التراث الطبي العُماني
شيخة الفجرية | كاتبة من عُمان
منذ 1500 عام قبل الميلاد، سُجلت أولى الوصفات الطبية على أوراق البردي المصرية، كما دوّن الهندوس في آيورفيدا Ayurveda، ثم توالت تنمية العلوم والممارسات الطبية على يد الإغريق وغيرهم من شعوب العالم، إلى أن جاء الإسلام، لتكشف لنا بعض المصادر عن وجود الأطباء في عهد النبي – محمد صلى الله عليه وسلم -؛ منهم: الحارث بن كلدة الثقفي، والنضر بن الحارث بن كلدة الثقفي، وابن أبي رمثة التميمي. وقد مثل كل ما تقدم تراثًا زاد فيه الطب وعاد، فقد كان أهل عُمان ممن أوحت إليهم البيئة التي يعيشون فيها أن يستفيدوا مما خبروه منها، من طعامٍ وشرابٍ ونبات، حتى ورثوا كل هذا لمن تبعهم من أجيال، فالأصل في المدلول اللغوي لكلمة تراث، هي كلمة إرث heritage، وهي من مادة “ورث” في معاجم اللغة العربية، والورث على المال الذي يورثه الأب لأبنائه، كما يقول ابن منظور في اللسان. واستعمل القرآن الكريم كلمة “تراث” بالمعنى نفسه الذي ورد في معاجم اللغة، أي المال: يقول تعالى في سورة الفجر-الآية 19-“وتأكلون التراث أكلاً لمّا”. وعليه فإن كلمة التراث تعني “كل ما ورثناه تاريخياً” كما جاء في نظرية التراث، لفهمي جدعان. وبأنه -حسب التراث والتجديد لحسن حنفي -” كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة”.
وقد أنجبت عُمان مجموعة من الشخصيات المؤثرة عالميًا، -حسب توصيف اليونيسكو التي كرمتهم في مرات عديدة-، منهم الفيزيائي والطبيب العماني أبو محمد عبد الله بن محمد الأزدي الصحاري المعروف ” بابن الذهبي “- أدرج أسمه للتكريم في الدورة 38 للمؤتمر العام لليونيسكو لعام 2015م -، الذي ألّف كتاب الماء، وهو (أول معجم طبي لغوي في التاريخ البشري)، فقد ولد “ابن الذهبي” في مدينة صحار، في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي. قال عنه المؤرخ ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء عنه: “هو أبو محمد عبدالله بن محمد الأزدي، ويعرف بابن الذهبي أحد المعتنين بصناعة الطب، ومطالعة كتب الفلاسفة، وكان كلفا بصناعة الكيمياء مجتهدا في طلبها”، وكما قال عنه الدكتور هادي حسن حمودي محقّق مخطوط (كتاب الماء) الذي طبعته ونشرته وزارة التراث والثقافة بسلطنة عُمان: ” يحتل الخليل بن أحمد الفراهيدي مكانة رفيعة في نفس أبي محمد الأزدي إذ هو الرجل الوحيد من بين العلماء الذي يعقب الأزدي بعد ذكر أسمه دائما بألفاظ الترحم والإكبار إضافة إلى شيخه وأستاذه ابن سينا، ولعل ذلك يعود إلى القرابة الوجدانية، والروحية بين العالمين الكبيرين الفراهيدي، والأزدي، إذ كلاهما قدم من عمان مهاجرا، واستقر في البصرة وإن كان الأزدي – ابن الذهبي – قد واصل فيما بعد تنقلاته بين الأمصار”.
ويبدو أن العمانيين نالوا شهرة ليست بسيطة في علم الطب، لذلك قال عنهم ظهيرُ الدين البيهقي (ت564هـ) في كتاب (تاريخ حكماء الإسلام)، كلمة نصُّها:” كانَ أَبُو الخَيْرِ أَثْنَى عَلَى العُمَانِيّ، وقَالَ: هُو أَقْوَى أهْلِ الزَّمَانِ في صناعته. ومِنْ كلماتِهِ قَوْلُهُ: حَقٌّ على المرء أَنْ يُوَكِّلَ مَعَهُ كَالِئَيْنِ: أحدُهما يَكْلَؤُهُ مِنْ أمامِهِ والآخَرُ مِنْ وَرَائِهِ، وهما عقلُه وأخوه الناصح. ما يَنْفَعُكَ في ذاتك فاطْلُبْه، وإنْ لم يَكُنْ فيه افتخار، وما يَضُرُّكَ في الدنيا والآخرة فاتْرُكْهُ وإنْ كان به افتخار. مَن اسْتَبَدَّ بمُعالجته في حالِ مَرَضِهِ وإِنْ كان طبيبًا حاذِقًا فقد يُعَرِّضُ للخطأ بجهده. والاستشارةُ أداةٌ كاملة”.
هذا يدلل على الوجود العماني في التراث الطبي العربي، بل ووضعهم للعديد من المؤلفات الطبية، ومع ذلك يستنكر الطبيب راشد بن خلف العِيني الرستاقي (ق10هـ) هذه المساهمة القليلة بقوله: “إني نظرت في كثير من كتب أهل عمان فوقفت على علم الأحكام والأديان ولم أقف على نظم لهم في علم الأبدان”. بعدها اتجه إلى الحديث عن العلوم الطبية وصنَّفها إلى ثلاثة أصنافٍ هي: علوم الأديان، وعلوم اللسان، وعلوم الأبدان. وكان الطبيب العماني راشد بن عميرة العِيني الرستاقي؛ صاحب المؤلفات الجليلة الآتية: كتاب (فاكهة ابن السبيل)، ومختصره، وكتاب (منهاج المتعلمين) للمبتدئين، و(مقاصد الدليل وبرهان السبيل)، ورسالة في الكي بالنار. بالإضافة إلى ابتكاره “رسومات دقيقة للمشارط والمباضع والمياسم. وكان يجري عمليات جراحية دقيقة”، مثال ذلك: “عملية جراحة لامرأة حامل نطحها ثور سنة 995هـ، فشق بطنها وخرجت أمعاؤها. وقد ابتدأ اولا بالحفاظ على الأمعاء الخارجة من الفساد، فكمدها وأدفأها، ثم نكس جسد المرأة أثناء العملية لينحدر الرأس والظهر، ثم أجرى الخياطة”. يقول الطبيب الرازي: “يمتحن المتقدم للإجازة الطبية في التشريح أولا، فإذا لم يعرفه فلا حاجة بك أن تمتحنه على المرضى”، فاجتاز العماني ابن عميرة هذا الامتحان بجدارة، ونقل خبرته الطبية إلى دول الجوار، فأجرى “عملية في القولنج لرجل أعجمي في البحرين” و”إلى البيمارستان العضدي في بغداد ليشاهد بعينه حصاة كبيرة مستخرجة من بطن إنسان”.
كانت المخطوطات الطبية العمانية محل الدراسة في الطب الحديث، فقد عثر على ” ثلاثُ نسخ خطية لشرح قصيدة: زاد الفقير وجبر الكسير؛ للطبيب راشد بن خلف القرّي الرستاقي (ق10هـ/ 16م)، أهمها نسخة عتيقة كتبت بعد وفاة مؤلفها بقليل، إضافة إلى أرجوزة تشريح العين وشرحها للطبيب ابن عميرة. وقد دَوَّن عليها بخطه بعض التعليقات والملاحظات، وتناولها بالحديث في عدة دراسات له عن طب العيون عند العرب” ضمن أبحاث الطبيب ماكس مايرهوفMax Meywrhof (ت 7 جمادى الأولى 1364هـ/ 20 إبريل 1945م) وهو طبيبٌ ألماني، متخصّصٌ في طبّ العيون والصيدلة.
ومن أطباء القرن العاشر الهجري في عُمان كلٌّ من: “الطبيب عميرة بن ثاني بن خلف ( ق10هـ) والد الطبيب راشد بن عميرة، والطبيب مبارك بن خلف بن محمد بن هاشم (ق10هـ) وابنه علي بن مبارك بن خلف (ق10هـ)”.
أمَّا أطباء القرن الحادي عشر، الذي يزامن فترة حكم اليعاربة فكان: “الطبيب علي بن عامر بن عبد الله العقري النزوي (ق11هـ)، ولعل من أبرز خصائصه أنه كان طبيبا متنقلا”، فهو “الذي صنع بنجاح رِجْلاً خشبية للفقيه الأديب المشهور خلف بن سنان الغافري”.
يقول الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه: (تنوير الأذهان بخصال أهل عمان): “كانت عمان في العهود التي مضت جامعة كل شيء من متطلبات الحياة، كان فيها أطباء معروفون، لهم دراية للأمور من نفس أفكارهم ومن ابتكارهم، فقلوبهم كتب مرشدة، وخزائن محيطة، ولهم معرفة تفوق الغير… وأطباء أهل عمان نوعان: بعض منهم أطباء بعقولهم، وبعضهم أطباء بمنقولهم، وكلهم على صواب، إلا أنهم تنقصهم الآلات هي الوسائل في العلاج… ومنهم: شيخنا الفارسي سعيد ووالده راشد بن مسلم، من أهالي خضراء بني دفاع، من وادي عندام، وكلاهما طبيب، له معلومات عالية متنوعة. ومنهم الشيخ الأكرم عبد الله بن حميد بن عبد الله الحارثي، في منطقة الشرقية كانت له في الطب نوادر معروفة، وبوادر موصوفة. ومن أطباء عمان الشيخ المعروف بابن طريف سلام بن حميد العبودي في سمائل، كان يدرك علة الجذام في الإنسان بمجرد الرائحة، وبنفس المقابلة، ويقال: أنه هو وعائلته كلهم لهم خبرة بهذا الداء الدفين، ولهم فيه نوادر…. وكان عمل التجبير عند أهل عُمان سهلا ميسورا، كما أنه عند الدكاترة صعبا عسيرا، ومع ذلك لم يكونوا أخذوه عن مدرسين كما هو العمل في تعلم الطب العصري ويعرف بهذا الفن بعمان كثيرون، كما أنه يجهله من علماء الطب العصري كثيرون، وإن تعاطوه لم ينجحوا فيه”.
ولأن الشرح يطول والشواهد تتزاحم كي يسطر عنها في المقالات والبحوث، فقد أقام النادي الثقافي ندوته الطبية الافتراضية عن: “التراث الطبي في عُمان”، شارك فيها: الدكتور ناصر بن حماد العزري، والدكتور خلفان بن زهران الحجي، والدكتورة أمل بنت سيف الخضورية، وأدار الندوة: الباحث يونس بن جميل النعماني. وقد تحدث المشاركون عن التراث الطبي في عُمان بإسهابٍ سلَّط الضوء على الإرث العماني الكبير في مجال الطب، كل هذه التفاصيل التي التقتها أذني في الندوة الافتراضية جعلتني أفكر مليًا في استثمار هذه المعلومات التاريخية الشيّقة؛ والكتابة عنها دراميًا لتصل إلى المستمع والمشاهد العماني والعربي بشكل أكثر اتساعًا.