شاهد قراءات نقدية في قصة ” باب عمانويل ” للكويتية أستبرق أحمد
محمد الأمين بن الربيع
أولا – القصة
الباب،مغاير، جادٌّ، لم يتراخَ يوماً في بعث الدهشة، عرف كأعجوبة عمانويل العراقي، المهووس بالدِّقة، مسحه بالزَّيت، قوَّى أركانَهُ، مُهذِّباً تفاصيلَهُ بالكحت والرِّعاية، اختار خشب ابنتِهِ المُفضَّل، مُدركاً أنه سيُعجبها، ويفتنها زهواً بعملِهِ..
الباب، أخبرَهُ صاحبُهُ عن أشياء تُحبُّها ابنتُهُ، عن عشقِها لشجرة البلوط التي
يأتي منها وحلواها “مَن السما” فارتجف، حكى عن زواجها بغريبٍ، تلتها سنواتُ قطيعةٍ صقيعيةٍ سكنته، وعن بشارة اتصالها منذ أشهرٍ برغبةٍ صادقةٍ في الصُّلح..
الباب،روى عمانويل أنهاخلعت ملَّتها ورحلت، فما عاد يصنعُ أبواباً للحُسيْنيات والمساجد واقتصر على الكنائس الغنية -ليس ضدَّ أحدٍ وإنّما من تداعيات الجُرح الغائر- ومن البيوت فقط الثَّرية، ممن يستطيعُ تحمُّل سعر تُحَفِهِ.
الباب، لم يشأ في وحدته الكحلاء إفلات عمانويل في المنجرة، حين تمايل ليستند إليه، جذب روحه لتنضوي في جوفِهِ الخشبيِّ. آنذاك قابل صانعهُ الإشاعة التي أتت مع شجرة الباب، بوجهها القبيح…
الباب،في المخزن مسحوا الغبار عن وجهه فاعتراه الفضول، ظنَّ أنهم نسوه، حملوه بتؤده، تأفَّفَ العمالُ من ثقلهما، وتنادوا بالحسين، وصلا إلى منزل السيد عبد الرؤوف، عرف عمانويل صديقه ففرح كثيراً وهو يسمعُ حزنه على فقدانِهِ وإعجابِهِ واهتمامِهِ مُصدراً الأوامر بتنظيفه، مُدركاً تدخلَ واسطةٍ عظيمةٍ لتولي السيد إجراءاتِنقلِهِ إلى مكانِهِ الأخير، السيد الذي مرقت ذكرى الباب بعد أسابيع في جزعِهِ لصواريخَ غريبةٍ دكّت منزلَهُ…
الباب، وصلا إلى الميناء، في أجواء تُعكِّرها تهديداتٌ متبادلةٌ متنوعةُ الأطراف حول سلامة سفن مياه الخليج، الذي تمخر أمواجُ الشكِّ فيه، جعلت إمكانيةَ شحنِهِ عن طريق سفينةٍ برايةٍ محليةٍ أمراً محفوفَ بالمخاطر، دبّر القبطانُ الأمرَ بعد أن سبَّ الباب، الذي لولا أنه انتظرَهُ ما انهالت التعليماتُ الرسميةُ بصرامة بعدم الإبحار فخسر كثيراً، تضرَّع للعذراء بتسهيل الأوضاع عندما هدأت الطنطنات السياسية، في أجواء مرعبة وبراية دولية دفع القبطانُ ثمنَها باهظاً، وصلت السفينةُ في آخر رحلةٍ للقبطانِ إثر مقتلِهِ بالخطأ في عراكٍ تافهٍ لم يعرف سببَهُ ما إنْ لامست قدمُهُ الميناء.
الباب، شريط الخُطب الدينية الذي لم يهدأ شيخُهُ عن الوعيد والتهديد استبدل بشريط قرآن، بالرَّغم من ذلك ظلَّت الأعطالُ تقفزُ في جسد الشَّاحنة رغم المسافة القصيرة، وحفر الطريق تتسع لعجلاتها فتتوقف، بات سائقُ الشاحنة العنيدُ لا ينفكُّ عن الحوقلة والاستغفار، وحين أدى مهمته أخيراً في إيصال الباب، سافر بشاحنتِهِ الصَّغيرة، إلّا أنه لم يتسنَّ له عدُّ حزمةِ نقودِهِ مجدداً لاختطافِهِ بعد تجاوزه الحدود بساعة.
الباب، الذي لم يثق كثيراً بتغيُّر المسارات، إذ شعَّ بيت الابنة بتفرُّدِهِ عن البيوت الأخرى لتعضّه الغيرة لاحقاً، فبات يناكفُهُ يومياً ساخراً واصماً إياه بالأخرس، والشجرة اللطيفة المُطلة عليهم من السور، صدَّعته بإلحاحها السّافر حول نسبتِهِ لشجر العرعر أو الصنوبر، لتتجاهله ما إنْ أدركت عدم ارتباطِهِ بالصَّحراء.
الباب، لم يهتم مثل عمانويل لاجتثاثِ الشَّجرة، ولا لخرائب وترميمات البيت المستمرة والمكلفة، ولا لكسر مضاعف أصاب قدم الجارة، التي كانت تركل الباب بحسدٍ، لكنه تضايق جداً لخبر السيد عبدالرؤوف وارتجف مذعوراً لوفاة زوج الابنة الذي لم يحب التحفة بحادثٍ مروريٍّ مُروّعٍ.
الباب، كان ليلاً هادئاً سارحاً عمانويل مستذكراً الباب حين قوّم أضلاعه فناداه: لا تكمل، إني قد مسَّني الضُّر. والباب مسترجعاً لحظة تدلي عنق قاتلٍ دامٍ مشنوقاً من أحد الفصائل المتطرفة على غصن الشجرة، لترشق جسده رصاصات غلٍّ ناقمةٍ من حقدِهِ، دائرة مُحكمة صنعت نحس الباب حين دُفن القاتل تحت شجرتِهِ وسرى فيها دمٌ عفن. كانا ساهميْن لا يُسعدهما إلّا إذا لامستهما يدُ الابنة أو الحفيدة الحنونة فتخفت دوائرُ الخوف والغضب والكراهية، الحفيدة الطيبة التي في آخر يومِ عزاء، لم تهدأ إلّا بعد أن سكبت رائحة نفّاذة لتتبعها بشعلةِ نارٍ التهمتهما معاً بلا ألمٍ.
ثانيا – المداخلة النقدية للناقد
مركزية الباب في المنجز القصصي باب عمانويل
في عملها القصصي باب عمانويل الموجود ضمن المجموعة القصصية معمل البسكويت تقدّم القاصة الكويتية استبرق أحمد صورة غير نمطية للسرد القصصي الذي يحتفي بالأشياء، ويزحزح مركزية الشخصية البشرية ليمنح المركزية للشخصية الشيئية، فيتوالى السرد ضمن إيقاع غير مألوف يؤدي فيه الباب الدور المحوري بما هو شخصية فاعلة في بناء القصة، إن العلاقة التي تجمع بين الباب وبقية شخوص القصة هي أشبه بالتماهي، فعمانويل يرى نفسه من خلال الأبواب التي يصنعها، ويعبّر عن شخصيته من خلالها، وقد يصل الأمر به إلى حدّ التماهي مع أحد أبوابه فنقرأ: “الباب، لم يشأ في وحدته الكحلاء إفلات عمانويل في المنجرة، حين تمايل ليستند إليه، جذب روحه لتنضوي في جوفِهِ الخشبيِّ. آنذاك قابل صانعهُ الإشاعة التي أتت مع شجرة الباب، بوجهها القبيح”، ولا يتوقف الأمر عند عمانويل، فها هي “الحفيدة الطيبة التي في آخر يومِ عزاء، لم تهدأ إلّا بعد أن سكبت رائحة نفّاذة لتتبعها بشعلةِ نارٍ التهمتهما معاً بلا ألمٍ”، هذا التماهي بين الباب والشخصيات في القصة يفتح أسئلة إشكاليةً حول الأسباب التي حدت بالكاتبة إلى اختيار هذه العلاقة الاستثنائية بين الباب والشخوص القصصية، و السبب في أنسنة الباب وجعله محورا في العمل السردي، معتمدة رؤية خاصةً كان قد أشار إليها فيليب هامون حين أقرّ بأن الشخصية في العمل السردي يمكن أن تكون البيضة والطحين في المطبخ والبكتيريا في المخبر، فليس غريبا أن ينزاح دور البطولة عن الشخصية الإنسانية ليسند إلى الشخصية الشيئية، والكاتبة في اختيارها للباب لديها ما يبرره، فالباب في هذا المنجز القصصي هو انعكاس لتوجهات عمانويل، الرجل الذي تصفه القاصة بأنه مهووس بالدقة، وأنه يبحث عمّن يقيم عمله الفني المجسد في الباب، متخليا عن العمل لكلّ من لا يقدّر عمله وتفانيه في صناعة الباب حق قدره تقديرا معنويا وماديا أيضا، ولذا سنجده يعرض عن العمل فما عاد يصنعُ أبواباً للحُسيْنيات والمساجد واقتصر على الكنائس الغنية -ليس ضدَّ أحدٍ وإنّما من تداعيات الجُرح الغائر- ومن البيوت فقط الثَّرية، ممن يستطيعُ تحمُّل سعر تُحَفِهِ، ويقدّم السياق القصصي مبررا لذلك حين يجعل الباب محور العمل، ومحط اهتمام الجميع بما في ذلك الجمادات الأخرى المحيطة به، فها هي “الشجرة اللطيفة المُطلة عليهم من السور، صدَّعته بإلحاحها السّافر حول نسبتِهِ لشجر العرعر أو الصنوبر، لتتجاهله ما إنْ أدركت عدم ارتباطِهِ بالصَّحراء”، لذا يمكن عدّ الباب معادلا رمزيا للإنسان، ذلك الإنسان الذي اختارت له الكاتبة اسما رمزيا هو عمانويل، وهو اسم ذو حمولة دلالية ترتبط بالثقافة المسيحية، غير أنّه لا يجد بأسا في صناعة الأبواب للمساجد والحسينيات كما تشير الكاتبة.
إن الباب في هذه القصة شاهد على كل شيء، منذ كان شجرة فخشبا ثم ألواحا مشدودة إلى بعضها تفضل القاصة أن تسميها أضلاعا إمعانا منها في أنسنة الباب، من أجل أن تجعله المدخل إلى عوالم الإنسان الموصدة، المتعلقة بانتماءاته المختلفة وميولاته المتطرفة ووحشيته التي تظهر دمويةً في أكثر من موقف ولا تليق بكونه إنسانا، إن الباب في هذه القصة هو محاولة للدخول إلى عوالم الإنسان التي تصنف حسب انتمائه الديني والعرقي، وقد وفقت الكاتبة كثيرا في ولوج هذه العوالم بواسطة الباب، بما يحمله من رمزية في المخيال الإنساني والثقافات الشعبية، فالباب هو المنفذ الوحيد إلى المدن المحصنة، والمدن التي توصد أبوابها هي مدن منيعة، لا يمكن ولوجها ولا معرفة ما تحتويه أسوارها وحصونها، كذلك هو عمانويل في هذه القصة رجل متمنّع عن ابتذال عمله وحسه العالي في الاشتغال على صناعة الأبواب، ووحده الباب الذي يتماهى معه كفيل بأن يمنح القارئ فرصة معرفته عن قرب وإدراك أن عمانويل هو إنسان في المقام الأول بعيدا عن كل التصنيفات القائمة على الانتماءات.