شاهد الروائي والناقد السوري فريد مراد في ورشة للقصة القصيرة
أولا – النص القصصي
مشوارٌ في يومٍ خريفي
قد يكون المشوار الصَّباحي بالنِّسبة لي، هو إحدى الفروض الَّتي لا يمكن الإستغناء عنها، لا لشيء ..! إنَّما لأنَّها تتعلَّق بمصير حياتي، وهل هناك أغلى من الحياة؟ فالتقدّم في العمر، والمكوث في البيت، والتَّراخي والكسل، كلُّ هذه الأمور قد تؤدِّي إلى تراكم الأمراض، كإرتفاع نسبة الكولِسترول، والضَّغط، والسّكري، والقلب، وإلى ما هنالك من أزمات، من شأنها الإستعجال في رحيلك .. ولكن هذه المرّة رحيلٌ من نوعٍ خاص!
السُّويد مملكة جميلة بغاباتها ومياهها وجزرها وجبالها .. كلُّ شيءٍ في السُّويد منظّم ومخطَّط له بدقّةٍ وترتيبٍ كبير، للمشاة طريق ولسائقي الدرَّاجات طريق، ولسائقي السِّيّارات طريق … وهلمَّ جرَّاً. وما عليك إلَّا أن تتبعَ النّظام، فتكون في أمان ..
تعوّدتُ قبل أن أخرج من البيت وأسير على طريق المشاة المحاذية لنا، أن أقرِّر المدّة الزَّمنيّة لمشواري الصَّباحي، فإذا أردتها طويلة، آخذ جهة اليمين وأتابع سيري، أمّا إذا أصابني نوع من الكسل ورأيتُ أن أمشي دورتي القصيرة، أتَّجه نحو الشِّمال أي اليسار .. والفرق بين الإثنين حوالي نصف ساعة.
كان يوماً خريفيّاً عندما إتَّكلتُ على الله وأخذت جهة اليمين من الطَّريق، ليبدأ مشواري الصَّباحي وفق الخطّة الطّويلة، والَّتي كانت بالعادة تستغرق حوالي ساعة ونصف السَّاعة، أخطوها بإرادة وحماس وإنشراح تام، ذهاباً وإياباً، حيث أكون قد قطعت فيها مسافة عشرة كيلو مترات تقريباً، بمعدَّل إثني عشر ألف خطوة، أحرق خلالها قرابة خمسمائة سعرة حراريّة، وهذه الحسابات ليست من عندي، لأنَّني أعترف بضعفي في مادة الحساب والشُّكر للآيفون ء هاتفي النّقّال – الَّذي قام بهذه المهمّة الصَّعبة وقدَّمها لي بكبسة زر دون أيّةِ مشقّة أو عناء.
كنت أسير على الطَّريق الإسفلتي، وعلى جانبيه تعلو الأشجار المتنوِّعة، ليس فقط بأصنافها، بل بألوانها الجميلة أيضاً.
ء يا الله كم هو جميل فصل الخريف! قلتها وأنا أتنفَّس الصّعداء وأنظر إلى روعة المنظر من حولي وأمامي وفوقي وتحتي. تطلَّعتُ على مدِّ النَّظرِ، فخِلتُ نفسي أمام لوحة فسيفسائيّة، نمَّمتها أيادي ماهرة.
جذبني جمال إحدى الأشجار، فتوقّفت عندها قليلاً، فراقني تنوّع ألوان أوراقها، مدَدْتُ يدي، وقرَّبتُ إحدى الأغصان إليَّ، فأذهلني المنظر، وتعجّبتُ وسبَّحتُ الخالق عندما رأيتُ ما يحمل هذا الغصن الواحد على جنباته من جمال .. فهذه ورقة بلون المخمل القاتم، وهذه ورقة ناريّة، وأخرى بنِّيَّة بلون الأرض، وهذه ذهبيّة اللَّون، وتلك لازالت خضراء يانعة، يعلو سطحها بريقاً لامعاً .. وألوان أخرى كالخوخي واليقطيني والمرجاني والكستنائي والعسلي، وهذه ورقة قد يبست تماماً، فما أن أخذتُها بيدي، حتَّى تكسَّرتْ وتفتَّتَتْ وتناثرتْ، فقلتُ سبحان الله، هكذا حال الإنسان أيضاً، يبدأ صغيراً يانعاً، فيكبر ويزهو، ثمَّ يبدأ بالذُّبول والإصفرار، ثمَّ يتحوَّل إلى لون الأرض، ليسقط في النّهاية، ويتَّحد معها، ويتلاشى ويذوب. وما زادني دهشةً وانبهاراً، هو عندما نظرتُ إلى بعض الأوراق، فرأيتُ في الورقة الواحدة لوحات متعدِّدة تحكي كلٌّ منها قصّة متنوِّعة .. فهذه ورقة قد اِصفرَّت بكاملها، سوى بقعة صغيرة خضراء بقيت مستقرّة في منتصفها كواحةٍ خضراء في صحراءٍ قاحلة وهذه أخرى بنِّيّة اللَّون، لم يبقَ على سطحها سوى بعض الخطوط الصَّفراء، كالشَّمس المشرقة على وجه الأرض، وهذه ورقة خضراء مبرقعة بالأصفر والبنِّي ونقاطٌ متفرِّقة من اللّون الأحمر النّاري، وتموّجات ظاهرة من اللَّونِ اللَّازوردي والفيروزي والفستقي، تنظر إليها، وكأنَّك تنظرُ إلى الأرضِ من شبّاك الطَّائرة الصَّغير.
تابعتُ مشواري، بصدرٍ منشرح، وأنا أسيرُ فوق خشخشات الأوراق اليابسة، الَّتي كانت قد غطَّت الطَّريق، وراحت تتطاير هنا وهناك على جانبيَّ الطَّريق وأمامي، بينما كانت الرِّياح الخفيفة تداعب أغصان الشَّجر فتتمايل وتتموّج، ومع تمايلها وتموّجها تتطايرُ الأوراق وكأنّها أسراب طيور مهاجرة.
لا أعلم كيف خطر على بالي في تلك اللَّحظة وأنا أجول بنظري بين تلك الأوراق المتنوِّعة لأطرح مثل هذا السُّؤال على نفسي وأقول: تُرى كم من النَّاس في هذه اللَّحظة قد أقفلوا على أنفسهم الباب وحرموها هذه المناظر الجَّميلة، منهمكين في عدِّ الأوراق الماليّة، وفرزها وتصفيفها وحفظها، بينما هذه الأوراق تضاهيها جمالاً، وتفوقُها رونقاً.
مسكينٌ أيّها الإنسان، يا مَن تحرمُ نفسك من جمالِ هذه الدُّنيا من أجل أن تموتَ غنيَّاً، فتخسر الآخرة أيضاً، ومن سيقولُ غداً: رحمه الله كان غنيّاً؟
بهذه الكلمات كنت أتمتمُ مع نفسي وأنا أمشي، قبل أن يقطع عليّ سلسلة أفكاري صوتُ وقعِ أقدامٍ من خلفي، ظلَّ يقتربُ نحوي أكثر فأكثر، وقبل أن ألتفتَ إلى الوراء لأستطلع الأمر، إجتازتني بسرعة فتاة في حوالي العشرين من عمرها، كانت تعدو بخطواتٍ إيقاعيّة منتظمة خفيفة. ولم تمضِ إلَّا لحظات، حتَّى اختفَت وغابت في المنحنى.
كانت أشعّة الشَّمس بين الفينةِ والأخرى تتخلَّل أغصان الشّجر، لتتراقص فوق الأوراق المتناثرة على الطَّريق المفتوحة أمامي. تابعتُ مسيري وأنا أدمدم أغنية لفيروز “عَ هدير البوسطة”. لماذا؟ لا أعلم، كيف خطرت على بالي في تلك اللَّحظة؟ أيضاً لا أعلم.
ثانيا – المداخلة النقدية
1ـ وصف القاص فريد مراد الخريف بطريقة شفيفة وكأنّه يرسم لنا لوحة تشكيليّة بديعة، بترمزيات متعدِّدة حيث شبّة ورقة الخريف أو ورقة الشّجرة بالإنسان، لها عمرها ووقتها، تذبل وتصفر ثمّ تموت، كما هو الحال عند الإنسان في رحلته المحدَّدة ضمن وقت معيّن في الحياة. إذ يقول: “هكذا حال الإنسان أيضاً، يبدأ صغيراً يانعاً، فيكبر ويزهو، ثمَّ يبدأ بالذُّبول والإصفرار، ثمَّ يتحوَّل إلى لون الأرض، ليسقط في النّهاية، ويتَّحد معها، ويتلاشى ويذوب.”. هذا التَّشبيه والتَّرميز كان معبِّراً فب سياق عرض قصته.
2. ركَّز القاص على ضرورة وأهمّيّة التمتُّع في بهاء الطّبيعة، وتشبيه أوراقها بالطّيور الجذلى الّتي تمرح في أحضان الطّبيعة، كما في المقطع التالي: “بينما كانت الرِّياح الخفيفة تداعب أغصان الشَّجر فتتمايل وتتموّج، ومع تمايلها وتموّجها تتطايرُ الأوراق وكأنّها أسراب طيور مهاجرة.”.
3. مشواره في الطّبيعة ناجم عن رغبته القيام بالرِّياضة في هذا الجوّ البديع، وهو يقودنا إلى التَّساؤل وكأن القاص يقول لقارئه لماذا لا تتمتّع في جمال الطَّبيعة وتمارس الرّياضة وأنتَ تستنشق الهواء العليل؟
ويطرح في سياق سرده سؤالاً: “تُرى كم من النَّاس في هذه اللَّحظة قد أقفلوا على أنفسهم الباب وحرموها هذه المناظر الجميلة، منهمكين في عدِّ الأوراق الماليّة، وفرزها وتصفيفها وحفظها، بينما هذه الأوراق تضاهيها جمالاً، وتفوقُها رونقاً.”. مقارناً جمال الأوراق بالأوراق النَّقديّة، فيراها أكثر جمالاً وفائدة من حيث التَّمتع في جمالها الخلّاب.
4. استحدم لغة سلسة واضحة محبوكة بوهج الشِّعر في بعض مقاطعها، ومزدانة بالصّور، وكأنّه في حالة تأمُّل لما يراه من جمال وأحداث في مشواره. وقد قرأ علينا مقاطع من القصّة وليس القصة كاملة لهذا أقول: حملت القصة بين طيّاتها عدّة أفكار ومعاني هادفة، استطاع القاص فريد مراد أن يقدّمها بلغة رشيقة ومكثّفة وهادفة، بعيداً عن التّصنّع، فقد جاءت بانسيابيّة سلسة، يناجي نفسه عبر مشواره الخريفي، ويطرح تساؤلات، جنحت نحو التّمتّع بجمال الطّبيعة، وكأنّه أراد أن يقول لقرّئه: الحياة رحلة قصيرة وعلينا أن نستغلّها بكلِّ ما هو جميل وممتع ومفيد.
قصّة مشوار في يوم خريفي قصة معبّرة، تحمل الكثير من الدلالات والاسقاطات، صاغها القاص فريد مراد بلغة رهيفة، ومتدفّقه في انسيابيّتها، لأنّها نبعت من وقائع الحياة ومن خيال سيّال جامح نحو الفرح والجمال!