عائد إلى حيفا… رؤية وفلسفة استشرافية
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية – العراق
غسان كنفاني لم يكن كاتباً ولا منظراً، بل كان مفكراً بارعاً مدركاً أهمية تحليل القضايا الكبرى وتوظيفها في الأدب وعندما تنبهت الصهيونية إلى خطورة هذا الأديب تخلصت منه، لكنها لم تستطع نفي أدبه ظنت أنه يموت بموت صاحبه. غير أن كنفاني يعلم أن الفكر والأدب لا يموت.
تزامناً مع الحرب التي أشعلتها إسرائيل ضد غزة، عدنا إلى قراءة الرواية مرة أخرى، وبوعي آخر في محاولة لإعادة إحياء ما كتب غسان، غير أننا وجدناه يبث رؤى استشرافية، وفلسفة سياسية عميقة تنبض بالحياة. تبدأ الرواية من وصول شخصي البطل سعيد. س إلى حيفا مع زوجته صفية في ظهر يوم من شهر حزيران/يونيو عام 1967 بعد عشرين عاماً من اغتصاب منازلهم، وسعيد لا يستعيد منزله؛ لأن الاسترجاع يتطلب جهدا عظيما ـ نفصح لاحقاً ـ بل بحثاً عن ابنه خلدون، الذي تركه طفلاً في سريره وهو في عمر الخمسة شهور.
الرواية تسرد الأحداث من خلال راوٍ بضمير الغائب، ووجهة نظر داخلية بمعنى: إن الراوي لا يحكي إلا بما تعلمه الشخصية، وبهذا يكون الروائي أعطى حرية الأفكار لشخصية البطل سعيد، ليطرح رؤيته، وهي فلسفة الروائي التي أودعها عند البطل، كما أن الشخصيات الأخرى هي معادل موضوعي عن بعض القضايا، فخلدون الابن هو معادل موضوعي عن فلسطين، فعندما تركه سعيد وصفية في البيت، وأخذته عائلة يهودية مستوطنة ربته وأعطته اسم دوف، وعلمته العبرية حتى صار عمره عشرين عاماً، يخدم في الجيش الصهيوني، فهذا بالضبط ما تود فعله الصهيونية، وهو طمس الهوية الفلسطينية، ومحو الذاكرة والتاريخ وممارسة التطهير العرقي لأهل هذا البلد. غسان يطرح حوارا دارميا مكثفا يقدم فيه رؤيته السياسية التي تعطي الحلول للخلاص من هذا الاحتلال، عبر مشهد درامي، عندما يصل سعيد إلى بيته ويجد المستوطنة العجوز اليهودية، فيصور الراوي البيت على أنه لم يتغير فيه شيء سوى الستائر وريشات الطاووس التي كانت سبعاً وصارت خمساً ـ نذكر السبب لاحقا ـ سعيد دخل البيت بعد أن عرفت اليهودية أنهم أهله الأصليون من دون أن يتكلما بذلك، فيقول لها سعيد: «طبعاً نحن لم نجئ لنقول لك أخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب» تنطلق رؤية غسان من رفضه لكل الحوارات السياسية التي تنتهي بالتفاوض، وفق متطلبات مصالح القادة السياسيين، فالقضية الفلسطينية لا يمكن أن تُكسر قيودها إلا بالحرب. ولماذا كنفاني يريد الحرب، وأكد عليها ألا يتطلب الأمر أن نبتعد عن لغة العنف بالأدب؟ الأرض التي أخذت بالقوة والحيل الجبانة، لا يمكن استعادتها إلا بالقوة، والأمر الأهم، أن غسان درسَ فكرَ عدوه وتاريخه، لذا هو يعلم أن عدوه شرس وجبان، يهرب من الحروب دوماً، ويحل قضاياه بالحوار والجدل، والحرب والمواجهة يبتعد عنها، وبمجرد استمرار المقاومة والحرب تذوب الصهيونية ويغادر المستوطنون أرضَ فلسطين.
والمشهد الثاني يدخلنا غسان في حوار أشبه بمحاكمة منطق الاحتلال وهو عندما يأتي خلدون دوف ويرى سعيد وصفية والديه، فمن المتوقع أن يكون الحوارُ عاطفياً، ويحمل شجن الأبوة والابن غير أن كنفاني يبتعدُ عن لغة العواطف، ويعزز لغة العقل والمنطق، وقبل هذا يرفض سعيد الحوار من الأساس، ويأتي هذا عبر الإستباق الزمني عندما قال لصفية: لا فائدة من رؤيته والحديث معه نقصد ابنه خلدون دوف، فرؤية غسان ترفض منطق التفاهم والحوار مع المحتل، لكن إصرار العجوز مريمام وصفية جعل سعيد يعدل عن رأيه، وهو حيلة سردية لبث رؤيته عبر خلدون، الذي كان كلامه بمثابة صرخة هذه الأرض التي تريد الخلاص، فيقول خلدون لسعيد: «كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا.. ألا تتركوا طفلاً ضعيفاً في السرير، كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة. مضت عشرون سنة يا سيدي ماذا فعلت خلالها لكي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من إجل هذا.. عاجزون مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل» بداية الحوار وظهور أفعال اللوم، لكن مضمره يحاكمُ غسانُ التاريخَ ويجلده؛ لأنه مبني على الأخطاء، ولا بد للحاضر أن يصححه، لاسيما تحرير الأرض، وهذا لا يأتي لا بحمل سلاحين (مادي ومعنوي) فالأول: السلاح الحقيقي، والثاني الفكر والمعرفة، أي درس فكر العدو، وبهذا يعطي رؤية استشرافية بأن الحروب المستقبلية ستكون فكريةً أكثر مما هي نيران، لأن إسرائيل جاءت بوثيقة تاريخية تزعم أن الأرض لها، فلا بد من الرد على مزاعهم بالفكر الذي يدحض حجتهم وبالسلاح، لذلك ذكر لفظ التخلف. استعمل غسان ريشَ الطاووس في أكثر من مشهد، إذ بقي في بيت سعيد في حيفا ولم ينقص منه سوى ريشتين فكانت سبعاً وصارت خمس ريشات، وحوار سعيد في ختام الرواية مع صفية يوضح ذلك قائلاً « لا شيء لا شيء أبداً. كنت أتساءل فقط، افتش عن فلسطين الحقيقية فلسطين هي أكثر من ذاكرة أكثر من ريشة طاووس» تشير الأساطير إلى أن ريش الطاووس يرمز للقوة والخلود، وهو بمثابة رمز لقيامة المسيح، فتوظيفه يثبت أن أرض فلسطين لأهلها، ويرد على مزاعم اليهود، فالذي كان يهودياً قبل ألفي عام في هذه الأرض تنصر وصار مسيحياً، ومن بعدها عربياً مسلماً، وإن هذه الأرض خالدة لأهلها الذين يعيشون فيها منذ آلاف السنين.
الرواية ليست مرحلية ولا تاريخية، خاصة بفلسطين فقط، بل هي مرتبطةٌ بتحرير الإنسان لأنه يرى الإنسان قضية، فكل أرض وأهلها سُلبت حريتهم يمكن استعادتها وفق ما يرى غسان في الرواية.