لماذا غزة؟ وما الذي يُخطَط لها؟

د. إبراهيم أبراش | غزة – فلسطين

أسئلة تتبادر إلى ذهن الكثيرين وهم يشاهدون المجازر البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، فبالإضافة إلى الاحتلال والحصار تعرض القطاع لأربع موجات من العدوان العسكري الهمجي: 2009/2008، 2012، 2014، و2021. قما قصة قطاع غزة؟ وأين يكمن سر الحقد والعداء الصهيوني لقطاع غزة وسر صموده ومقاومته؟ ولماذا تستهدف إسرائيل غزة بالخراب والدمار أكثر من المناطق الفلسطينية الأخرى؟ وما الذي يتم تخطيطه لقطاع غزة؟

لغزة سر وقصة تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام
استهلال للموضوع نشير إلى أن مدينة غزة أكبر مدن القطاع الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتر مربع أي ما نسبته 1,33 %فقط من مساحة فلسطين. وأكبر مدن فلسطين من حيث الكثافة السكانية، وجاء اسم (قطاع غزة) نسبة إلى مدينة غزة، وهناك مدن وقرى أصغر حجماً وأقل سكاناً بالإضافة إلى 8 مخيمات للاجئين، إلا أنه في قطاع غزة من الصعب الفصل بين المدينة والقرية والمخيم حيث انصهر الجميع في بوتقة الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة التي يشاركهم فيها حوالي 14 مليون فلسطيني.
بالرغم من أن كل مدن وقرى وربوع فلسطين متساوية من حيث الانتماء والمشاركة في النضال الوطني إلا أن منطقتين استقطبتا الاهتمام المحلي والدولي أكثر من غيرهما وكل منهما تميزت بقرمزيتها وخصوصيتها التاريخية والنضالية: مدينة القدس بما لها من رمزية دينية ولكونها عاصمة دولة فلسطين، كما تزعم إسرائيل إنها عاصمتها الأبدية، وقطاع غزة لرمزيته الوطنية ولما شهده من أحداث وحالات عدوان لم تشهد مثيلاً لها بقية مناطق فلسطين. كان الموقف مما يجري في هاتين المنطقتين بمثابة ترمومتر يؤشر على سخونة الأحداث أو هدوئها ، كما كان الموقف العربي والدولي مما يجري في هاتين المنطقتين يُقاس عليه للحكم على مسار القضية الفلسطينية بشكل عام .
تعتبر مدينة غزة ثاني أكبر مدن فلسطين بعد مدينة القدس حيث تُذكر غزة في أقدم الوثائق التاريخية الفرعونية التي تعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام ، ولا ينفصل صمود غزة وتاريخها النضالي المعاصر عن تاريخها القديم في مواجهة الغزو العبراني الأول ، حيث جاء في أحد الكتب الدينية اليهودية وهو (سفر الملوك الأول) الذي يعود لعهد سليمان كما يزعم الصهاينة : إن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبداً ضمن مملكة اليهود، وظلت بعد ذلك ملكاً للفلسطينيين ( الملوك الأول 4 : 24 ) ومنذ ذلك التاريخ وغزة ملعونة عند اليهود.
لن نخوض كثيراً في النص أعلاه، ولكن مع افتراض صحته فهو يؤكد على لسان اليهود أنفسهم على حقيقتين: الأولى أنه عندما جاء العبرانيون إلى فلسطين وجدوا فيها الشعب الفلسطيني وهذا يفند كل مزاعمهم بعدم وجود شعب يسمى الشعب الفلسطيني، والثانية أن لغزة تاريخ نضالي يمتد من العصور القديمة ولم يتوقف.
غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين والفقيرة بمواردها الطبيعية وشبه الصحراوية، لم تتميز فقط من خلال تاريخها ودورها النضالي بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 – كانت آنذاك تحت الحكم الإداري المصري – بل كان دورها النضالي قبل الاحتلال لا يقل أهمية عن دورها بعد الاحتلال. فقطاع غزة حافظ على الهوية الفلسطينية بعد النكبة وفي سنوات التيه والضياع بعد أن فرضت إسرائيل جنسيتها وقوانينها على فلسطينيي الخط الأخضر، ومنح الأردن جنسيته وقوانينه لفلسطينيي الضفتين، فيما كان فلسطينيو الشتات يعيشون أوضاعاً صعبة .
خلال سنوات التيه والضياع استمر فلسطينيو القطاع في حمل راية الهوية الوطنية والحفاظ على الشخصية الوطنية، وخصوصاً أنه بعد حرب 1948 تغيرت التركيبة الجغرافية والسكانية، حيث رسمت اتفاقية الهدنة – اتفاقية رودس 1949 بين مصر وإسرائيل – الحدود الحالية لقطاع غزة. قطاع غزة الذي كان تعداده حوالي (80000) ثمانين ألف استقبل مع حرب 48 حوالي (200000) مائتي ألف من لاجئي النكبة، مما غير من تركيبته الديمغرافية والسسيولوجية، وأصبح ثلاثة أرباع القطاع اليوم من اللاجئين الذين كانت الغربة وحياة اللجوء دافعاً قوياً عندهم لرفض واقع اللجوء وإصرارهم على النضال من أجل العودة لأراضيهم التي هُجروا منها عنوة، ولاجئو القطاع جسدوا وعبروا عن خصوصية كل قرية ومدينة فلسطينية بملابسها ولهجاتها ومأكولاتها وتجاربها النضالية وذاكرتها التاريخية .
في قطاع غزة تشكلت أولى خلايا المقاومة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي وأبناء القطاع رفدوا الثورة الفلسطينية عندما كانت القيادة في الخارج بخيرة القيادات والمقاتلين ، ومن قطاع غزة انطلقت شعلة الانتفاضة الأولى 1987 ، وقطاع غزة احتضن اللبنات الأولى لمؤسسات السلطة الوطنية التي كان يؤمَل منها تجسيد حلم الدولة ولو في إطار تسوية مشكوك بنجاحها، فكان المطار ومقر الرئاسة (المنتدى) ومقرات وزارية والمجلس التشريعي والبدء بمشروع ميناء غزة ،بالإضافة إلى الممثليات الأجنبية ومشاريع تنموية واعدة الخ، كما انطلقت منها الانتفاضة الثانية 2000.
إن كانت غزة بالنسبة إلى الفلسطينيين تمثل جنوب فلسطين أو منطقة من فلسطين يحبونها كما يحبون فلسطين، فإنها بالنسبة لأهل غزة تمثل مسقط الرأس أو الوطن الصغير وخصوصاً بالنسبة لمن لم ير أية منطقة أخرى من فلسطين. ولكن وطن الذاكرة أو وطن مسقط الرأس مجرد إثبات مكان مولد أو ذكريات جميلة عن مرحلة الطفولة والمراهقة، إنه حب اضافي لفلسطين الوطن الكبير، كما هو الحال لحب ابن الخليل لمدينته وحب ابن القدس لمدينته وابن يافا لمدينته الخ.
لكن لا يمكن لمسقط الرأس أن يشكل وطناً ودولة، ولا يمكن لأي منطقة تتميز بدور أو بخصوصية نضالية أن تشكل دولة أو كياناً خاصاً، فلكل مدينة في فلسطين تاريخها النضالي وبطولاتها المُشرفة، ومقابر شهداء فلسطين في الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية لا تميز بين شهداء مدينة ومدينة ، فالشهداء قضوا في سبيل الله والوطن وليس دفاعاً عن مدينة بعينها، وزنازين الاحتلال لا تميز بين معتقل من غزة وآخر من الضفة .
صمود وتضحيات أهل غزة ومقاومتهم للاحتلال وللحصار ولكل الموجات الأربعة للعدوان يعبر ويعكس صمود ونضال كل الشعب الفلسطيني . كل الشعب الفلسطيني تصدى للعدوان وعانى من العدوان . دافع وضحى في هذه الحرب أبناء غزة الأصليون، أحفاد شعب غزة الذي واجه الغزو العبري قبل ثلاثة آلاف عام قاتلوا ودافعوا عن مدينتهم في : الشجاعية، التفاح، بيت حانون، بيت لاهيا، جباليا، خانيونس، ورفح.

دافع وضحى في غزة أبناء وأحفاد أهالي: يافا، حيفا، اللد، الرملة، المجدل، الجورة، حمامه، زرنوقه، عاقر ، دير سنيد، دمرة، سمسم، هربيا، بيت جرجا، السبع، صفد، يبنا، بيت دراس، المغار ، الفالوجا، صرفند، النعاني، المسمية، بيت طيما، الخ ، أبناء وأحفاد الجيل الذي تم تشريده من أرضه ويريدون الانتقام من عدو لم يكتفِ بتهجيرهم من مدنهم وقراهم بل يلاحقهم حتى في أماكن اللجوء، ويرفض حق عودتهم لأراضيهم، وحقهم في دولة مستقلة، ولو على جزء من أرض فلسطين.
لأن غزة كل هذا الماضي والحاضر، ولأن غزة أيضا الواجهة البحرية الوحيدة للدولة الفلسطينية في حالة قيامها، ووجود نفط وغاز في مياهها، ولأن في غزة فصائل مقاومة مسلحة طورت قدراتها الصاروخية لتضع كل مدن فلسطيني المحتلة في مرمى نيرانها، ولأن غزة تأبى أن تنفصل عن الكل الفلسطيني ولبت نداء الواجب عندما استنجد بها أهلنا في القدس، ولأن الكيان الصهيوني يخطط لفصل غزة عن بقية أراضي الدولة الفلسطينية، ولأن هذا الكيان يريد لغزة ومشاكلها أن تبعد الأنظار عن ساحة المعركة الرئيسية في الضفة والقدس.

لكل ذلك يحقد عليها العدو الصهيوني ويستهدفها بموجات متعاقبة كل بضعة سنين حتى يدمر كل ما تم بنائه والأهم بالنسبة له تدمير صمود وكرامة وأنفة أهل غزة.
إلا أن غزة ستبقى عصية على الانكسار والخضوع، وستستمر غزة حاضنة الوطنية الفلسطينية وجزء من الدولة الفلسطينية التي ستقوم لا محالة. إذا ما تم نزع غزة من سياقها الوطني البشري والجغرافي، كما تسعى إسرائيل وأطراف أخرى، ستفقد كينونتها وتميزها وسر صمودها ومقاومتها.

حمى الله فلسطين وكل الفلسطينيين وحمى غزة من الإجرام الصهيوني ومن كل أصحاب الأجندات الخارجية الذين يسعون لنزع غزة من سياقها الوطني وإقامة كيان مسخ فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى