآن، أي المزاوجة بين الفعل “المقدس” وهو الحج وبين البحث “العلمي والمعرفي” الذي يمارسه الباحث المبحوث في نفس الوقت مستشهدة، في نفس الوقت، بما خطّه الكاتب في متن الكتاب : “[…] هي تجربة حاجٍّ أو تجربةٌ دينية أنقل فيها أسئلة وملاحظات وقراءات بعين المراقب والباحثِ المبحوث”.
وفي محوره الخاص بأقلام الحج، يقدم الكاتب حسب الأستاذة القاسمي عددا من الباحثين والكتاب ممن أرخوا لتجربة الحج وكتبوا عنها،؛ إذ جمع بين الرحالة والمستشرقين والباحثين والأدباء والشعراء، طارحا في نفس الوقت عددا من الإشكاليات المنهجية كموضوع للتفكير و البحثالأنثروبولوجي كأفق للتحليل وللتأويل. ومنها كيفية التعامل مع هذا الرصيد المعرفي المتنوع؟ ومن سيكتب النص الحجي تأويلا وصياغة هل هو الباحث أم المبحوث؟ معتبرا أن الكاتب نفسه قد صرح بالقول بأن “[…] التدفق الشديد للمعلومات يتحول إلى أزمة تدبير”. في حين يتناول الفصل الأخير من الكتاب مدخلا إلى النقد المنفتح؛ حيث تضمن قراءة نقدية حذرة مع انفتاح على آفاق بحثية أخرى يفرضها ما سماه الكاتب باللايقين.
المداخلة الثانية : الأستاذ عمر بنعياش
افتتح مداخلته بقولتين :
الأولى لمحيي الدين ابن عربي، قال فيها : { إذا قرأت الكتب فاعرف حالك وانظر ما خاطبك فيها، فإن الأحوال محل الخطاب والذوات تحمله}،
وأخرى للفيلسوف المغربي الراحل محمد عابد الجابري قال فيها {لا تنتقد كتابا لم تقرأه}.
معتبرا بأن القولتين تحيلان على ضرورة البحث عن معنى ما نقرأه في ذواتنا ونفوسنا حتى نجده، وهو ما يشكل بحسب الأستاذ بنعياش موضوع كتاب “أنثروبولوجيا الحج الإسلامي”، وفيه البحث عن الله في التجربة الحجية؛ إذ أن ما يشكل المعنى العميق للكتاب من حيث الرغبة في ملاقاة الله في الأمكنة التي نزل فيها الوحي بما أوحى الله لنبيه. فالكتاب إذاً – يضيف الأستاذ بنعياش – هو سفر نحو السماء، ولا يمكن أن يكون “خالصا” لوجود عتبات وجوارات في النص الحجي.
كما أبدى الأستاذ القارئ أيضا عدداً من الملاحظات. ومنها صدور الكتاب في طبعة أنيقة “تليق بنص فاخر” حسب تعبيره، أي أن الكتاب ليس سوقيا (يعني طبعة شعبية) بل نص “متطهر”، وكذلك لغة الكتاب سلسلة وانسيابية، استطاع المؤلف أن يتفوق من خلالها في صناعة “عناوين بلاغية” من قبيل :” السوق الحجية”، “النص الأحد”، “التدين الفرجوي”، “الحج الرقمي”، الخ. كما حرص أيضا على نحت عدد من المفردات مثل : “الاستنوار”، “الانهمام”، “الاستجوار”، الخ. وقد اتبع الأستاذ بنعياش من خلال قراءته للكتاب أسلوب السؤال والجواب لإضافة بعد تشويقي وإشكالي على مضامين ومتون الكتاب، وما عاشه المؤلف من تجربة ذاتية ومعرفية.
وقد صاغ السؤال الأول على الشكل التالي : هل أوصي بقراءة الكتاب، ليجيب : ” نعم إذا كان عني فأنا أقول بكل تأكيد لأني قرأته باستماتة واستوقفتني الكثير من أفكاره، لكنه أضاف لي قلق البحث عن المعنى”.
أما السؤال الثاني، فصيغ كالتالي : هل الكتاب لعموم القراء؟ ليجيب بالإيجاب معتبرا بأن الكتاب موجه لعموم الناس وأيضا للمتخصصين على الرغم من أن عنوان الكتاب يضم مفهوما ععلميا يصعب فهمه من طرف غير المختصين. وهو أمر يمكن تجاوزه مع تقديم شروحات بسيطة في مضمونه تفسر المعنى من وراء المصطلح وغايته في الكتاب.
كما أضاف أيضا بأن المؤلف ظل على طول نصه الحجي يعتمر ثلاتة قبعات (أو تموقعات):
الأولى، موقع المسلم العادي الذي يؤدي الفرض ويمارس الطقس،
والثانية الباحث الذي يبحث عن المعنى من وراء الطقس،
والثالت الصحفي الذي يبحث عن الأخبار ويعلق عليها ويتخذ منها مسافة موضوعية.
ليضيف سؤالا آخر كالتالي : ماذا أضاف الكاتب الإسلامي للحج؟ ليجيب بالقول، بأن الكتاب يحمل تدقيقا انتمائيا للحج من حيث الدين، باعتباره طقسا لا يختص به المسلمون وحدهم. فهناك طقوس حجية متعددة من داخل الإسلام نفسه، كالشيعة الذين يحجون إلى ضريح الإمام الحسين، والبنغلادشيون الذي يحجون إلى نهر توراغ في أكبر تجمع لهم قبل الحج إلى مكة … وغيرهم. وهناك أيضا طقوس حجية من خارج الإسلام كالهندوس والبوذية وغيرهم من الديانات الأخرى.
وارتأى الأستاذ بنعياش أن الكتاب يقوم على ثلاثة ركائز : الأولى ترتبط بالعتبات، والثانية بالجوارات، والأخيرة بالنقد المنفتح؛ حيث يبرز فيها مفهوما اللابداية واللانهاية، مما يعني أن تجربة الحج قد سبقت الكتابة حولها وستستمر الكتابة عنها مستقبلا باعتبارها تجربة مفتوحة ومستمرة. كما أضاف أيضا، أن التفكير في المقدس لا يعني التشكيك فيه، حيث استعار المؤلف تعبيرا على صعوبة الكتابة حول طقوس الناس التدينية بالقول بأن : “الكتابة أشبه ما تكون بالكتابة بالإبر على آماق البصر”[1]. إضافة لانغماس المؤلف داخل تجربة الحج كأي فرد ينتمي لجماعة ويكون أيضا باحثا ملتزما بالحذر المنهجي والموضوعي، وهنا يطرح قلق العبور وعسر المعنى. وهو ما يظهر أيضا النفحة الصوفية التي خُطّ بها الكتاب إلى جانب محاولة التجريد وخلق المسافة الموضوعية. وقد برز هذا مع اعتماد مصطلحات، مثل : المحنة، والعتبات، والامتحان، الخ. ليختم الأستاذ بنعياش مداخلته بسؤال المعنى مما نقوم به في هذه الحياة.
المداخلة التالثة : تعقيب الأستاذ عبد الرحيم العطري
في البداية، شكر الأستاذ عبد الرحيم العطري فضاء الوساطة وجميع أعضائه على الاستضافة وتخصيص هذا النشاط لقراءة كتابه، معتبرا بأن صياغة وإنجاز التقرير، لم يكن ليتم لولا الحجر الصحي سنة 2020، شاكرا “فيروس كورنا” على هديته والفرصة التي منحها له من أجل العودة للذات وإنهاء المشاريع العالقة والمعلقة. مضيفا بأنه قد تحصلت لديه مجموعة من التسجيلات ومذكرات الطريق والملاحظات من تجارب الذهاب والإياب إلى مكة والمدينة بالمملكة العربية السعودية منذ سنة 2014؛ حيث لاحظ بعد أول تجربة عمرة قام بمناسكها أن الناس بالمغرب أخذوا ينادوه بالحاج رغم أن زيارته هذه كانت للعمرة وليست للحج. وتساءل عن الحضور القوي لهذا اللقب (الحاج) ورمزيته الاجتماعية ودوره التراتبي، وهو ما دفعه للدخول في غمار البحث بعد تجربته الحجية الأولى مرافقا بأنواع من القلق :
تمثلأوله في الارتباط بالحج في سياق عدد من الأسئلة منها تآكل الديني أو تراجع الديني، والثانية هو عودة الديني، معتبرا بأن الكتابة عن الحج يعرف سياقات مختلفة حول تدبير التديّن.
أما القلق الثاني، فارتبط بسؤال العدة المنهجية التي سينتصر لها الباحث وينتمي لها، متسائلا في نفس الوقت، هل سأدبر الطقس بما تقتضيه واجبات الحج؟ وعن الكيفية التي سيتم بها تدبير العلاقة بين الباحث والمبحوث لدراسة هذه التجربة؟،
إضافة إلى قلق آخر مرتبط بالميدان، حيث ترتفع الأَمْنَنَة (من الأمن) المفرطة،؛ إذ لا يمكن لأحد أن يلقي موعظة أو يلقي درسا، فبالأحرى القيام بعمل بحثي قد يثير الشك والريبة داخل الحرم المكي.
وقد تحصلت له من هذا العمل مجموعة من الملاحظات والمدونات التي لم تكن متوقفة على الزمن الحجي فقط، بل تطلب الأمر أيضا زيارة فضاءات إجراء قرعة الحج وملاحظة ردود الأفعال، وأيضا التدريبات التي تنظمها المجالس العلمية المحلية للمقبلين على الحج … كما صرح المؤلف اطلاعه على الإحصائيات بمختلف أنواعها والتي تمكن من الوصول إليها سواء كانت ديموغرافية أو اقتصادية أو مالية … المرتبطة بالزمن الحجي من طرف المغاربة؛ حيث لاحظ مثلا أن الأرقام المالية تصل إلى أزيد من 1500 مليون دولار في السنة مثلا.
ومن أجل إنجاز الكتاب، وتحقيق البحث عن المعنى وبناء دلالات الأشياء في سياق تحليلي مشيد بموضوعية قدر الإمكان، وجد الأستاذ العطري نفسه ملزما بضرورة الرجوع الى التاريخ، باعتبار أن الحج هو حركة دائرة في الزمن والمكان، تحركها حكايات تاريخية تأسيساتية، ومرتبطة بنصوص وتأويلات ما سماه النص الأوحد، أي الفكر الوهابي السائد في الجزيرة العربية والمؤثر دينيا على المنطقة العربية والإسلامية برمتها. وهو ما قاده لتقديم تأويلات مغايرة عن ممارسة الطقوس الحجية، كالرجم الذي لا يعني بالضرورة رجم الشيطان المصلوب رمزيا على المسلة، وإنما هو استفراغ للشرور التي تكون في النفس وتستوطنها، كذلك الأمر بخصوص حلاقة الشعر، وهو ما يعني التضحية بأجمل ما يكون في الإنسان لأنه نوع من العودة الى الذات. وقد أوضح أن الحج يقدم درسا كبيرا في الافتقار (تجربة الحاجة والفقر والعوز). فرغم كل ما تمكله فإنك تبيت في العراء، وحتى اللباس الحجي هو تعرية للجسد من كل ما هو مادي.
ويضيفالأستاذ العطري أن البحث جعله يقف على جوارات للحج تحسم في المسألة الحجية، وتنتقل بالممارسة التدينية والطقس المقدس إلى كل ما هو دنيوي وإن ظل مرتبطا بالزيارة، مثل السوق الحجية، والمحلات الكبرى، وعمليات البيع والشراء. وأشار إلى أننا نكون في ممارسة قدسية ثم نخرج من الحرم لنصطدم مع السوق الحجية بكل ما تمثله بارتباط دنيوي؛ حيث يبرز انتصار الشكلانية على الجوهر. وهو ما يقود إلى مساءلة المعنى من الحج، وهل يمكن حصره في تجربة البحث عن اللقب الاجتماعي؟
كما لاحظ المؤلف أيضا بروز ما سماه بالحج الأنثوي، حيث يبرز الإصرار على تطويق النساء داخل الحرم المكي، متسائلا عن هذا التطويق في مكان مقدس؟ و ما يطرحه استحضار الجسد الأنثوي كجسد إغوائي حتى داخل المقدس، ومنها أيضا قوانين تلزم النساء أقل من 45 سنة ضرورة مرافقة محرم من أجل الأحقية في الحج مع ما يستدعي ذلك من ضرورة التفكير والتفكيك وتعميق البحث في هذا الموضوع.
إن التجربة الحجية حسب الأستاذ العطري، هي قول في الحج وقول في المنهج في نفس الآن. وهي اقتراب من سجالات الدين والتدين؛ حيث يؤكد أن مهمتنا كمنتمين للعلوم الاجتماعية ليس الوقوف مع أو ضد أو البحث عن عقلنة ممكنة لما يحدث، وإنما هو بحث فقط عن المعنى! ولنجد المعنى، فمن الضروري العودة للنصوص التأسيساتية. كما اعتبر العطري أن السعي باعتباره طقسا من طقوس الحج، هو تعبير على السعي في رحلتنا الحياتية، وهو أيضا رسالة لكي نفهم تجاوز كل منابر الإبعاد والتهميش ونشتغل على ذواتنا. فطقوس الطواف – بحذ ذاته كما يضيف العطري – هي طواف ضد عقارب الساعة، وكأنه بحث في زمان آخر. وتظل مؤشرا على أن هذا السعي هو فردي. وهو نفس الأمر فيما يخص الطقوس التي تؤدى في الحج – ما عدا الصلاة الجماعية – إنها طقوس فردية مما يؤشر على ضرورة الاشتغال على الذات، معتبرا أن ما يهم في النهاية أن الجوارات يجب تفكيكها وطرح السؤال حولها وعلى العائد الأخلاقي للحج على مجتمعاتنا.
وفي ختام مداخلته، دعا العطري الى ضرورة التفكير في مناهجنا في العلوم الاجتماعية وتجديد عدتنا المنهجية والخروج من الانهزامية المعرفية والصنمية المعرفية مسلحين بتقنيات قادرة على التقاط ما يساعدنا في بناء المعنى، مقترحا ما سماه “النقد المنفتح”. وسجل أن هذا النقد المنفتح يرتبط بثلاثة عناصر أساسية :
العنصر الأول : هو النقد التأسيساتي بالعودة الى الحكايات التأسيساتية،
والثاني هو الفهم التأويلي، بالعودة إلى الهيرمونيطيقيا والسيمولوجيا وتجاوز ثقافة الكاست المعرفي، والغوص في التأويل الخلاق الذي يقود الى فهم التأويل،
والثالت هو النحت المعرفي، أي نحت المفاهيم والمناهج والمواضيع الجديدة.
مناقشة
بعد هذه المداخلات لكل من القارئين والكاتب، تقدم الأستاذ عبد الفتاح الزين بتوليف لمجريات الحوار والنقاش الذي أثير حول الكتاب من طرف المتدخلين موضحا أنها جمعت بين الاهتمام بالشكل من خلال الكتابة والمقاربات وبالمضمون من حيث المفاهيم والأفكار والموضوعات. واعتبر بأن اقتصاد الحج شهد تحولات دالة، نقلته من سوق إسلامي عربي إلى سوق مُعَوْلَم رأسمالي تغلب عليه المنتجات الأجنبية ومنها الآسيوية تحديدا (مع غلبة للمنتوجات الصينية).
وأشار أيضا إلى قلة الأعمال البحثية التي اشتغلت على موضوع الحج في تدبير الطقوس وتعلمها، وهو ما يبرز ضرورة الحاجة إلى نصوص كثيرة في هذا المجال، لنقارن إلى أي مدى تغيرت طقوس الحج عبر الزمن؟ وأثار مسألة السياحة الدينية في علاقتها بالحج كشعيرة دينية وما يدور حولها من نقاش إيديوثقافي واقتصادي.
كما فسح الأستاذ الزين المجال للحضور من أجل التدخل والتعليق على المداخلات وطرح الأسئلة. وقد ارتبطت أغلبها بإشكالية المزاوجة بين الباحث والمبحوث في دراسة الواقعة الدينية (الحج بالنسبة للمسلم) وكيفية الاشتغال عليها خلال ممارستها في نفس الوقت مع استحضار الطابع الموضوعي بنزع القدسية عن الطقس الديني. كذلك الأمر بخصوص مفهوم الولادة الذي أشار له الأستاذ العطري في مداخلته، ومدى القدرة على التفرقة بين الولادة الاجتماعية والروحية والعلمية، فضلا عن تدبير سؤال المسافة بين ذاتية المؤلف في التاريخ وبين ذاتيته كباحث.
وقد عقب الأستاذ العطري على الأسئلة التي طرحت، مبرزا في البداية أن مفهوم الولادة يتخذ المعنى العلمي بالدرجة الأولى وعنوان الكتاب شاهد على ذلك، مشيرا إلى العنوان الفرعي : “من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح”، مضيفا أن كل تجربة بحثية تعطيني قارة علمية جديدة. فلما اشتغل المؤلف على موضوع الأعيان منحه البحث موضوع “المقدس الضرائحي”، وكذلك الأمر في موضوعات بحثية أخرى. لذلك اعتبر العطري أن مهمته في الكتاب قد انتهت. وما أبرزه من إشكالات وأسئلة منهجية وإبستيمولوجية وموضوعاتية قد تكون أساسا لبحوث قادمة ينجزها باحثون آخرون. ثم أوضح أيضا أن ما يمنح الموضوعية وعلمية النتائج هو الفهم التأويلي وليس فقط المعطيات الكمية. وهذا هو المغزى من وراء اقتراحه مدخلا منهجيا يقوم على “النقد المنفتح”، معتبرا بأن الولادة الإجتماعية أيضا قد تمت الإشارة لها من خلال اللقب السوسيوديني المحقق للتراتبية والتنافسية : لقب “الحاج”.
كما أوضح الأستاذ العطري، بأن تدبير المسألة المنهجية وخلق المسافة، نتج عما أسماه بقلق الموضوع وقلق المنهج وقلق الميدان، مضيفا بأن الكتاب خصص فصولا مهمة للمسألة المنهجية والتفكير في ثنائية الباحث والمبحوث؛ حيث يقول : “لقد اعتمدت في الكتاب على تقنيات الملاحظة بالمشاركة والمقابلة وسير الحياة، والتي تم تدبيرها في الزمن البيني – أي في الزمن الحر بين تأدية طقس وآخر -، وهو ما مكن المؤلف من اعتمار قبعة الباحث في لحظة إجراء المقابلات والملاحظة خارج الزمن الطقوسي.
بعدها اختتم الأستاذ عبد الفتاح الزين الجلسة الافتراضية بتقديم الشكر للجمهور والكاتب والأستاذين اللذين قدما قراءتهما للكتاب. وضرب موعدا للقاء مقبل.
[1] الآماق جمع أمق ومؤق، وهو مقدّم العين مما يلي الأنف وقيل مؤخّرها مما يلي الأذن.. وتدل هذه العبارة على نفاسة الشيء وعلوّ رتبته حتى أنه يستحق أن يُضحّى بالبصر من أجل نيله. تقول مثلا : “هو كلام لو كُتب بالإبر على آماق البصر لما أُدّي حقّه ” ومثلها “حُقّ أن يكتب بماء العينين”، وأقل منها “حق أن يكتب بماء الذهب”