الخاوة الحكومية: شراكة قسريّة في المنظومة الأمنيّة الإسرائيلية

أمير مخّول | فلسطين

للرسام ويليام كلارك وونتنر 1930-1857.

رُويدًا رُويدًا، تعيد الدولة استحداث عدد من أدوات الحكم العسكري، الذي انتهى رسميا عام 1966. لم يكن الإلغاء في حينه دفعة واحدة، ففي كل مرّة أبطلت منظومة منه، كان ذلك فقط بعد بلورة الدولة منظومة بديلة تحقق غاياتها بأدوات تبدو مدنية، كما أبقت على أنظمة الطوارئ الأمنيّة والمدنيّة، بل طوّرت قدراتها من خلال الإبقاء على حالة الطوارئ ومنظومتها.

ليس هذا النهج جديدًا، ورغم عدم انكشاف غالبية الوثائق المؤرشفة وتمديد سريتها لغاية العام 2063 قابلة للتمديد، فما هو متوفر منها ومن أبحاث عنها، يؤكّد أنّ تعامل الدولة مع بقاء فلسطينيين في حدود سيطرتها، حدث من باب “الخطأ” الذي ينبغي تصحيحه. كانت إحدى أهمّ محطّات السعي إلى “تصحيحه”، أي التخلّص منهم، هي مجزرة كفر قاسم، الجرح المفتوح في وجدان الوطن والشعب والتي نقف اليوم عشية ذكراها السنوية الخامسة والستين. وإن كانت المجزرة قد وضعت حدًّا لطموح المشروع الصهيوني المباشر بالتهجير وبإمكانية طرد من بقوا في الوطن، فقد حفّز الأمر إلى البدء باستبدال الأدوات واعتماد منظومات الضبط والرقابة متعدّدة الأذرع والمتكاملة وطويلة الأمد.

لعبت إسرائيل – ولا تزال – على عامل الوقت في إستراتيجياتها الساعية للضبط وهندسة أنماط تفكير وسلوك الجماهير العربية الفلسطينية، وذلك ضمن مخططاتها تجاه مجمل الشعب الفلسطيني. في حين تمهّد لسياساتها العليا بهدوء إلى أن تحين لها فرصة لتحقيق غاياتها. كما من شأن عامل الرهان على الوقت أن يضمن التآكل في قوة موقف الجمهور المستهدف وتراخي جهوزيته. ومن الأمثلة على أثر السياسات طويلة الأمد، بالإمكان الإشارة إلى أثر قرار وزارة المالية، برئاسة نتنياهو، في ظل حكومة شارون، والتي قضت بتقليص جوهري في مخصصات التأمين الوطني للأولاد دون سن الثامنة عشرة. اندلعت احتجاجات ثم هدأت واعتاد الناس عليها. بمرور عقد على تطبيق هذه السياسة “المدنية”، حصل تراجع جوهري في نسبة الولادة بين العرب حسب معطيات بنك إسرائيل، بينما اعتبرت ذلك مؤسسات الأمن القومي بأنه إنجاز جوهري في سياق “السياسة الديمغرافية”. المثال الآخر هو نقل إسرائيل، بعد قيام السلطة الفلسطينية، الآلاف من الفلسطينيين عملاء الاحتلال من الضفة الغربية وغزة إلى الداخل، وتحت إشراف ومسؤولية وزارة الأمن. كان هناك رفض جماهيري شعبي وسياسي واسع وحقيقي. مع مرور الوقت، جرى تغيير أسماء عائلات غالبية هؤلاء وإلحاق أولادهم بالمدارس بداية في المدن الساحلية والمختلطة، ثم توسّع إلى بلدات أخرى، وهدأت ردود الفعل. حين نتحدث اليوم عن عالم الجريمة وتجارة السلاح والخاوة والعاملين لدى عصابات الإجرام المنظّم لتنفيذ القتل والابتزاز، فهناك علاقة مباشرة بين الأمرين. بالإضافة إلى ما ذكر، هناك عامل لم يُلتفَت إليه أثناء حصوله، لكنّه أيضًا كبير الأثر اليوم، وهو الخطة الحكومية الفعلية قبل عقد من الزمن، بمحاربة الجريمة المنظمة في البلدات والمدن اليهودية في مركز البلاد ودفعها نحو البلدات العربية الفلسطينية أو الأحياء العربية في المدن الساحلية. واعتبرت في حينه أنّ استفحال الجريمة في المجتمع اليهودي وبالذات في مدينة مثل اللد، هو مسألة أمن قومي بمفهوم أنها ستدفع اليهود إلى الهجرة من البلاد أو هجرة هذه المدن، وبالتالي سيتغيّر الطابع الديمغرافي لهذه المناطق في حال سكن العرب فيها. بينما اليوم ترسّخت منظومة الجريمة في بلداتنا وتجمعاتنا.

أنظمة طوارئ كورونا: تنتهي كورونا ونبقى مع الأنظمة

تسنّى لي أن أتابع، عن كثب، تقارير مركز “عدالة” حول أنظمة طوارئ كورونا، وهو تقرير أعدته المحامية ميسانة موراني وطاقم المركز. ويتحدّث عن المرحلة الأولى من الجائحة وإعلان حالة الطوارئ الصحية المدنية، ويعالج تعاطي المحكمة العليا الإسرائيلية مع الالتماسات المقدمة لها والخروقات الفاضحة من قبل الدولة لقوانينها، وبالطبع لمعايير القانون الدولي وحقوق الإنسان. يشبه التقرير لعبة البازل (التركيب) حين تكون بدرجة صعوبة عالية، في البداية لا يعرف المرء بالضرورة من أين يبدأ وما هي الصورة، ورويدا رويدا تأخذ شكلها الذي لا ينتهي إلا بالمرحلة الأخيرة لتظهر الصورة بكامل معالمها.

أظهر التقرير، وهو يشكّل مسحا هو الأوسع للالتماسات المقدمة، أنّ المحكمة العليا شكّلت في نهاية المطاف الأداة الأكثر نجاعة للدولة في تبرير وقوننة خروقاتها، وحين لم تستطع المحكمة ذلك، أمهَلت الدولة الوقت لتعود الأخيرة بتشريع ما قامت به من تفعيل أنظمة بشكل غير قانوني. وإذا تعثّرت هذه المهمة، أيضًا، تُرجئ البتّ في الالتماسات إلى حين تصبح غير راهنيّة. وفي مجمل الحالات تم ردّ الالتماسات.

تحت إطار أنظمة الطوارئ الصحيّة، دخلت الدولة إلى الحيّز الذي لا يتوجب على الدول أن تكون فيه في حياة الناس، مثل التعقّب. وفي المقابل، أهملت مساحات من الحيز الذي من دورها الأساسي القيام به، وأحد الأمثلة هو عدم منالية التطعيمات في القرى غير المعترف بها في النقب. كما قامت بما يشبه عملية تسلّل أقرب إلى العدوان غير المعلن، في عمليات غير مألوفة، مثل تموضع جنود الجبهة الداخلية في القرى والمدن والتجمعات العربية، وتطبيع هذا التواجد، إضافة إلى إناطة مهام بجهاز الأمن العام (“الشاباك”) في تعقّب حركة الناس. وفي بعض الحالات، القيام بوضع حواجز وإغلاق عدد من هذه القرى والبلدات، إضافة إلى زرع الكاميرات وأجهزة الرقابة في ساحات التجمعات العربية وشوارعها. وكل هذه المنظومة تم تفعيلها بشكل متكامل فقط في السعي لقمع هبة الكرامة في أيار/ مايو الأخير، وجرى اعتماد مخطّطات لزيادة نفوذ الجيش والوحدات الخاصة والمستعربين في أيّة مواجهة مستقبلية ودون الاعتماد على الشرطة وحدها، وفوق ذلك ليس تنشيط “الشاباك” دائم الحضور، وإنما في شرعنة وتطبيع دوره بين هذا الجمهور، وتحميل هذا الجمهور جزءًا من المسؤولية عن تدخل “الشاباك”. ليبلغ الأمر في هذه الأيّام إجراء تدريبات عسكرية إسرائيلية في أم الفحم و”احتلالها”، وكذلك بتوجيه كتيبتين من الجيش تعملان في الضفة إلى النقب تحت مسمى “محاربة الجريمة” بعد التحريض الرسمي والإعلامي الدموي على الوجود العربي الفلسطيني في النقب، وكتيبتين أخريين إلى القدس تحت نفس المسمى، بينما القصد هو قمع المظاهرات ضد الاحتلال. وكذلك تخويل الشرطة بصلاحيات إدارية دون مرجعيات.

تقوم عقيدة كلٍّ من الجيش و”الشاباك” على التعاطي مع العدو والإيقاع به ورصده وتوقع مناحيه ومستقبله، والانتصار عليه. ليست أجهزة نظام عام، وإنّما أجهزة أمن قومي مقابل العدو. فالدولة ترفض الإعلان رسميا عن فلسطينيي الداخل كعدو، لأنها في ذلك تتنازل عن سيادتها من منطلقها. في حين تتعامل جوهريا كذلك ضمن مجمل سياساتها تجاه الشعب الفلسطيني.

في الأعوام الأخيرة، ومع تعاظم الوزن السياسي للفلسطينيين العرب في الداخل، فَرضَ هذا التعاظم الاعتراف بدورهم، لكن ليس من باب الاعتراف الإيجابي ولا الشرعية وإنما من باب العقبة أمام التوازنات السياسية الإسرائيلية ذاتها، وانعكس في تعثّر إمكانيّات تشكيل ائتلاف حكومي بسبب هذا الوزن الذي أخلّ بالتوازنات الإسرائيلية الصهيونية التقليدية. بل اعتبرتها المؤسسة الصهيونية الحاكمة فائض قوة غير مقبول.

نقطة ضوء وبارقة أمل؟

مع النشر عن “الخطة الحكومية” لمكافحة الجريمة، بدأت تخرج أصوات عربية تبارك الحكومة، ولا أقصد فقط أعضاء الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، بل وتؤكد أنّها “نقطة ضوء” و”بارقة أمل”، و”واعدة تحمل بشرى”، هذا كله على الرغم من عدم وجود أيّة مؤشرات لتحسن بالوضع القائم على الأرض الدامية. في الحكومة والإعلام الإسرائيليين يتحدّثون بنشوة الانتصار، لكن القتل يتسارع على الأرض.

على الرغم من الضعف الذي لازم الحركة السياسية، وفي أساس ذلك فقدان القدرة على القضاء على الجريمة والسلاح، وهي أمور لا يستطيع القيام بها قانونيا وعملياتيا إلّا الدول، لكن في حالتنا فالدولة متورطة وتسعى إلى إخضاعنا لحلولها، وتدفيعنا خاوة أخلاقية سياسية مقابل الحصول على حقنا في الأمان. ينبغي، أيضًا، الالتفات إلى أنّ هناك نجاحًا كبيرا في كون الدولة باتت لا تستطيع تجاهل مسألة الجريمة المنظمة والقتل والسلاح في المجتمع الفلسطيني في الداخل، فالنضال الشعبي المتواصل والتصعيدي، بما فيه المسعى السياسي لنقل الاحتجاج إلى المجتمع الإسرائيلي ليس كنداء أو استعطاف، بل لتعطيل المرافق الإسرائيلية العامة، فقد نجحت جماهير شعبنا في لفت الأنظار إلى مسألة الجريمة وفي الضغط على الدولة ومؤسساتها وشرطتها لتقوم بدورها الملزم. في المقابل، فإنّ تورط الدولة وأجهزتها الاستخباراتية في تعاملها مع الجريمة، يتضح الآن أنّه سوق للسلاح يرتد عليها..

عن أخطار إشغالنا في بلورة الحلول

ما قد يبدو سعيا من الدولة لإشراكنا في بلورة الحلول بتفاصيلها، يعني تحميلنا المسؤولية ليس على دورنا الداخلي كمجتمع، بل تجاه المنظومة الأمنية التي ستنفذ خطتها، والتي لن تكون منظومة مؤقّتة، بل ثابتة وذات بنية متكاملة مقبولة وطبيعية على الضحية لتعزيز الرقابة والضبط الأمنيَّين والسياسييَّن عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى